إبحث عن المرأة
سميح الجعبري - القدس الشريف
شخص ما يبحث عن شيء ما في داخله، سعيد من عرف عمّا يبحث، وقد اطمأن من وجد ضالته، وشقي من لا يعرف ما يفقد.
هو الإنسان لا يرضى!!!
إن وجد أراد المزيد، وإن لم يجد لم يجدّ. ولكن لماذا لا نرضى؟
حدث أن جلست مرة بجانب الشباك في القطار المتجه من باريس إلى الجنوب الفرنسي، وصادف أن كانت بقربي سيدة عجوز، بدى من الكراس المرتخي على ركبتها أن لها يد فنان. فكنت مستغرقاً في مراقبة خط سكة الحديد اللامنتهي وهي لا تزال ترقبني، فقررت أن أتجاوز فضولي لأكلمها، فألقيت التحية وبدأنا حديثاً لم يلبث أن تعمّق بمرور بضع دقائق، إلى أن سألتني ما أقرأ فأجبت : لك أن تسألي ما أكتب !
هي : هل أنت كاتب؟
أنا : أحاول أن أكون واحداً
هي : أنت شاب لتطلق على نفسك هكذا لقب، على كل حال، ما تكتب؟
أنا : أكتب عن المرأة
ضحكت بدهاء وقد ارتفع حاجبها الأيسر في نظرة استغراب، ثم نظرت إلى يديّ ووضعت يدها على ركبتي، فأحست ارتباكي وضحكت من حيرتي، فعقّبت : ألم أقل لك أنك صغير على أن تكتب عن المرأة؟! فما زلت لا تفرّق بين يد الصبية ويد العجوز. فأقرأ لي بعض ما كتبت، فليس خير من حكم على رأيك بالأنثى من الأنثى نفسها!
فقرأت العنوان : إبحث عن المرأة
فقالت وهي تبتسم : صدق نابليون... ولماذا البحث عن المرأة؟
أنا : هي نصف العالم ومكمّل الرجل...
هي مقاطعة : وهل الرجل ناقص يا صغيري؟
أنا : هو محتاج لها
هي : والمرأة؟ أليست محتاجة؟
أنا : بلى ولكن...
هي : ولكنها لا تبحث عن الرجل، صحيح؟
فسكتُّ هنيهة وقد ارتبكت في جوابي، ثم قلت : لم أرَ الأمر كذلك!
هي : ألم أقل أنك ما زلت صغيراً على عالم النساء؟! لربما أفيدك في كتابتك
فنظرت بعمق في عيني وتابعت : عزيزي، إن من لؤم المرأة أن تجعل الرجل يبحث دائماً عنها.
عجبت لفصاحة جوابها ورددت : لم أرَ الأمر كذلك
هي : قل لي! عن ماذا تبحث في المرأة؟
أنا : أبحث عن الحب والحنان وطيب العشرة والسكون و... و...
هي : أليست هذه صفات أنثوية بامتياز؟
أنا : بلى
هي : طيّب، وعن ماذا تبحث الأنثى في الرجل.
فأجبت بتردد : أنت أعلم مني
هي : المرأة تريد الحب والحنان وطيب العشرة والسكون و... و...
أنا : وما الجديد في ذلك
هي : ربما لم تلحظ أنها صفات أنثوية بامتياز لدى الرجل. وباختصار، هي تبحث عن الأنثى في الرجل!
أنا : لم أرَ الأمر كذلك
هي : الآن تعرف لماذا تتقن المرأة ترويض الرجل؟! ففي كل رجل هناك امرأة
أنا مقاطعاً : ولكن ليس من رجل في المرأة ليعرف الرجل التعامل معه! لم أرَ الأمر كذلك!
هي مبتسمة : الآن وقد أريتك لوناً جديداً من ألوان المرأة، هل ستسمح لي برسمك؟ فقد أحببت ملامحك الشرقية.
فتحت كراسها وأخذت قلم الفحم العريض بيد، وتناولت سيجارة بيدها الأخرى، غير آبهة باللافتة المعلقة فوق رأسها، وما هي إلا لحظات حتى كان مراقب الرحلة يرافقنا إلى مقطورة المدخنين، فكنت أتبعها - رغم أني لم أكن أدخن في حينها – وأنا أشعر أني محظوظ بلقائي هذه السيدة، وقد ارتسمت على وجهي معالم السرور.
كانت قد بدأت رسم خطوط هيأتي الخارجية على ورقتها، وقد استرسلت بالحديث...
هي : أنت شرقي بعقلية الرجل المسيطر. تلك ثقافة أحبها
عجبت لقولها، فخفت أن أقع في فخ أنثوي آخر فأجبت : تلك ثقافة مختلفة
هي : هل تظن؟
أنا : بالتأكيد، فالمرأة هنا تتمتع بحقوق أكبر وبحرية كاملة.
هي : عزيزي الشرقي، مع كل يوم من حياتك ستتعلم أكثر، فالمرأة هي المرأة في الشرق كانت أو في الغرب، ولكن عقل الرجل هو المتغير الوحيد في المعادلة. ولا تنسَ أنها تعرف عمّا تبحث، وهو ما زال حائراً
أنا : ولكن، ألا تظنين أن الرجل ساد العالم منذ بدء التاريخ؟!
هي متهكّمة : هذا ما يظنه الرجل
في تلك الأثناء، كان مراقب الرحلة يعلن عن الوصول إلى مدينة (آرل)، فكتبت شيئاً على رسمها، أخرجت الورقة من الكراس، لفّتها على شكل أنبوب، وضعتها في يدي، جمعت أغراضها وقالت : سيكون لي معرض خلال شهر تموز في (آرل)، فزرني إن أحببت لنكمل حديثنا.
غادرت القطار لأكمل رحلتي نحو مدينة (أفنيون). فتحت التي وضعت في يدي، فكان فيها رسماً لي شعرت للحظة أنه رسم لسيدة تشبهني، وقد ذيلته بتوقيعها وجملة في أسفل الورقة تقول :
ستبحث دائماً عن المرأة