صندوق الكلب
رياض الأسدي
ملاحظة غير مهمة
في الأصل كان (صندوق الكلب) بضعة وريقات غير متكاملة تطايرت بفعل انفجار قريب، وكان بإمكان الريح أن تأخذها إلى جبل قمامة قريب، لكن الريح التي تجيد القرأة والكتابة والغناء احتفظت بها؛ الريح وحدها وليس أي مخلوق آخر. كانت تلك الوريقات مكبوسة بلا اعتناء بدبوس قديم من بقايا زمن الحصار وقد ظهرت عليه نقاط صدأ واضحة.
المشهد رقم (5)
المكان: صندوق مقفل بإحكام من ذلك النوع الذي كانت يستخدم في محاكم التفتيش في عهد البابا أوربان الثاني لانتزاع الاعترافات من الهراطقة. يمكن التركيز بكاميرا زوووم على نقوش القفل المذهبة (صوت كمان وحيد خافت) يفتح الصندوق ويطل منه رأس إنسان.
الزمان: ليلا بالقرب من ساحة معركة (صوت خيول نافقة توا) يمكن مشاهدة جانبا مبهما من الصندوق لكن يصعب التأكد من كونه هو الصندوق المتعلق بالاعترافات. صوت بشري غريب من داخل الصندوق مع ضؤ خافت شبه مزرق يظهر من حين لآخر لغرض الإثارة: لا أظن يوجد ثمة بحر ما هنا. البحار لا علاقة لها بما أنا فيه؛ لكنه شيء ما مثل بحر: هذه الكلمة هي الأقرب وهي غير صحيحة. لما تخلق البحور بعد هذا أكيد: البحر كلمة للتعريف به فقط. البحر مؤنث أم مذكر؟ أكيد مؤنث! لا احد شاهد بحرا من قبل أو وضع قدميه على شاطئه وتحسس الموجات القادمة من لا مكان. البتة. وكل ما قيل عن البحر هو هرطقات شعراء لم يجربوه كأنثى أبدا. بالنسبة لي لا أعلن ذلك لإثارة شيء ما ضد مفاهيم احد؛ فقد تأكدت بنفسي إن تلك السفن تسير على اليابسة والزيّاتون الأرمن العاملون بزيت الحيتان يضعون ما يكفي تحت جذوع الأشجار لتسير عليها السفن إلى بحر القسطنطينية المسورة بعناد تاريخي هي الحقيقة الوحيدة التي أعرفها عن السيدة البحر.
مشهد جانبي منفصل بلا ترقيم
ألقيت عنوة، صارخا، بوجه العالم، مثل مولود جديد, لكني لم أولد بعد: هذا أكيد. حقيقي. كم من الوقت أفنيته في ذلك المكان ليس مهما الآن/ لا لا يمكن أن يكون مكانا حتى في الجحيم يوجد فيه ثمة فسحة ما حتما. ثمة ما هو أسوأ من الجحيم دائما - إنه حالة ما غير مسجلة- كلا! حتى الحالة يمكن وصفها أيضا. هو اللاشيء أو العدم في أكثر التقديرات العقلانية الممكنة: كان من الصعب الجلوس أو القرفصة أو التمدد فأنت متقوس دائما ويمكنك الصراخ .. للصراخ في هذه الوضعية أهمية كبرى منذ الولادة حتى الوصول إلى هذا المكان: من الصعب التأكد من إني كنت مولودا.. منذ البداية.. لكنه يصبح غير ذي معنى بعد مرور وقت(ما)/ كم الساعة الآن؟! هييييييي تأكدت الآن من مخلوقيتي! يا له من سؤال محير: يا ست أديش الساعة! تماما مثلما هو السؤال: لم خلقت أنا هنا في هذا المكان وفي هذا الزمان دون غيري؟! ربما من الأفضل أن لا أسأل كثيرا هذا النوع من الأسئلة، لكنها مناسبة للصراخ في هذا المكان أكثر من أي مكان أخر: لماذا يحدث كل ذلك لنا يا ألله؟! وأية حكمة بالغة لك سبحانك في هذه الوضعية؟ لقد أفنى المصممون الأذكياء بالتعاون مع أطباء نفسيين وعلماء بايوبوجيا وضباط استخبارات متمكنين أياما طوال في رسم هذه الهندسة المعذبة على نحو دقيق/ لا من الصعب أن نصفها بالمعذبة إلا في اللحظات الأولى لكننا يمكننا أن نصفها بالبعد الطائر الآن: اجل الطائر بكل شيء. شكرا للحكمة الإلهية من الخلق، شكرا لرسالات الأنبياء المضحين بأجسادهم وأرواحهم من اجلنا. هذا الصندوق لا يناسبني. ماذا فعلت ومن أعطى الأمر في تعذيبي؟
المشهد رقم (22)
أقدام عارية تركض على صحراء خالية من الصعب التأكد من هويتها لكن الأصوات المتقطعة المنبعثة من هنا وهناك توحي ب أنها لجنود مهزومين.
المشهد رقم (60)
المكان: بالقرب قصر يظهر جانبا منه وقد قضمه تفجير صاروخ (كروز) أطلق من البحر الأحمر توا ولم يستغرق وصوله إلا دقائق.
الزمان: نهارا من منتصف تموز لاهب مشبع بالرطوبة. الأطفال يحيطون بعربة يجرها حصان هرم واحد عاش من العصور الوسطى وشارك في فتح القسطنطينية عام 1453 يسير الشاعر الذي ينظم القريض وهو يحمل قرص خبز من نوع (التفتوني) وهو يحاول المدح.. فيخونه لسانه.. لكن (محمد الفاتح) الذي يظهر في جانب أخر آمرا جيشه بسحب السفن على البر لا يكترث لمن يحاول المدح لكن عينيه تزوغان بعيدا بعيدا، فيسير الشاعر منكسرا بعد أن اكتشف فداحة خلقه شاعرا في هذا العالم الصعب حتى يجلس بجانب العربة ويبكي بصوت مكتوم يشبه عواء كلب إلى حدّ بعيد
محمد الفاتح (منشرحاً): هل ثلم السور؟
أحد القادة بصوت أجش: أجل يا سيدي..
محمد الفاتح ( غاضبا) ماذا تنتظرون أيها الأورطائيون اهجموا!
( صوت كلب يعوي قريبا يثير السلطان محمد الفاتح لكنه لا يبدي اهتماما به)
أصوات من كلّ مكان: الللللله اكبر الللللله اكبر!ماذا لديك اليوم لتمدحني به؟
الشاعر (بثقة وخيلاء): الللله اكبر!
محمد الفاتح ( يلتفت إلى صاحب الصوت): من هذا؟
الشاعر: شاعر من بغداد!
محمد الفاتح: أين (يقع) هذا؟
الشاعر: في العراق يا سلطان!
محمد الفاتح: أين يقع (الأراك) هذا؟!
الشاعر: بلاد ما بين النهرين يا مولاي: ألم تسمع بها من قبل؟ لدي ما لم يأت به أحد من قبل ومن بعد!
محمد الفاتح: (يصفق بيديه) أسمعنا شيئا إذن أيها النبوئي!
الشاعر: أنا لا اكتب القريض ولا الموزون!
محمد الفاتح: ماذا تكتب إذا أيها..
الشاعر: شاعر شاعر! أكتب شعرا منثورا حديثا!
محمد الفاتح: أسمعنا.. أسمعنا
الشاعر: أما أنت أيها الالق الآن ستكون محض دخان.. دخان معركة خاسرة في النهاية وسيطلق عليك النار!
محمد الفاتح: ما أسمك يا هذا؟
الشاعر: لا ادري والله، ليس مهما أسمي الآن يا سيدي، المهم: شعري فأنا الشاعر العراقي الأخير!
محمد الفاتح: أدب يوك! أرجعوه إلى الصندوق!
الشاعر: يجول بعينيه بين الحضور بحثا عن وجه معين وحينما يعجز في ذلك يأخذ بالإنشاد بتلعثم ظاهر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم! ثم يتوقف قليلا ليعاود البكاء ( يصرخ رجل وحيد من بعيد: ستوب! أنت شنو من أين جيء بك؟ هذا خارج النص)
المشهد رقم (70)
يظهر محمد الفاتح نفسه بثياب عسكرية معاصرة وخوذة منخوبة وهو يسحب خلفه بندقية برن ألمانية من العيار المتوسط، كان يسير على طول طريق ممشطة حيث تظهر آثار معارك سابقة وعدد كبير الجثث المتناثرة.
الجندي: ( متعب ومرهق كمن يحاول استدراك ما حدث) سيدي! أنت وحدك .. أخيرا.
محمد الفاتح: وحدي كما ترى.. من أي تشكيل أنت؟
الجندي: من جنود الاحتياط يا سيدي
محمد الفاتح: هل بقيت وحدك في المعركة؟
الجندي: كلا يا سيدي فقد فرّ الجميع!
محمد الفاتح: الجميع!؟
الجندي: الجميع!!
محمد الفاتح: ولم لم تفر أنت أيضا أيها الولد!؟
الجندي: وما نفع الفرار؟
محمد الفاتح: لتنقذ نفسك من الموت!
الجندي: كم أنت واهم يا سيدي .. لم يعد ثمة هارب فقد أعدمك الجميع سرايا الإعدام
محمد الفاتح: أنا لم آمر بوجود هذه السرايا المزعومة
الجندي: علينا!!
محمد الفاتح: احترم أيها الجندي لا زلت آمرك الأعلى!
الجندي (ضاحكا بصوت عال) د.. طِرْ!! عباله سلطان من صدك
وحينما يغادر محمد الفاتح مواصلا طريقه وسط الضباب والدخان يسمع صوت عيار ناري حيث يخر صريعا.
المشهد رقم(77)
كتب على وريقات صغيرات (صندوق الكلب) بخط قلم رصاص غليظ نسبيا, ورحن يتعابثن وسط أزقة مختلفة لمدينة قديمة تبدو أنها قد تعرضت إلى ضربة نووية أو ضربة بيئية أو بيولوجية لم يتم التأكد بعد.
سيرة الدكتور رياض الأسدي
· ولد في البصرة عام 1954
· تخرّج في كلية التربية ـ جامعة بغداد عام من قسم التاريخ عام 1978
· حصل على الماجستير من كلية الآداب ـ قسم التاريخ عام 1988 وعنوان رسالته" تطورات عمان الداخلية وعلاقاتها الخارجية1857- 1888 م " نالت درجة جيد جدا
· حصل على الدكتوراه عام 2002 من جامعة البصرة ـ كلية الآداب ـ قسم التاريخ وعنوان رسالته "سياسة التحديث في عمان 1970ـ1981 دراسة تاريخية " نالت درجة جيد جدا
من منشوراته:
· رواية بوابة البحر، حازت على الجائزة الأولى، بغداد 1985
· رواية لغات عائشة، بغداد 2003
· اليوم السابع للريح، مجموعة قصصية، بغداد 1988
· نشر بحوثه في الدوريات العراقية والعربية والمواقع الالكترونية
· نشر أعماله في معظم الجرائد والمجلات العراقية والعربية
· عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين
· عضو اتحاد كتاب الانترنيت العرب
· عضو منظمة كتاب بلا حدود