أما في هذا العالم أنبياء؟
أما في هذا العالم أنبياء؟
سعيد عبيد
" صار هذا العالم وسخا، وسخا للغاية".
قالها دون أن يلقي تحية و هو يضع قبعته على المشجب، ثم ألقى بجسده على الكنبة و أنفاسه تتلاحق، و حبيبات العرق تلمع على جبينه و مقدمة رأسه التي زحف عليها الصلع، و شفتاه مزمومتان بامتعاض ظاهر.
جاءت سلمى الصغيرة بمجسم الكرة الأرضية من على المكتب، و أخذت تديرها، و تطيل النظر في جميع جهاتها باهتمام. رفعت عينين صافيتين إلى أبيها، و قالت بإنكار البراءة: " أين الوسخ يا بابا؟ انظر، إنه نقي أنيق"، و أشارت بإصبعها إلى المحيط الهادي، " انظر إلى هذا اللون الأزرق ما أجمله يا بابا!
أراد أن يبتسم في وجهها، و يشرح لها، غير أنه لم يستطع، أحس بعضلات وجهه متقبضة متصلبة . و بمجرد أن شغلت البنت الكبرى التلفاز على إحدى القنوات الإخبارية، اندفعت عناوين أخبار الحروب و النزاعات و الانفجارات و الاغتيالات، و اندفع معها بركان تطايرت معه صور الأشلاء و الدماء، و شعارات المظاهرات التي تملأ الطرقات، مع مؤثرات صوتية رهيبة تخلع القلوب من أفئدتها، كمريض بهستيريا الغضب و الصراخ يستحيل إيقافه إلى أن ينفجر الدم من رأسه.
قالت البنت الكبرى لنفسها و قد عاودت النظر إلى مجسم الكرة الأرضية الذي كان لا يزال يدور ببلاهة فوق طاولة بنية ثلاثية الأرجل: " صار العالم كله حقل ألغام... الإنسانية تُحتضر."
أزاح الابن العاطل عن العمل منذ أن أنهى دراسته بكلية الحقوق الصحيفة عن وجهه بلا مبالاة، و وضعها قرب فنجان القهوة ذي اللون العكر، و قال و هو يستحضر ملايين المواقع الإباحية على شبكة الأنترنت: " عالم الخطايا "، ثم غمغم بكلام غير واضح، و أضاف ساخطا بجراءة لم يعهدها، و كأن أحاديثهم حلت عقدة من لسانه: " أخ، تفو ! لولا مخافة المبالغة، لقلت صار العالم كله زناة... ". غير أن أذان العشاء قطع عليه الاسترسال في تفكيره المتشائم.
حركت الأم رأسها بشكل عمودي كمن يوافق على شيء، و قالت بعد أن أتمت دعاء الأذان: " يا رب، أما في هذا العالم أنبياء؟ " عندئذ عدل الأب المهموم من جلسته و هو ينظر إليها كأنه انتبه إلى شيء ما في وجهها لأول مرة، و صدى الأذان لا يزال يتردد في داخله، بينما راحت سلمى تنقل سبابتها بين مناطق مختلفة على مجسم الكرة الأرضية، و هي تديرها بعناية، و تردد بسذاجة تلقائية، بلحن من تهدهد صغيرا لينام:
" أما في هذا العالم أنبياء؟ أما في هذا العالم أنبياء؟..."