سنة الرحمة
سنة الرحمة *
بقلم: حسن الشيخ **
[email protected]
هذه المقبرة في البر ، تتسع بجنون يصعب فك رموزه التي نقشت على أسوارها المهدمة ، منذ زمن طويل.
والبر البعيد ، لم يكن بعيداً في الزمن الحاضر. إلا أن أهالي هجر ، هكذا قالوا حينما أخذوا يجهزون موتاهم بصمت أقرب إلى الوداعة والرضا منه إلى الاعتراض أو الرفض. نعم لم يكن هناك احتجاج. أو رفض من نوع ما. فالموت حق. إلا أن يحصد الموت كل هذا العدد ، وبهذه السرعة ، فقد بدا الأمر مزعجاً ومخيفاً. لذلك فقد صدرت بعض الهمسات (بأن هذا كثير ، وكثير جداً). بدا ذلك واضحاً عندما وقف الشيخ أحمد بلحيته البيضاء المهيبة صامتاً. وحدّق في جثث الموتى قبل الصلاة عليها. فرأى أن نعشاً من نوع جديد لا بد من صنعه ، لحمل هذه الجثث بشكل أسرع. وأن استعداداً مغايراً لا بد من تنفيذه بصورة أدق وأفضل لوقف زحف الموت.
تطلع المشيعون بتوجس وخوف إلى الشيخ. بينما راح الشيخ يتأمل بعينين صغيرتين ، زحفت عليهما تجاعيد السنين ، في الجثث المسجاة. ورائحة دهن العود تتسرب مع الغبار الخفيف إلى أنوف الرجال بهدوء. وبصوت مليء بالوقار والهيبة معاً. أشار بهمهمة هي أقرب إلى الصمت منها إلى الكلام :
- أقيموا لنا يا رجال (عمّارية) في هذا الفضاء.
سأل الحاج عبد الوهاب سؤالاً به من الاستفهام ، أكثر منه احتجاجاً:
- ولكن .. لماذا هنا يا مولانا؟
قال الشيخ :
- لأن الوفود كثيرة. وهنا أقرب لخدمتها. والشمس الحارقة لا ترحم.
همهم أحد الرجال :
- الموت حق.
وصاح أبو يبل منتهكاً هيبة الموقف :
- أنا هكذا ، وأنا خائف من النار. فكيف لو كنت ظالماً.
أجابه الحاج عبد الوهاب ، وكأنه يجامله بدعابة :
- والظلاّم في النار!
رد بسرعة ، وكأنه يضمر الإجابة :
- الله أعلم.
رفع الشيخ رأسه ، وتطلع في وجوه الرجال. وقال بحزم :
- أوصيكم بالدعاء. وطلب العفو والرحمة.
في هذا الصيف الحار ، تكون للرمال لغة صامتة أيضاً ، تعبر عن احتجاجاتها ، وصخبها ، ولوعتها بإشارة مفهومة. وفي أحيان كثيرة لا تفهم الإشارة ، فتضيّع الكلمات معانيها في لحظاتها الأخيرة الحرجة. أما وطأ أقدام الرجال الحافية ، الأقدام الخشنة ، المتشققة ، فلها ذلك الوقع الحزين ، والرتابة اللا مبالية أحياناً ، لما سيحدث من أمور صاخبة.
في مسجد (الصالحية) بدا أن الأمر مختلفاً تماماً. فقد تجمع نفر قليل من الرجال حول العمدة يوسف اليوسف ، عقب صلاة الظهر. أحاط الرجال بالعمدة فأخفوا قامته الطويلة ، عندما تزاحموا قرب المسجد. تهامسوا. ثم علت بعض الأصوات. إلا أنهم تفرقوا بعد ذلك. تفرقوا وهم يحملون فوق كواهلهم هماً غير معروف. همٌ هلامي الأبعاد. حينها بدت الحركة في أزقة هجر الضيقة بطيئة. عز الظهيرة حينما تصب الشمس جحيمها ، يفر الناس إلى بيوتهم الطينية ، وإلى سراديبهم المظلمة للقيلولة ، يعانقون فيها أحلاماً مرسومة على سعف النخيل ، ومنقوشة على مياه عيونها الحارة.
لذلك فقد خيّم الصمت ، والهدوء الحذر ليس على (البر) الملتهب فقط. بل وفي أحياء النعاثل والفاضلية والرفعة ، والمزروعية وغيرها من الأحياء. حتى حي (الكوت) المعروف بصخبه وأسواقه ، و(وجاغه) الذي لا يهدأ ، يخيم عليه السكون في هذا الوقت من النهار. والقيلولة القلقة ، المرة ، تشير إلى حدوث شيء ما. لا أحد يعرف ماذا سيحدث. إلا أن تلفت الرجال ، وهمسهم ، وهم يمرقون إلى داخل بيوتهم ، وإرغام أطفالهم الصغار للجلوس في المنازل ، ونظرات النسوة المليئة بالتساؤل والهلع تؤكد وقوع أمر جلل.
تطلعت مريم بسنواتها الثمان إلى والديها. تطلعت في صمت ، ثم تقيأت كل ما في جوفها. سعلت بعدها سعالاً شديداً. إصرار على التقيؤ ، لكن لم يخرج من جوفها سوى مخاط أصفر لزج. تبسمت بصعوبة تذكرت شيئاً ما. سألت أمها عن دميتها الخشبية. فلم تجب الأم. تذكرت أنها احترقت. عندما مدت يدها الصغيرة لتلتقفها فلسعتها النار. لسعة أقرب إلى الحرق. فكونت تلك البقعة الحمراء في يدها اليمنى. سالت دمعة ساخنة من عيني أمها. تذكرت الأم ابنها خالد الذي مات قبل أسبوع واحد. مر بنفس الأعراض. يوم واحد بين القيء والهذيان ثم حمله أبوه وخاله ، ملفوفاً في نفس (البطانية) التي ينام عليها إلى مكان بعيد ولم يرجع.
الأب الذي لف غترة حول رأسه. يذرع الغرفة الضيقة بعصبية صامتة. لم يعرف الموت سوى في الأيام الأخيرة. رغم أن الموت ظل وطوال حياته ، صديقاً حميماً. يفرح به. يتكسب من حفر القبور وتجهيز الموتى.
تطلع أبو خالد إلى السقف. لاحظ قطرات من الماء تصطدم بالأرض برتابة مملة. تسائل من أين جاءت. عدّ القطرات. عدَّ أيامه التي ستأتي بلا قيمة تذكر بعد مريم وخالد.
في منزل آخر لم يكن أقل انزعاجاً من هاجس الموت. ظل أبو إسماعيل مستيقظاً. قلقاً. بينما سُمع طرق عنيف من خلف الباب.
- أبا إسماعيل .. يا أبا إسماعيل!
نهض بصدر لاهث ، أعاد شد (وزاره) في وسطه :
- أنا قادم.
فتح الباب مستفهماً. تطلّع إلى الطارق عبود المحسن بعينين مفتوحتين. فقال الأخير بحزم واضح :
- الشيخ أحمد يريدك.
- سآتي عقب صلاة العصر.
- لا إنه يريدك الآن قبل الصلاة. وكذلك أبو خلف ، والحاج عبد الوهاب.
أخبرهما بذلك. وتعالوا جميعاً.
- ولكن في أي مجلس الشيخ أحمد الآن.
قال عبود محتداً :
- نحن في دروازة الكوت. الرجال جميعهم هناك.
تساءل أبو إسماعيل بتعجب :
- الدروازة وفي عز الظهر. سآتي.
وبسرعة رجل في السبعين ، أعيت ركبتيه (الروماتيزم) والسنون. تحرك ، ركب حماره ، متجهاً إلى الدروازة. يحث حماره على السير. بينما يتوقف الحمار الأجرب ، بين فترة وأخرى غير عابئ يتشمم بوله و(خثاه). فيضربه أبو إسماعيل على رقبته وظهره ، كي يحث السير. توقف عند دار أبي خلف. فأخبره بتجمع الرجال. وتوقف عند دار الحاج عبد الوهاب فلم يجبه أحد. فحث سيره من المزروعية إلى النعاثل متجهاً إلى الدروازة ، فمر على (سوق القيصرية) فنظر إلى المحلات مغلقة ، والبسطات قد غطيت قبل أذان الظهر بقليل. فكر في خديجة ابنته المدللة. فخاف عليها من موت مفاجئ لا يرحم. لكن الحمار لم يتوقف عن السير. دخل (فريج) الكوت بأزقته الضيقة ، المرصوفة بالتراب الأبيض ، الشديد التطاير. اعترض الحمار صبي في العاشرة ، قد حمل على رأسه قدراً كبيراً ، وخلفه طفلة لم تبلغ الثامنة لم يستطع تمييز ملامحها من كثرة الذباب. أوقف الحمار حتى قطع الصبي والطفلة الزقاق الضيق ثم سار.
عند الدروازة تجمع الرجال بفوضى. الشيخ أحمد والحاج عبد الوهاب الذي سبقه إلى الحضور. العمدة يوسف اليوسف ، عبود المحسن ، عبد الرحمن الحمّال ، وعبد الله الخضّار ، حتى أبو يبل المجنون وقف وسط الرجال ببلاهة. وقف أبو إسماعيل قريباً منهم. نزل عن حماره. فلاحظ أن الرجال قد التفوا حول الشيخ أحمد والعمدة ، بينما بدى على وجوههم القلق. وراح بعضهم يجففون عرق وجوههم بأكمامهم. وهم يتحدثون باهتمام وصخب شديدين.
صاح أبو يبل من غير توقع :
- أنا هكذا وأنا خائف من النار. فكيف لو كنت مشركاً؟
فلم يجبه أحد. إلا أنه بعد قليل قال عبد الرحمن الحمّال:
- والمشركون في النار يا أبا يبل!
رد بسخرية هذه المرة وكأنه ينتقم على الصمت السابق :
- الله أعلم ! ثم قهقه وابتعد.
قال الشيخ أحمد بعد أن (تنحنح) لأكثر من مرة واعتدل في جلسته :
- أنتم تعلمون يا إخواني أن الوباء قد فتك بنا. العديد من الأطفال ماتوا. بل إن بعض البيوت ومن كثرة الموت قد أغلقت. قضى الموت عليها. إن الأمر لا يمكن السكوت عليه. لا بد لنا من الذهاب (للصحيّة). فنحن بحاجة للأدوية لدرء هذا الداء.
قال الحاج عبد الوهاب بنبرة حزينة :
- لم نعد تستطيع دفن موتانا. الموت زار كل منزل بعنف ...
قاطعه عبد الرحمن الحمّال بحدة :
- ولكن ماذا يجب علينا أن نعمل! هل نقف هكذا مكتوفي الأيدي.
اعتدل العمدة يوسف اليوسف ، وأصلح من غترته وتحدث بعد أن رفع يده إلى أعلى :
- أنا قلت لكم يا جماعة. لا بد من إحضار طبيب من البحرين. إثنان أو ثلاثة يذهبون إلى هناك لإحضاره بأي ثمن.
أضاف عبد الله الخضار :
- ... وأنا مستعد للسفر إلى هناك. وتطلع في الوجوه.
أجاب الشيخ أحمد لعبد الله مقرراً :
- أنت تذهب ومعك العمدة وعبد الرحمن. ولكن ليس إلى البحرين بل للرياض. تذهبون وتأتون بسرعة. السبت القادم أنتم هنا ومعكم الطبيب والأدوية.
في منزل آخر ، وفي أحد صباحات هجر الكسولة. وقفت أنيسة تسرّح ظفيرتيها بوجوم مسالم. حدّقت في المرآة الصغيرة الكالحة ، المثبتة على الجدار ، فتطلعت إلى وجه شاحب قد فرّت الدماء من وجنتيه إلى عالم آخر. دققت النظر ، إلى وجهها في المرآة بشكل أثار فيها الاستغراب والدهشة والحيرة.
التفتت إلى الجانب الآخر من الغرفة الطينية الصغيرة ، بعد أن تحرك إسماعيل وهو يهم بالقيام. فنادته بصوت ضعيف :
- إسماعيل ... إسماعيل ... هل ترغب في شيء ما ؟
إلا أنه لم يجب. بل تقلّب في فراشه ، فأصدر السرير الخشبي صريراً ، بدا مؤلماً وحزيناً. فأحسّت بخوف يغوص في داخلها تذكرت زفافها قبل ليلتين. تراءت لها وقفات إسماعيل الصاخبة في (الفريج) تحت (دريشة) منزلهم. تبسمت. كان يمد بصره إلى أعلى بسرعة ، ويرفع صوته أثناء رد السلام ، وأثناء محادثة عم حمزة الأعمى ، عندما يقف قرب دكانه ، لكي يلفت انتباهها. هذا هو إسماعيل يئنّ الآن ، بعد أن كان يلبس غترته كبحّار لوّحته الشمس ، ويمشي بحزم ، مشيته الصارمة التي ألهبت أحلامها في الأمس القريب. سعل إسماعيل بحدّة ، جلس ، تمخّط على الجدار ، ثم انحنى وبصق تحت السرير. وعاد إلى النوم. مارس كل ذلك بآلية ، وبحركات واهنة. إلا أنه فتح عينيه ، وهمس بصوت هو أقرب إلى الرجاء منه إلى الأمر :
- أنيسة ... أنيسة ... قليلاً من الماء.
لم تجب ، لكنها سارت إلى (الحوش) صبّت له من (المصخنة) شيئاً من الماء. حينها سمعت طرق الباب. شعرت بأن ضيفاً مزعجاً لا بد أن يقتحم عزلتها في هذه الساعة. فلم تجب. جلست على حافة السرير ، مصدرة صريراً أشبه بالأنين. تذكرت طفولتها التي عاشتها عند زوجة أبيها وهي لم تكمل السادسة من العمر. سنواتها العشر اللاحقة قضتها في خدمة زوجة أبيها. وها هي اليوم تُزفّ في محفل جنائزي.
في صبيحة اليوم التالي. دقّ أبو إسماعيل الباب بقوة أكثر من ليلة الأمس. دقّ بعنف هذه المرة ، إلا أنه لم يجبه أحد. دقّ قلبه خوفاً. تلفّت في (الصكة) يمنة ويسرة ، توقف متردداً حائراً. رأى من بعيد أبو يبل. ناداه فأقبل. أراد أبو يبل أن يسأل أبا إسماعيل عن شيء ما. إلا أن الآخر أشار إليه أن يساعده في دفع الباب. لم يمكثا طويلاً. اقتلعاه. مرق أبو إسماعيل بخوف وقلق إلى داخل (الحوش) نادى :
- إسماعيل. أنيسة أين أنت يا ابنتي؟!
لم تجبه سوى خشخشات سعف النخلة الوحيدة في وسط (الحوش). دق باب الغرفة. ثم كرر النداء. فتح الباب ، مد بصره للسرير الخشبي المركون في الداخل. فاجأته عيون جاحظة ، تُحدّقُ في الفراغ. بينما سال زبد أبيض من جوانب الأفواه. أحس برعدة ، بطعنة حادة في خاصرته بينما لم تعد رجلاه قادرتين على حمله. جثى على ركبتيه ، وبيد مرتعشة أغمض عيني أنيسة وإسماعيل وهو يردد :
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
(دروازة) الكوت في ليالي الصيف الهجرية ، هي غيرها في الصباحات الندية. فالسكون المبكر يخيّم بوداعة خجولة ، توحي بالضجر والخوف والبلادة. همس الشيخين الذين جلسا على رصيف (الدروازة) لم يخدش السكون رغم جلستيهما المتباعدة. كما أن (طقطقات) ماطور الكهرباء في الجانب الشمالي من (الوجاغ) تتردد صداها. إلا أنها بدت كجزء من سكون الليل. إشارات الأيدي وحركة الأرجل ، بدأت تُلاحظ للرجلين ، بعد أن انعكس عليهما بقايا ضوء القمر الآفل.
قال الحاج عبد الوهاب بعد صمت وتردد :
- تلك أيام عصيبة. الله أعلم كيف تنتهي!
فأجابه عبد الله الخضار مؤكداً :
- نعم هذه سنة الرحمة ولكن قل لي يا حاج لماذا تفكر في الزواج؟ إنه لأمر غريب حقاً!
فأجاب الحاج ولم يبد عليه أي تذمر :
- وما الغرابة. زوجتي الأخيرة كما تعلم ماتت منذ أكثر من سنة. ولم أمكث مع الأولى سوى خمسة أشهر. أما أم صالح ، آه ، لقد التهمت العمر كله. إنه عمر طويل!
- لقد التهمت أنت أعمارهن. ألا تستطيع أن تصبر قليلاً. قال عبد الله ذلك وهو يضحك.
فأجابه الحاج :
- ولكن لماذا الصبر أطول من ذلك. ولدي صالح تزوج العام الماضي. وماتت زوجته ولم يمضِ على زواجهما إلا ثلاثة أشهر فقط.
- النساء لا يستطعن صبراً معكم. أبو يبل يرغب في الزواج أيضاً منذ سنين ، ألا تزوجه معك وتكسب فيه ثواباً يا حاج؟
توقفت طقطقات ماطور الكهرباء. فحلّ سكون من نوع آخر. بدا أول الأمر مزعجاً للرجلين المتسامرين. ثم علّق عبد الله الخضار :
- هكذا عادة هذا الماطور ، لا يمكن له العمل لليلة واحدة ، دون توقف في هذا الحر.
لم يجب الحاج عبد الوهاب. بل حدّق في الليل الذي بدا أشد ظلمة مع انطفاء عمود الكهرباء الوحيد في (الوجاغ) بينما مرّ من بعيد الناطور وهو يعسّ المكان متجهاً إلى (القيصرية).
قال عبد الله متسائلاً في شيء من القلق :
- فيماذا تفكر يا حاج؟
فأجاب بصوت خافت متقطع :
- أفكر في هذا الموت الذي لم يترك باباً إلا وطرقه. من سيسبق الآخر. أنا أم أنت!
ضحك عبد الله بصخب ، وردّ بشيء من عدم الإكتراث :
- أنت أكبر يا حاج.
- وهل انتقى الموت الكبار منّا ونسي الصغار.
- هل حقاً أن هذا هو الطاعون.
رد الحاج عبد الوهاب بعد أن تثائب بصوت مسموع :
- لا أدري. هكذا قال الطبيب. والذي لم يستطع حتى الآن أن يوقف زحف الموت.
- وهل أخاف الموت الناس ، ألم تسمع عن سرقة بيت عبود المحسن ليلة الأمس!
قال الحاج بتعجب :
- بيت المحسن! ليلة البارحة!
- نعم ، التقيت بعبد المحسن في صلاة الفجر. لم ينم. قال إن صرخات النسوة والأطفال أيقضته وأيقضت الجيران وعلى الفور أشعلت في (الصكة) ثلاثة فوانيس فلم يجدوا شيئاً. عبد الرحمن الحمّال قال إنه أمسكه عندما قفز إلى سطح منزله. إلا أنه أفلت من يديه . كان أسوداً كالليل. ولم يستطع الإمساك به لأنه دهن جسمه بالزيت. فقفز إلى الصكة. تصوّر يا حاج أن أبا يبل قال إنه رآه وأن ضوء فانوسه سطع في جسمه الأسود. فبدا لامعاً من الزيت.
حلّ صمت طويل بينهما. فرفع عبد الله صوته بالغناء. غنّى بصوت أجش. إلا أن الحاج نهره بأدب. فحلّ الصمت من جديد. وعن بعد سمع صوت المؤذن للصلاة مليئاً بالرضا والتضرع. ردد الحاج الأذان. ثم التفت بعد فترة إلى عبد الله :
- قم بنا لكي نصلي.
قام الحاج. وبعد تلكؤٍ تبعه عبد الله. نفضا ثوبيهما من الغبار العالق. وتحركا في صمت. عبرا الزقاق الضيّق المتصل (بالوجاغ) متجهين إلى المسجد. كان الظلام ما زال دامساً. عثر الحاج في حجر كبير يتوسط (الصكة). فانحنى عبد الله ونقله إلى قرب الجدار وعلّق :
- إنهم الأطفال .. يلهون رغم الموت.
سارا صامتين. مفكرين. عبرا (صكة الحويطة) ثم عرجا على دكان عم حمزة الأعمى. ثم انحرفا إلى (براحة) الكوت. والسكون مخيم بجلال رغم القرقعات الصادرة من بعض البيوت استعداداً للصلاة ، وصياح بعض الأطفال الرضّع. ماءت قطة بفزع ، حينما داس عبد الله على ذيلها. فضحك بذعر. ثم علّق بارتباك :
- الجن مختبئ في كل مكان.
وصلا المسجد ، صعدا عتباته الثلاث ببطئ وخشوع. شاهدا المؤذن يقف بصمت عند المحراب الطيني. لم يكن يصلي رغم وجومه. بل بدا لهما مرتبكاً ، فزعاً. تقدما بحذر. وأخذا يدققان النظر في الشيء المطروح بقرب المحراب. تبادلا نظرة مستفهمة.
سأل الحاج عبد الوهاب المؤذن :
- ماذا هناك؟
إلا أنه لم يجب. بل اكتفى بإشارة من إصبعه إلى الخرقة السوداء أمامه. تقدّم عبد الله ، وعلى ضوء المصباح الأصفر الوحيد ، الذي أنار فجأة. رفع عبد الله الخرقة. فلاح لهم وجه الشيخ أحمد فاغر الفم ، ومغمض العينين في وداعة.
* من مجموعة اختفاء قدوسة
** أديب سعودي من الأحساء