التمثال

محمد حسن فقيه

[email protected]

كأنما حال الدنيا قد تغير بين عشية و ضحاها، فالشوارع المهملة المكتظة بالأوساخ والقمامات بدأت تكنس وتنظف وترش بالماء صباح مساء ، الأشجار الذابلة والمتيبسة وسط الشوارع العريضة، بدأت تقلم وتشذب وتروى لتعاد إليها الحياة ، الطرق المحفرة والمخربة بدأت تعبد وترمم من جديد .

وزعت المنشورات .. ألصقت الإعلانات ... كنست الشوارع ...نورت الطرقات.. نظفت الأحياء... طليت واجهات المحلات... رتبت أرصفتها ، رفعت الأعلام... لصقت الصور... علقت الشعارات...وسائل الزينة والاحتفالات عمت المدينة بأسرها... زخرفت الدنيا بأضواء متلألئة تتراقص من كل الألوان .

ولو عرف السبب لبطل العجب... فلم لا يكون كل هذا ما دام مسلسل الاحتفال بذكرى تأسيس الحزب الحاكم قد بدأ.

واعجبا!...

إن الأمين العام للحزب الحاكم ، قد كان في حزب مناوئ يوم أسس الحزب الحاكم ، ولكن يا للأقدار كيف تجري .

كان يظن أولئك أن المستقبل سيكون لذلك الحزب المناوئ الذي اندثر أمره ، وانطفأ ذكره ، لكن الأمور تجري بغير التوقعات ، وتطيش التكهنات ، وتخيب الظنون ، وينتقل الرجل إلى الحزب الجديد بحسب التعليمات الجديدة ، ثم يرتقي تدريجيا.... ثم يقفز قفزات مذهلة في سلم الدرجات الحزبية ، مما يروع مؤسسيه الأصليين، لكن ليست باليد حيلة فهناك ما هو أكبر منهم يثبته ويدعمه ويحركه من درجة إلى أعلى....فهو الأكفأ والأجدر، وهو الألمعي اللماح ، الذي ينفذ ما يدور برؤوس السادة قبل أن تصدر الأوامر، بل ربما كان التنفيذ بدراية وإتقان أكثر مما يحلم به السادة أنفسهم.... فهو"البيدق"الملهم !

لم يكن هذا الاحتفال جديدا على الشعب المدجن ، فقد أعتاد الشعب على مسلسل الاحتفالات ‍كل عام ، في الشارع والمذياع والتلفاز.

لكن النفحة الجديدة التي أضيفت إلى المسلسل هذا العام بالذات : كانت نفحة التمثال ، تلك الفكرة الملهمة ، التي همس بها أحد المقربين في أذن الأمين العام فانتشت إليها نفسه ، وغمرته سعادة طاغية ، فإن فيها الخلود الأبدي لذكراه كقائد ملهم عظيم يصنف تحت قائمة"الخالدين في الحياة".

وصدر القرار إلى اللجنة العليا للاحتفالات بتوزيع نصب تذكارية لتمثال الحاكم ،الأمين العام للحزب، القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ، الرفيق المناضل، ملهم الأمة، زعيم العروبة ، رئيس الجمهورية ،المشير...في العاصمة والمدن وجميع القرى التي فيها مراكز للحكومة ، ووزع الأمر من اللجنة العليا إلى اللجان الفرعية ، ومن اللجان الفرعية إلى اللجان المتفرعة في المدن الصغيرة والقرى ومنها إلى الشركات....فالمقاولين... فالمشرفين وأخيرا إلى العمال .

ولم يكن عمل هؤلاء بالطبع هو صناعة التمثال ، فان القالب سيأتي جاهزا إلى اللجنة العليا من الخارج ، إذ تم التعاقد عليه مع شركة أجنبية....لكن عمل أولئك هو ما سيلزم من ترتيبات : قواعد رخامية...حدائق...مقاعد خشبية ... زينة ... أضواء...أسوار..

نوا فير.....

احتشد الناس لتدشين التمثال البرونزي العملاق وسط ساحة الاحتفالات في العاصمة ، ولما كشف عن الغطاء ، وقف الناس مشدوهين مبهورين... لقد كان التمثال عملاقا ، شامخا منتصبا مرتفعا...يتطلع إلى الناس من عل.

همس أحدهم في أذن زميله وسط التصفيق والتهليل والصفير: أنظر إن قدميه فوق رؤوس الشعب!

أجاب زميله وهو ينظر حوله بحذر:تقصد أن الشعب مسحوق تحت قدميه

- ولكن أنظر إلى رأسه ما أكبره !

- هذا يدل على عقله الكبير ومستوى تفكيره.....إن عقله يساوي ألف دماغ من أدمغتنا .

- أنه مجرد رمز فقط...لا تنظر للأمور بحرفيتها ...إنه يفكر للدولة كلها .

- أنظر انه يستطيع أن يرفع أضخم شخص من الشعب بين إصبعيه...ويخنقه !

- سامحك الله ...إنه يخنق الشعب كله حقيقة .

كانت نظرات الناس مختلفة التحليل متباينة التفسير لنظرات التمثال.

-أنظر إلى قسمات وجهه كيف ارتسمت عليه علامات الزعامة... والبطولة... إنه الملهم!

- أنظر إلى تقاطيع وجهه كيف طبعت عليه سمة الإجرام، والشر يتنزى منه.... إنه وجه مجرم متمرس سفاح.

- أنظر إلى هيئته كأنما هو برجوازي ورثها كابرا عن كابر ابن ال ....

- أنظر ما أجمل محياه وألطفه... كم هو أليف...كأنما هو كازانوفا!

-أنظر إلى ملامحه... إنه صارم جاد...متألم لواقع أمتنا التعيس إني أرى في نظرته عزما وتصميما على تحرير فلسطين .

سامحك الله... إنه حاقد على الشعب ساخط عليه ..نادم لأنه لم يستطع بيع كل ما يرغب به علانية من أرض الوطن .

انطلقت العيارات النارية والطلقات الخطاطة لترسم لوحات جميلة وبديعة في السماء ...ثم بدأت الألعاب النارية لتشكل لوحات

متعددة الألوان متداخلة...في قبة السماء ، فتحيل الظلمة الحالكة إلى نهار ونور ساطع .

رقصات الفرح ...زغاريد الابتهاج ، إعلان الولاء ...الدجل والنفاق كانت في كل مدينة ، وملأت كل ساحة ، وعلى ألسنة كل الشعب المنحوس .

تذكر كلمات الرئيس في خطابه الأخير حول استيراد المواد الغذائية :"نحن بأمس الحاجة إلى كل فلس لبناء الوطن....لا نريد كماليات ..لا نريد ترفا ..لا نريد تبذيرا وإسرافا...لا مكان للمتخمين في بلادنا ...نحن شعب مناضل مكابد ...مكافح ومنافح ...حي ومعطاء ..نحن من الشعب والى الشعب ونسكن في قصر الشعب".

همس أحدهم في أذن جاره : "والويل الويل لمن يقترب من قصر الشعب ، أو يمسك متلبسا ينظر نحوه بمنظار ولو من بعيد".

إن الصور، والملصقات ، والشعارات ، والصنم ،...كلها ضروريات للحياة ولا يمكن لدولة أن تنهض بدونها...أما المواد الغذائية فتبا لها من كماليات وتبا للمتخمين الذين يطالبون بها ...كم هم مبذرون و مسرفون بأموال الشعب.

- ملثمون: رموا التمثال بالقاذورات ....و القمامة.

- مجهولون : قذفوه بالحجارة.

- وضعوا فوق رأسه حذاء تتويجا له.

- أطلقوا الرصاص على رأسه فأصابوا عينه.

- علقوا بيده عظمة كلب.

- رسموا على ذراعه جمجمة وعظاما وكتبوا تحتها "خطر الموت"

- ألصقوا على صدره لوحة كتب عليها:"الموت للعملاء والدجالين"

- علقوا مسجلة في رقبته تصدح بمكبر صوت".

سوف أسحق عظامكم ، وأنهب أموالكم ، وأقتل ذراريكم وأقطع نسلكم"سوف ألجم ألسنتكم ، أكم أفواهكم ، وأعمي أبصاركم ، وأدوسكم تحت قدمي أيها العبيد".

شكلوا حرسا للتمثال...أمام كل تمثال غرفة للحرس ، ولكل مدينة مبنى لمراكز الحرس في المحافظة... وفي العاصمة الهيئة العليا لحراسة التمثال كان اسمها هيئة عليا فعلا ، لكنها كانت حقيقة أكبر من مبنى وزارة التربية أو الصحة ... وعدد كادرها الإداري أكبر من كادر وزارة الإعلام أو الاقتصاد..

وما يرصد لها من مرتبات ومكافآت وعلاوات..وبدل صيانة.. وترميمات... للغرف والتمثال وما يتبعهما أكثر من وزارة .

كان الأجدر بهم أن يسموها وزارة الحرس.

لم يمض على الاحتفال أشهر ، بل هي أسابيع معدودة لتفاجئ الناس الأخبار في المذياع والتلفاز...وبعدها في الصحف المحلية والخارجية ، كتب عليها في رأس الصفحة وبالخط العريض : "توفي القائد الملهم إثر أزمة قلبية شديدة مفاجئة ألمت به ليلة الأمس".

لكن الغريب أن الصحف الخارجية التي دخلت البلاد على علم وسمع ومرأى من الرقابة كتبت :

"لقد تخلصت قيادة الحزب من الدكتاتور".........

"انتهى عهد الطاغية ، سقط عبد الذات...رمز الأنانية ، عاشق الزعامة...ومجنون الدولار".

" إن من يسحق الشعب يحفر قبره بيديه ".

" لكل ظالم يوم مهما بعد "

" لكل جبار ساعة غرغرة "

ومن تلك العبارات كيف تدخل كل هذه الصحف؟ ويسمح لكل تلك المقالات ، وبالأمس كانت تمنع مجلة شهرية كاملة من

الدخول لأجل تنويه بإشارة أو اعتراض على كلمة...أو كاريكاتير...أو خبر...أو تعليق أو مجرد كلمة غير مناسبة.

أما الإذاعات الأجنبية فقد ذكرت أكثر من تحليل حول الأمر :

" دس له نائبه السم ليستولي على الحكم من بعده"

" رأت الشلة التي حوله طيشا وتهورا..فقرروا إيكال الأمر لمن هو أكثر اتزانا "

" تخلص منه أنصاره بعد أن أدى به جنون العظمة ، إلى احتقارهم وتجاهل دورهم في تثبيته ".

- إذاعة معارضة من دولة مجاورة ذكرت : " إن أمريكا أرادت تغيير الوجه بعد أن سقط أمام الرأي العام الشعبي والعالمي ... مع أن كلا الزعيمين ....الجديد والمرحوم ..ما هما إلا وجهان لعملة واحدة "

- إذاعة أجنبية كشفت عن رصيده بمليارات الدولارات في بنوك سويسرا وغيرها...

- صحيفة معارضة كشفت عن ميزانية الاحتفالات الأخيرة مجدولة تبدأ بتكاليف التمثال في رأس القائمة " مائتي مليون دولار فقط وانتهاء بهدايا وهبات قيمتها خمسين مليون دولار ".

وبتكلفة إجمالية قدرها تسعمائة وخمسين مليون دولار فقط لا غير.

- كشفت صحيفة أجنبية تهتم بالفضائح الأخلاقية ...عن شذوذ الملهم وأرفقت مع المقال بعض الصور .

انقلب حال .. الناس .. والصحف...والإعلام... والدنيا بين الأمس واليوم.

- الذين حملوا صور الملهم بالأمس وهتفوا له ...مزقوها اليوم وأحرقوها.

- الصحف التي تكلمت عن الديمقراطية والحرية والمنجزات الثورية ونزاهة الحاكم تكتب اليوم عن الدكتاتورية والتعسف..

والمحسوبيات ...ونهب أموال الشعب المسكين.

- إن الذين كتبوا عن عصر الحرية ...يكتبون اليوم عن عصر العبودية.

- إن الذين وضعوا له إكليل ا لغار فوق جبينه...اليوم ينثرون الشوك فوق قبره .