الغريب
محمد حسن فقيه
فتح له الباب الكبير ببطء ممل وهو يصدر صوت صرير ثقيل ، دفعه الحارس من بين كتفيه بقوة ، هيا أخرج لا ردك الله ولا أراني وجهك الكئيب مرة أخرى ، لم يلق بالا أو يعر انتباها لتلك الدفعة ولا ذاك المديح والكلام الناعم ، وما إن أغلق الباب خلفه التفت الى الوراء قليلا وهو يردد في سره بصوت تسمع همساته ولا تتحقق من معانيه : لا أراني الله وجوهكم الكالحة بعد اليوم ، غير مأسوف عليكم بل كل الفرحة والنعيم في الخلاص منكم ......سحب نفسا عميقا يملأ رئتيه بالهواء كأنه لم يفعل ذلك منذ أمد بعيد ، تشهد في سره ، تمتمت شفتاه تلهجان : الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود.
من سنوات طويلة لم يتمكن من مشاهدة سعة الكون الفسيح من حوله ، لم يكن باستطاعته أن يمد بصره بما حوله دون أن يصطدم بجدران زنزانته العفنة ، حتى في ساعة الفسحة ، كانت جدران الأسوار العالية تمثل حاجزا أو سدا منيعا بين الداخل والخارج ، إنها حدود حقيقية تفصل بين عالمين مختلفين كل الإختلاف ، إنها ليست مجرد أسوار حماية بل هي أسوار تفصل بين حضارات وثقافات ومدنية ، تفصل بين عالم الأرض وعالم القاع ، وما أدراك ما عالم القاع ، عالم القاع: عالم النتن والقاذورات ، عالم القهر والكبت ، عالم الظلم والطغيان ، عالم الذل والعبودية ، عالم الرق والهمجية، عالم الأمراض المزمنة والعاهات الدائمة ، عالم الجماد والآدمية المفقودة .
سرح ببصره يجوس رحابة الكون وسعته ، ويملأ عينيه من مناظر الطبيعة الخلابة من حوله ، يدحرج بصره بين الأشجارالخضراء الباسقة والجبال الشماء السامقة وزرقة السماء الصافية والحقول الممتدة بخضرتها اليانعة ، كان يطوف ببصره من زاوية الى أخرى بنهم وشهوة جائع ، هز برأسه وهو يخاطب ذاته سأبيت الليلة بين أهلي وأولادي وتكتحل عيناي برؤيتهم بعد غياب طويل ، يمم مسيره تجاه المحطة ليستقل الحافلة الى قريته ومائة حلم وحلم يراود ذهنه ويطوف في خياله ، تحسس القروش القليلة في جيبه والتي نفحها إياه زملاؤه رفاق العمر الطويل في جامعة الصبر .
اهتدى أخيرا الى المحطة وبعد أن قرأ على اللوحة في مقدمة الحافلة اسم " تل الكروم " ، تلك القرية الكبيرة المحاذية لقريتهم ، صعد الى الحافلة وارتمى على الكرسي بجوار النافذة وهو يسترق النظرالى من حوله لعله يعرف أحدا أو يعرفه أحد من ركاب الحافلة فيقبل عليه ويعانقه ، صحيح أن اللوحة على الحافلة تشير إلى القرية المجاورة لقريته إلا أنها قرية كبيرة يعرفها ويعرف كثيرا من أهلها وهي طريقهم الرئيسي الى المدينة ، ارتد البصر خائبا حسيرا ، فالوجوه مألوفة لكنها غير معروفة بالنسبة إليه ، أما هم - الطرف الآخر - فهم في شغل شاغل عنه ، كل شخص مشغول بنفسه وعمله ومن معه ... هم بسؤال من حوله أو يفتح حديثا ليكون فاتحة تعارف إلا أنه تراجع عن فكرته وآثر الصمت ، ما هي إلا ساعة أو بضع ساعة ويصل الى القرية ، ومنها يكمل مشواره سيرا على الأقدام إلى قريته .
لا يستغرق ذلك منه أكثر من نصف ساعة ليصل بعد ذلك الى قريته بل إلى بيته ويفاجئ الجميع بوصوله إليهم ، حتى الآن لم يدرك السر في انقطاع أخبار أهله عنه وعدم زيارتهم له ، كما كان يسمع عن زيارة بعض إخوانه وزملائه من ذويهم هناك مائة سبب وسبب يمكن أن يحول دون ذلك عندما يختل النظام وتسود الفوضى ، المهم أنه قد أطلق سراحه أخيرا وها هو في طريقه الى بيته بغض النظر عن كل ما قد حل به ومرعليه من فصول نكدة يتمزق لها الفؤاد حرقة وألما كلما ذكر بعضا منها
- أرجوك أبعد هذا عني
- لا بأس ... شرط أن تعترف
- أعترف بأمر لم أعمله وما سمعت به إلا هذه اللحظة
- إختر وحدد ما تريد أن يعبث معك هذا الزنجي العاري؟ أم تعترف وتوقع عل هذه الورقة ؟.
- صوت أطيط عال نبهه من شروده وقطع عليه سلسلة ذكريات نكدة تركت في أعماق نفسه كلوما عميقة يصعب أن تمحوها الأيام مهما بعدت.
تنهد في مقعده وأخرج آهة طويلة ، أسند رأسه الى الخلف وأغمض عينيه ، أرجوك أن تسمح لي با لخروج إلى الحمام إن بطني يكاد أن ينفجر لم أعد أحتمل أكثر من ذلك .
- ولم تكلف نفسك عناء الذهاب الى الحمام ، هل يختلف كثيرا عن زنزانتك - أقصد قصرك - هذه كثيرا ، أنظر إليها انها ضيقة ، مظلمة ، مغلقة ، تعج بالرطوبة وتشاركك الحشرات بها ورائحة العفونة تملأ أرجاءها ...كفاك صراخا من يسمعك يظنك مظلوما ، هيا افعلها في حمامك أقصد قصرك عدم - المؤاخذة - وأعرنا هدوءك ...رحم الله تلك الأيام الخالية ، لم يكن على زمن أيام أسلافنا غير لغة السوط والسباب ، فكفاك دلعا يا هذا، هيا افعلها وانه الأمر.
- صحا من شروده بعد أن قطع عليه - المتعة من شريط الذكريات- مساعد السائق وهو يهزه من كتفه ويطالبه بدفع الأجرة ، رفع بصره إليه ، كان شابا في مقتبل العمر ، لعله قريبا من عمر ابنه ، إنه لا يدري بالضبط هل أصبح ابنه شابا كهذا الشاب ، فهو لا يذكر عنه غير صورة أصابها الغبش من طول السنين حتى كادت تمسح وتندثر من ذاكرته وخياله ، صورة من ست عشرة سنة يوم كان عمر ابنه سعيد ثلاث سنوات ، سماه سعيدا تفاؤلا بمستقبل زاهروحياة رغيدة له ولإبنه ..أما بالنسبة إليه فها هي سعادته قد جربها ست عشرة سنة متتالية في تلك الجامعة ...ما أطول الدراسة في تلك الجامعة ، وما أصعب موادها ، وأقسى متطلباتها ، وللأسف فقد خرج منها بعد تلك الحقبة الطويلة من الزمن وليس معه منها غير شهادة العاهات الدائمة ، وشهادة فقر الحال ، إلى جانب شهادة نسج الخرز، ولعل هذه الأخيرة هي الوحيدة التي قد تنفعه في يوم ما ، وأما ابنه ، بكره ووحيده فهو لا يدري عنه شيئا ، لعله يكون سعيدا إن شاء الله .
- ركز معي يا عم الأجرة لو سمحت ، إنك تبدو غريبا كأنك تركب الحافلة لأول مرة .
- أجابه وهو يمد يده إلى جيبه ليخرج الفلوس القليلة التي وهبها له زملاؤه في السجن بعد أن أعلن عن إطلاق سراحه ... نعم يا بني فعلا لم أسافر إلى هذه القرية منذ أمد بعيد ، وبعد أن مد يده بالريالات العشر وبعض الأجزاء النقدية الصغيرة معها .. أجابه الشاب : يا عم الأجرة عشرون ريالا ... ألا تعرف كم الأجرة ؟
- سامحني يا بني فعلا لا أعرف .
- أجاب الشاب وقد بدا يظهر عليه التذمر ... وها قد عرفت الآن
- ليست المشكلة أني عرفت ولكن المشكلة ...
- نظر الشاب يحدق به وهل هناك مشكلة . ..؟.ما هي ؟
- المشكلة يا بني أني لا أحمل غيرها .
- لا تحمل غيرها ...فلم تركب في الحافلة وأنت لا تملك كامل الأجرة ؟
- لأني لم أكن أعرف كامل الأجرة
- ولم لم تسأل ؟
- لأني لم أكن أتوقع أن ترتفع الأجرة كثيرا عن ذلك الزمن الذي كنا نركب فيه من خمسة ريالات إلى عشرين ريالا .
- نظر أليه الشاب بنوع من التهكم ..كأنك تريد أن تقول لي أنك من أصحاب الكهف ! .
- لا يا بني تلك أمة قد خلت ..وإن كان الأمر لا يختلف كثيرا .
- دعك من هذه الفلسفة والترهات وأخرج بقية الأجرة ... وإلا ...
- وإلا ماذا يا بني ؟
- أو تنزل هنا ...ومن ثم دعك من كلمة بني ، فلقد كان والدي مضرب مثل وقدوة في القرية كلها
- أمرك يا فتى ..ولكن أتريد أن تنزلني هنا في وسط الطريق ، بين القرية والمدينة ، بين البر والبحر.
- على قدر أجرتك .
- ولكن يمكن أن أكمل لك الأجرة بعد ان أصل البيت .
- هل هي خطة أخرى لنوصلك إلى باب بيتك أيضا ؟
- وما ذا تريدني أن أفعل ؟
- تنقدني كامل الأجرة .
- هل ينفع قميصي هذا مع الأجرة ؟
- كأنك تسخر مني يا رجل
- والله لا أسخر منك إني أتكلم صادقا وحقا فأنا لا أملك غيره.
- وماذا يساوي قميصك هذا البالي أتريدني أن ألبسه وأضعه على جسدي .
- شكرا لنبلك يا فتى ...فما ترى أن يكون الحل ؟
- الحل عندك والمشكلة مشكلتك في إكمال الأجرة .
- وقد قلت لك لا أحمل فلوسا معي الآن وقد عرضت عليك إكمال الأجرة بعد وصولي إلى البيت .
- أحقا عندك فلوسا في البيت ..بل هل لديك بيت أيها الغريب وأنت على هذه الحالة .
- أكمل عبارتك .... قلها ولا تخجل إنني كالمتسول أليس كذلك ؟ ولكني أقسم لك بأنه كان لدي بيت وفلوس كثيرة.
- رق الشاب قليلا لوضع الغريب فغير حدته قليلا لا تؤاخذني لم أقصد ذلك بل قل لي من أين انت يا عم ؟
- أنا من قرية كفر الدوار
- غريب أمرك يا عم هل أنت من قرية كفر الدوار أم من حولها.... ؟
- وهل أصبحت قرية كفر الدوار كبيرة إلى هذا الحد حتى أكون من حولها ....بل منها يا بني .
- أليس الأمر غريبا يا هذا أن تكون أنت من قرية كفر الدوار ونحن من قرية كفر الدوار، ولا نعرفك ولا تعرفنا ؟ !
- والله إني من قرية كفر الدوار يا بني..... ولكني قادم من سفر طويل .
- تقصد أنك كنت مغتربا تعمل في الخارج .
- لا يا بني كانت غربتي داخل وطني .
- لم يفهم الشاب ما يرمي إليه الغريب فأراد أن يختصر الطريق عليه فابتدره سائلا ومن تعرف منها ومن أي عائلة أنت ..؟
- أعرف أهل القرية كلها وأنا من بيت رشيد .
- حدق الشاب به مستغربا أكثر، والله إن أمرك لغريب حقا أيها الغريب ..أانت من بيت رشيد..؟ أتسخر مني ..؟ أم تهزأ بي ...؟ هل قذف بك أحد علينا ؟
- نعم أنا من بيت رشيد ، ولا أسخر منك ولا أستهزئ بك يا بني معاذ الله .
- صرخ الشاب بعصبية أرجوك أن تكف عن السخرية والإستهزاء بي ...إن كانت كل هذه الألاعيب لأجل الأجرة فسأدفعها من جيبي عنك ، ولكن لا تستغبيني إلى هذا الحد .
- والله إني من بيت رشيد يا بني .