مهددا بضحكة ..

مهددا بضحكة ..

محمود العزامي*

[email protected]

مات بالأمس صاحب الجزدان ، وترك قميصين وعلبة سجائر وحذائين وولداً .

لو كنت أعلم ، يا صديقي ما تركتك تموت بعيداً عني ، لكن ليس ينفع الكلام الآن ، في آخر مرة شاهدته فيها كان بصره يجول أركان الغرفة، كأنه يتفقدها ، منظره يشبه طفلاً ، هل كان يوماً طفلاً ، أشك أنه كان ، أرسلني لأشتري له سجائر ، وتأخرت ، لم يقل لي أنني تأخرت ، لسبب بسيط ، أنني أعلم ذلك ، ولم يجد داعياً للتكرار ، تمنيت على هذا الرجل أن ينهرني أو يضربني أو يشتمني ، خلته يفعلها لذلك تأخرت ، كان وجهه غارقاً في رقة مهيبة ، لكن السواد المهيمن على خديه بدا لونه أبيض ، ضارباً في صفرة جميلة ، شفتاه مطبقتان بعفوية ، أظن أنهما مهددتان بضحكة … سيضحك في أي لحظة ، "جواربه" ملفوفتان في زاوية الغرفة ككرتين حمراوين ..

هكذا عشت مع هذا الرجل ردحاً من الزمن ، لم يزعجني ، ترى هل أنني لم أفهمه ، هل فكر بإزعاجي ، هل فهمني ، الله أعلم ، جميع العمال كانوا يتذمرون ويتصايحون أما هو فلا ، يقولون : " كان يلف سيجارته ، ثم يشعلها ويهب واقفاً ، يعمل في ذروة الهجير " ، أشعر أن الشمس تخشى هذا الرجل ، كنت أعتقد أن أبي هذا الإله الصامت ، لن يهزمه المرض ، حين يتكلم مع رفاقه العمال ، كان يتبادل معهم كلمات موجزة وخافتة ، أحياناً يعبر بالحركة ، أكثر من اللغة ، يعمل أكثر مما يتكلم ، يدندن بشيء ما ، لست أعرفه ، وعندما يحس بحركة شيء ينظر نظرة واحدة يختارها يميناً أو شمالاً ، ثم يواصل العمل . هل كان يمكن الدخول في بواطنه ؟ كيف يمكن ذلك ، جسده صغير لكنه مشدود كحبل ، يزداد الحبل اشتداداً ، حتى يدخل في فراشه بشكل اعتيادي ، كنت أسمع شهيقه مستبعداً أنه يبكي !! كنت أسأله عن حاله ، وأمي وقصته . وأقول : " الخلق عيال الله " . ألسنا عيال الله يا أبي ؟ يتجهم وجهه لحظتها أحس أنه سيغضب ، وينفجر في وجهي !! لكنه يصمت ، صمته كان جارحاً ، يضمحل صوته في بحة واضحة : " أمك تركتني لأني فقير ومعدم " ، لا يمكن الولوج الى بواطن هذا الرجل الذي يسمى أبي ، " بحثت عن رجل غيري لديه مال ثم وجدته " أشعر أنه كان يتعين عليه أن يبكي لكنه لا يفعل " بالتأكيد هي سعيدة الآن يا ولدي " يقعي في زاوية الغرفة وحيداً ، ويقول : " ابتعد عني الآن " . فابتعد . هل لديك يا أبتاه استعداد أن نموت معاً ، هل موتنا هو " مربط الفرس " ، أين مربط فرسك يا أبي ، يعرف نفسه جيداً كخلطة الأسمنت ، يكون وسيماً كسحابة ، وهو في حالة فرز أحزانه ، أشعر أنه حاول أن يحصي أفراحه فلا يجد شيئاً ، " تطلعت في عيني وقالت : " كم أنت جميل ، ثم ذهبت " ، آلامه تطفو على السطح ، قفزت منه الذكريات ، ومع هبة الريح ، شعر أنها تحتج من أجله ، مع شعور أنه يتبدد كغبارها ، يتذكر وكفى ، هذه فعلته غالباً ، يشجب نفسه بنفسه " لم أجرح شعورها بكلمة ، أحببتها على الدوام " الله كم كان حاذقاً يحسب نفسه أكذوبة محبوكة من دم ولحم وعظم ، ولأول مرة ، يعاقب نفسه ، ويبصق باتجاه اللاشيء : " هل أنا محدد ، أنا هراء الهباء ، ومماته " ثم قال : " أنا لا أكرهك ، أنت تعلم ولكن لا يهم القول !! " ..

في الطريق الى العمل ، يحث قدميه على السير متباعدتين ، يبكي بصمت الذي ينتظر عقوبة هامة " لو كان لدي مال ما تركتني " ، كرر كلمة هباء أو هراء ، لا أحد يعلم ، الله وحده يعلم ، وهو يعلم أيضاً . ماتت أم طاهر أخيراً وتركت رجلاً متصلب القلب ، ينوح كبعير أخرق ، كطفل ، كبومة ، من الصعب أن يتصالح بعدها مع الناس ، يشعر أنهم أحذية صغيرة ومحززة ، وأم الطاهر أمه ، أما أمي لا أعرف من أمرها شيئاً ، سمعت عدة روايات حولها ، أشعر أن جميعها كاذبة ، أبي عاش مع الضنك دهوراً صماء ، كنت أراه يموت أمامي .. يتفرس في أحزانه الداخلية ، لكنني لا أسمع نواحه الداخلي كأنه يسجد لتلك الأحزان ، أو ربما هي تسجد له ، لست أدري ، لكن ابتسامته كانت ابتسامة رجل متدين .. هكذا يبدو الآن لي .

أما جزدانه الذي تركه لي فكان فارغاً تماماً ، لكنني كلما فتشته من جديد . أرى على جداره رجلاً بكامل هيبته يبتسم للفراغ .

         

* قاص من الأردن .