المدينة

المدينة

 مأمون أحمد مصطفى

[email protected]

       أفاقت من نومها قبل بزوغ الفجر، كعادتها، ظمأى لنور ألشمس ألمستتر خلف طبقات ألظلام التي بدأت تتفكك أمام قهر ألفجر ألقادم. لتعطي ألكون لونا شديد ألإثارة والغموض، فامتزاج أللون، إندماجه بالأفق ألبعيد ألمطلي ببقايا ليل راحل، مع أشعة شمس فجر قادم، متسلسل، رقراق، إندماج أواخر ليل، ببداية نهار، سر عميق، سحيق، غائر، مجلل بيفاعة رهبة ترسخ في ألقلب والعقل، رسوخ ألجبال بأعماق ألأرض.

         هذا ألغموض، ألجلال، تلك ألإثارة، ألهيبة، كل هذه لها رغم تلفعها، تمازجها، شفافية، شفافية ماء ألنهر حين يكون منسابا بهدوء، بروعه، من بين جذوع ألأشجار ألشامخة، الباسقة، المنتصبة مكانها بكل ثقة، بكل يقين، بكل ثبات، كعلامات، منارات، تضج بالخضرة ألمتفجرة، ألمتفجرة بالحياة، بالبهاء، بانشراح تام للوجود، بانفتاح للجمال والروعه.

         وما أن بدأت تتسلل ألخيوط ألأولى للشمس من بين مزق ألسواد وثقوبه، حتى تبدت أمام ناظري، عارية، عارية تماما، شهيه، تقطر خصوبتها من بين مسامات جلدها كشهد مميز. نعم، ها هي تتمطى أمامي بنعومة عذبه، برشاقة مثيره، بخبث يلامس مراكز ألإحساس، بدهاء يستفز كل ألمشاعر، هي قادرة، لعوب، تدغدغ عن قصد، تصميم، بخطة مرسومه، متقنه، كل ما في داخلي من مجهول. تنتفض إنتفاضة خاصة، لتغسل ما علق بها من سواد ألليلة ألماضيه بسنابل ألشمس ألناعمه.

         إستبد جمالها بي، إمتلكني، إستثار روحي، شهوتي للحياة، دخل طوفان عارم بأعماقي، فأدركت يقينا بأن هذه ألمدينه مزروعة بقلبي وعقلي، وأنها حين تتعرى كل صباح لتمتص أشعة الشمس، إنما تتعرى لي، لي أنا، أنا وحدي.

         كان ألجو رائقا، جميلا، وحمام ألماء ألساخن ألذي عمت فيه أدخل ألنشوة في جسدي، وأشعرني بخفة ظاهره في وزني، أما حلاقة ألذقن، فقد جعلت نسيم ألصباح ألباكر يدغدغ وجنتيً بإثارة تملؤ وجهي نشاطا فياضا بالاندفاع من ألبيت إلى ألشارع، لأمتع ناظريً بلون ألشمس وهي تسقط فوق أرصفة ألشوارع، وعلى أغصان ألشجر.

         لا أعلم تحديدا، ولا أعلم تماما، لماذا كان ألإحساس ألمبهم يجول في صدري مذ خلعت نفسي من فراش ألنوم؟ إحساس من نوع جديد، لم أعهده في ذاتي من قبل. أنا لا أنكر أبدا، بأن هذه ألمدينه، مدينة طول كرم، ألمليئة بالمتناقضات ألعارمه، ألطافية على ألسطح، ألمترسبة بالأعماق، كانت تثير شهوتي حين تخلع رداءها لتأخذ حمام شمس. كانت تهزني بعنف وقوه، بعريِها، بجسدها اللامع، ألمصقول، بخصوبتها ألمركزه، كاِمرأة مكتنزة ألشفاه آتية من قلب جمال ألصحراء ألفتان. ألإحساس هذا، كان ينتابني يوميا، بعنف جديد، بشكل جديد، مختلف تماما عن أليوم ألفائت.

         أما أليوم، فإني أحس غرابة في ألأمر، أطأ ألشارع بقدمي فأشعر وكأني لم أطأه من قبل. هذا ألشارع ألذي تربيت في حضنه، في عمقه، في صمته، في غضبه وصراخه. كنت أحس بقدرته على مقاومة برد ألشتاء ألقارص، غضبه من شمس آب، كان يخفق في قلبي، وكنت أخفق في قلبه. هو لي صديق، بيني وبينه أيام، تاريخ، آلام، آمال. هذا ألشارع ، قال لي كل شيء، وقلت له كل شيء، همس لي، همست له.

         وهذه ألوجوه ألقمحيه، ألني طالما تفرست عيناي ملامحها، بدقة وانتظام، حتى اختزلتها ذاكرتي بصورة واضحة ألمعالم، شديدة ألإثارة، شديدة ألانسجام. أحس أليوم، بأزمة، أزمة شديدة أمامها، أحاول جاهدا، إستخراج صوره، أية صوره من قلب ذاكرتي، فأشعر بوهن عارم، بعجز قاتل، أحك رأسي، أضغط بأناملي على جبهتي، بكل قوة ممكنه، أفرك عيني، أقرص ذقني، ولكن دون جدوى.

         هذه ألأسراب ألمتدفقة على ألحوانيت، على ألمطاعم، بصورة آلية ورتابة قاتله، كنت أراقبها كل صباح. فأراها خليط بشري منوع بكل شيء، لون ألملابس، أكياس ألطعام ألمحمولة بالأيدي أو على ألأكتاف.

         رائحة ألفول ألساخن، مقالي ألفلافل ألمنتشرة على شوارع ألمخيم بكثافة، كانت تداعب شهيتي، تستثيرها، فأشعر بمعدتي تنقبض بشده، وترتخي بشده، فأشعر بجوع قاتل. أتحول إلى قط شره جائع، يرى أكداس ألسمك على بعد منه، ورائحته ألنفاذه تصدم أنفه فتهز معدته، وتحرض شهيته. لكنه رغم ذلك لا يفعل شيئا غير ضرب ألأرض بذيله، وأن يموء بحزن ألجوع لأنه لا يستطيع ألوصول لغير رائحة ألسمك.

         هذا ألخليط من البشر، بوجوهه ألمتعبه، والتي لا يزال ألنوم ساكنا في كل ملامحها، حركاتها، قريب مني، بل هو مني وأنا منه، من دمي، من روحي، من كبدي. بيني وبينه تاريخ لا يدون بأدوات أللغة، ولا يحدد بأدوات ألزمن ولا بعقارب ألتاريخ. تاريخ لا يكتشف، كالأرض ألعذراء ألمنزوعة من ترهات ألبشر، لتصنع لذاتها خصوصية تعبق بكل مجهول ومعلوم. خصوصية ذات نكهة خاصة، ومذاق خاص، خارج عن حدود ألزمن وإرادة ألوقت.

         وجوه أحبها بكل ما فيها من سمار ممزوج بخضرة ألزيتون، بكل ما فيها من خجل ألرمان، بكل ما فيها من حلاوة ألتين، ومرارة ألشيح والحنظل. وكنت دائما –وفي كل يوم – أراقب هذا ألخليط وهو يقف أمام مقالي ألفلافل، وجرار ألفول، بشكل عدائي واضح. كانت ألأيدي وهي ترتفع مع تزاحم ألأجسام للحصول على طلباتها، تبدو كأغصان ألشجر حين تضربه موجة هواء قويه. نغمات ألأصوات موحده وكأنها لرجل واحد، أو امرأة واحده – صحن فول - ،- صحن حمص -، - عشرة أقراص فلافل - ، - واحد مسبحه - ، - واحد قدسيه - . ومن يحصل على طلبه كان ينزلق من بين ألجميع كحلزونة مبدعه، ليدخل سيارة أو شاحنه من ألسيارات أو ألشاحنات ألمصطفة على امتداد ألشارع، ليصبح بعد وقت قليل، حلزونة من نوع جديد، لها مهارة جديدة، غير ألانزلاق من بين ألحشد ألمصطف أمام رائحة ألفول والفلافل. حلزونة تدور مجبرة بين آلات ضخمة جباره، تفح كأفعى عاشت ما يزيد عن ألف عام. عليه أن يقف أمام فحيحها، يصطلي ناره، يحشو أنفه من رائحته، وهو مسلوب ألإرادة، عليه أن يقف عاجزا، شاء أم لم يشأ، لأن ألأمر خرج من يده كما يخرج ألماء من بين ألأصابع ألمنفرجه.

         إذ ذاك كنت أشعر بنشوة ألانتصار، صحيح أن معدتي تبدأ تطبق على عقلي، كما يطبق ألتمساح قواطعه على فريسته، فتطير كل لحظات ألانتصار والنشوه التي استللتها من حمام ألماء ألساخن، وشفرة ألحلاقه ألحاده. لكن، رغم هذا كله، كنت أشعر بالنصر لأني لست واحدا منهم، ولا أقف مثلهم أصطلي نار ألرتابة. ولأنني فوق ذلك، سيد وقتي وصانعه، أتصرف به وفق إرادتي ومشيئتي.

         أما أليوم، لا أستطيع حتى أن أشتم رائحة ألفول والفلافل. هناك شعور غريب يسيطر علي، يأخذ كياني كله، كحوام بحر يستبد بسباح غافل، يظل يدور به ويهبط حتى يوصله إلى ألنهايه، نهاية ألحوام بعمقه. حتى شعور ألشفقه ألذي كنت أحس دبيبه يسري بدمائي نحو هذا الخليط ألبشري، أصبح أليوم، ينتفخ، يتضخم، فأمد يدي على صدري، على جلدي، أتحسسه خوفا من اندفاعه فوق ألجلد. فأشعر بالرهبة، بالجبن، لماذا؟ ما هو شعوري أليوم؟ أنا لا أعرف ألحزن مطلقا، هذه حقيقه أشعر بها شعوري أني مبعوث على هذا ألوجود، أتنفس من هوائه، وأشرب من مياهه. أما أليوم، فإني، ولأول مره، أظن، ولست على يقين، بأن الحزن سيغزوني. وإلا، فما هو سبب حالة ألفوضى بأعماق أعماقي؟ وما هذا الشتات ألمتمكن من نفسي؟ ربما لا يكون بداية حزن، هذا احتمال، وقد لا يكون هناك أي شيء على ألإطلاق، قد أكون طبيعيا، وهذا أيضا احتمال قائم.

         إذا، من أين دخل علي عالم أللامبالاة هذا ألصباح، لقد تعودت أن أدقق ألنظر بكل شيء، وصباح كل يوم. ألمحلات ألتجاريه وهي تستعد لاستقبال يوم جديد، ألأبواب ألمفتوحه، والأبواب ألتي ما زال نصفها ألأخر يحجب عن ألعين جزءا من داخلها، خراطيم ألمياه بأيدي ألتجار وهي تغسل ألشوارع وتعطي ألجو رطوبة مميزه، رطوبه محمله برائحة ألتراب والغبار المتطاير، عربات ألباعه ألمتجولين ألمحمله بكل أنواع ألخضار والفواكه من تفاح، مندلينا، أجاص، ملفوف، ألجوافه ألتي تغزو رائحتها ألهواء وألأجواء، ألأنوف، ألكرز بحمرته ألخجله ألمتراكمة فوق بعضها. بسطات ألنساء ألزاخره بأعشاب ألأرض ألبريه، ألزعتر برائحته ألحاده ألعطره، وآه من رائحة ألزعتر هذه، كم هي حبيبة إلى قلبي، فرفاحينه، لوف، زعمطوط، خبيزه، إلسينه، بابونج، نعنع. أعشاب تتوزع بطريقة رائعه، مغريه، تتداخل فيها ألروائح وألألوان. فتهز ألنفس والعقل هزات شديدة، تستثير ألذوق، وتدفع خيالك للإلتحام مع ألوجبات والمشروبات ألتي يمكن إعدادها من هذه ألأعشاب، خاصة أقراص ألزعتر ألمغرقه بزيت ألزيتون أثناء خروجها من ألفرن ساخنه سخونة ألخيال ذاته.

         والأهم من هذا كله، لم تصل أليوم لأنفي رائحة ألسمك ألطازج، تلك ألرائحه ألنفاذه ألتي يلتقطها أنفي عن بعد، أليوم بالذات لم أدقق بأنواع ألسمك مطلقا. مع أن هذا ألأمر هو إحدى هواياتي ألأولى والمفضله، لأن ألسمك بالنسبة لي يعني ألكثير. مجرد نظره لسمك ألسلطان إبراهيم، أو ألقراص، أو ألمشط، كانت كافية لأن تقيم بيني وبين ألسمك ألراقد في ألصناديق ألبلاستيكيه، نظرة واحدة فقط، قصة عشق تبدأ بحض معدتي على ألإسراع في هضم ما كنت قد ألقيت في جوفها على ألعشاء، وتنتهي فور سقوط ألسمك في ألزيت ألحار.

         أليوم لا أدري ماذا حصل. كل هذه ألأمور أفلتت مني تماما كما ينفلت ألليل من ألنهار، حتى جو ألرهبة والهيبة والجلال والسمو، ألذي يخيم على شوارع ألمخيم والمدينة بسبب انتشار صوت ألقرآن ألكريم ألمنبعث من كل مذياع على ألطريق، هذا ألجو ألذي كان يصعد بي فوق عالم ألأرصفة والشوارع، ويسمو بروحي على أعتاب حرية غير محدودة، بلا أرجاء، ولا مسافات. هذا ألجو لم أحسه أليوم، ولم أتلمس يفاعته وسموه وجلاله، لم يضرب قلبي بعمقه وفخامته، لماذا؟ ولماذا؟ وكيف قادتني خطاي كل هذه ألمسافة دون وعي أو تبصر؟ هل أصبت بداء ألمشي أثناء ألنوم؟

         وعلى عتبة ألمقهى، خرج طوفان ألتساؤلات من رأسي وكأنه أنتزع انتزاعا، كالعشبة حين تنزع من جذورها. إلا أن ألشعور ألمبهم ما زال يحيا بأعماقي ويكبر، كنت أحس بانتشاره في ذاتي كرذاذ ألمطر، يبدأ بالانتشار بحنان في ألأفق، ثم يكبر ويتحول إلى عاصفة غضبى، تضرب ألأفق والأرض زخات مطر لا يرحم.

         كان ألمقهى يتمتع برائحة مميزه، وجو مميز، وكان ألبخار ألمتصاعد من غلايات ألقهوة وأباريق ألشاي فوق مساحة ألمقهى، يغلف ألجو بدفء خاص، وضبابية غير منفره. أما رائحة ألقهوة ألزكيه، ألحبيبه بمذاقها، فقد كانت تتطاير كحبات لؤلؤ إلى ألخارج، وليس هناك من يستطيع أن يثبت حين تمتزج رائحة ألقهوة هذه مع رائحة ألتمباك ألصاعده من ألنراجيل ألمتعددة.

         هذا ألجو ألمتداخل كان يلهب خيالي، يستفز انفعالاتي بصورة واضحة، ولم أكن أستطيع تفويت مثل هذه ألفرصة علي يوما واحدا، إلا حين تحكم ألحياة مشيئتها ألقاسية بخطوات يوم من أيامي.

         كنت أسرح ببصري إلى ألشارع ألممتد خارج ألمقهى، لكن صوت ألنادل وهو يختلط بصوت ألزبائن، وقرقرة ألنراجيل، كان يستقر في أذني واضحا.

-        (وعندك واحد شاي مع نعنع ). (واحد قهوه على ألريحه ).

-        (أهلا أبو علي، ألله يصبحك بألف خير، والله نورت ألقهوه ).

-        (بوجودك والله ).

-        (واحد قهوه على كيفك لحبيبنا أبو علي، قهوة أبو علي عصملي ).

         ويغيب ألنادل ليعود حاملا صينية عليها فنجان ألقهوه وكوب ألماء، ويقول وهو يسكب ألقهوه لأبي علي:

-   (والله إنك بدعت ألبارحه، صحيح أنه كان رايح يغلبك، لكن ألزهر بعرف صاحبه ).

-        (كله حظ، ألدنيا غالب ومغلوب ).

-   ( صحيح يا حج، بس ألنصر إلو لذه، والغلب غلب، خلصنا والله ما في أصعب من ألغلب، ألغلب خازوق، خازوق كبير ).

-        (هو خازوق بعقل، لكن خازوق بستيره ولا خازوق بفضيحه ).

-        (أيوه، هاي الحكي الصحيح ).

         ويغيب ألنادل بين صفوف ألطاولات من جديد، ويبدأ أبو علي صباحه بعد حبات ألمسبحه ألتي في يده مرات ومرات، دون أن يشعر بأي ملل. وكنت أرقبه كثيرا، لأنه يذكرني بأستاذي أحمد ألهودلي، حين يحين درس ألمحفوظات، هذا ألأستاذ كان عاشقا للغة ألعربية، وكأنها امرأة خلقت وهي تحمل كل مواصفات ألجمال والروعه، ولكن لتشاهد، لا لتلمس. عليك أن تحفظ كل مسامة من مساماتها،  كل مسحة من مسحات جمالها، دون خطأ، دون ارتباك، حتى لا تشوه هذا ألجمال أو تنتقص من قدره.

         درس ألمحفوظات، ألمسبحه، أحمد ألهودلي، أللغة ألعربية، كلها أركان، أربع خطوط تشكل مربعا مرعبا في نفوسنا. لأن ألأستاذ يبدأ بعد ألأخطاء على حبات مسبحته، فمع كل خطأ تنزلق حبه، وكل حبه في ألنهاية، هي لسعات حارة من مطرا ق ألرمان على أكفنا ألصغيره. كان يضربنا وكأننا إرتكبنا كبيرة من ألكبائر، وكأننا مزقنا شرف أللغة، وفككنا عذريتها بطريقة محرمه. ولا سبيل أو طريق لمعالجة ألجريمه سوى مطرا ق ألرمان وهو يهوي على أقفيتنا كأفعى أو أقدامنا، وإذا دخلت ألرحمه، فعلى أكفنا. كان وجه ألأستاذ يتجمر غضبا وهو يصرخ ( أللغة هي ألجمال، ألجمال هو أللغة، هذه أللغة، لغة ألله، لغة ألجنه، لغة ألقرآن. عليكم أن تعرفوها، أن تتقونها كما تعرفون وتتقنون أسماءكم ).

         وجوه ألمقهى مألوفة عندي، وهي لا تثير في ألإنسان أي شيء، بسيطة، عاديه. لها هوايات ممضة وثقيله، لا تتجاوز في طبيعتها ورتابتها أي وصف، إنها ببساطه، هوايات قتل ألوقت. ( فالشده ) ألتي تسيطر على مجموعه، (وطاولة ألنرد )، حالات ألسهوم ألتي تشبه ألإغفاء في أللاشيء، كلها حركات آلية تمارس يوميا، أكثر من مره، وعلى نفس ألنسق. كنت أجلس أرقب هذه ألوجوه ألطيبه، ألوديعة، وهي تناضل ألوقت، ألساعات، برتابة ودون فائدة.

         هم رجال أقعدهم ألزمن، بكل تناقضاته، هم رجال حكم عليهم ألأستعمار أن يذووا ظلما، زورا، بهتانا، من أجل أن يحيا قادمون من ألمجهول مكانهم. زمن الأستعمار هذا، أصدر حكمه عليهم بأن يكونوا عجائز، لا يعيشوا في لحظاته وثوانيه. – بالنسبة لهذا ألزمن – زمن ألاستعمار – هؤلاء لا يعنون شيئا. لذا يجب أن يعيشوا حياتهم ألباقية بين أرقام ورق أللعب وأحجار ألنرد، هذا وقتهم ألآن. أنا أعلم بأنهم جميعا كانوا راضين بهذا ألحكم. رغم علمي أيضا بأنهم لم يكونوا مدركين للحكم ألصادر عليهم إدراك ألمتأمل. كانوا يمارسون ألأمر على أنه حالة طبيعية، لذا فإن إحساسهم بهذا ألحكم، هو إحساس ألتعود ألذي لا فائدة من ألتفكير فيه، أو حتى لا ضرورة لذلك.

         كنت أرثي لهم، ولكن دون أدنى شفقه. أنا أعلم بأن هؤلاء مخ حياتنا كشباب، وأننا بدونهم نفقد نور ألشباب ألمتألق بوجوهنا، وكنت أحس عميقا بأن هؤلاء هم ألأصل، ونحن ألفرع. لذا فإن وجوههم كانت تتبدى لي تزخر بالسماحة والوقار، وفوق هذا كله، ألألفه ألشديدة ألتي كانت قائمة بيني وبينهم.

         لم يكن يثيرني من هؤلاء شيء، ولم يكن ليثيرني أي شيء في ألمقهى، لولا وجود ذلك ألعجوز ألغريب، ألعفن، وذلك ألكلب ألقزم ألراقد دوما بين قدمي ألعجوز ألمنفرجتين.

         كان غريبا عن ألمدينه، لم يبدأ ظهوره فيها إلا من وقت قصير. كان سمينا، مترهلا، كبير ألرأس، أشعث ألشعر، أما أنفه فكان بارزا جدا وبصورة غير متناسقه وكأنه ركب على وجهه تركيبا. أما عيناه فكانتا صغيرتان أكثر مما يجب، وتشبهان إلى حد ما، ثقبا صغيرا في ألأرض، قياسا بأنفه ألمركب، وحواجبه ألكثة ألغليظه. أما أذناه، فهما تشبهان صحنان مليئان. لم يكن فيه شيء سوي، حتى كلبه ألصغير، فهو أيضا يثير ألتقزز، وكأنه أكتسب قذارته من صاحبه أو ألعكس. كانا متشابهين في كل شيء. ويبدو أن كلا منهما كان سعيدا بهذا ألتشابه، فالعفونة ألشديدة ألتي كانت تظهر على رقبة ألرجل بين تجاعيد ألترهل، هي نفس ألعفونة ألتي تظهر على ذيل ألكلب وظهره.

         كنت أحس بشوق عارم لمجالسة هذا الرجل, محادثته, لا يمكن أن يكون هناك شخص يأتي من فراغ. لابد وأن يكون وراءه شيء ما, أما هذا الرجل, فقد كان إحساسي بأن وراءه أمر ما, غير عادي، بأي شكل من الأشكال, هذا يبدو واضحا, ملموسا, من نظرات عينيه, من صمته العميق, بعده عن الناس, مسكته لخرطوم ألنرجيله, إرتجافة أصابعه, سهومه في جلد كلبه فترات طويلة, قذرا ته. كل هذه الأمور تؤكد أن هناك شيئا ما, شيء غير عادي.

         ولكن أنًى يكون لي معه حديث, وهو كالراهب يحيا في صومعة معزولة عن العالم, عن البشر. لا بد وأن يكون هناك مدخل لهذه الصومعة, لكني لحد ألان لم أستطع اكتشافه أبدا. كانت تظهر وكأنها من غير مدخل, حتى كلبه اللعين هذا, يخيل إلي أنه يدرك سبب ألصمت ألذي يغلف صاحبه تماما، لذا فهو يقدسه تقديسا تاما، لا ينبح أبدا. آه كم تمنيت أن أسمع نباحه، حتى ولو لمرة واحده. إذا لوجدت ألمدخل نحو هذه ألصومعة ألحجرية ألصلبه، آه منه هذا ألكلب أللعين. أذكر ذات مرة أني تعمدت أن أدوس ذنبه وأنا خارج من ألمقهى، تعمدت ذلك بصورة وحشيه، قاسيه، فظه، لأحمله على ألنباح، لكنه فطن للأمر، نظر إلي بانكسار واضح، هز ذيله ليسقط ألغبار عنه، وولج بكسل قاتل بين قدمي صاحبه وكأن ألأمر لا يعنيه.

         أما أليوم، أليوم بالذات، فقد رافق إحساس ألغموض ألذي انتابني في ألصباح ألباكر، إحساس متفجر، متسلط، لا بد من خطوة أولى نحو هذه ألصومعه، لا بد من محاوله،  لا يهم إن كان مصير هذه ألخطوة ألفشل، ألمهم أن تبدأ ألمحاولة، (ثم ما ألذي يقف بينك وبينها )؟ قلت لنفسي ( ها هي أمامك، تلمسها بلا رهبه، بلا وجل، بلا خوف، وإن لم تجد لها مدخلا ، عد، عد، لا عيب في ذلك، لكن أن تقف تاركا ألحيرة تنهبك، أن تقف عاجزا، هذا هو ألعيب بعينه ).

         إنتصبت واقفا ونفسي تمور بالرضا والغضب في آن، نظرت إليه بتحد، تأملت وجه ألكلب من جديد، حدقت طويلا في جلد ألكلب ورقبة ألرجل. لم أستطع أن أفرق بينهما. تقدمت وقد أصبح صدري خاويا من كل شيء. ألأسئلة ألتي كنت سأوجهها إليه، ألتخلص من حديثه بسرعة حتى لا تدفعني رائحته للتقيؤ، عضة ألكلب، كل هذه ألأمور قفزت من رأسي، من ذاكرتي، قفزت بعيدا، بعيدا جدا، ومع ذلك تقدمت:

-        صباح ألخير.

         والتفت وجوه ألمقهى نحوي، تملؤها الدهشة، ويملؤها التحسب والتوقع، إنتشر ألصمت مرة واحده، فرقعة ألزهر، إحتكاك ورق ألشده، صوت ألنادل، قرقرة ألنراجيل، أيمان ألطلاق ألمغلظة، كل هذه ألأمور غابت، إنعدمت، دون إنذار أو توقع. وأصبح ألجو مشدودا إلى حد ألتوتر ألخانق، تدلت خيوط ألعرق من خدي إلى عنقي، أحسست وجهي يفح بخارا حاد ألسخونة، ورأيت ألحمرة ألمتفجرة منه أمام عيني.

         تملكني شعور ألعار، ألمذله، حتى أنه لم يكلف نفسه عناء ألنظر إلى وجهي. أنا ألآن لا أطمع في محادثته أبدا، لا يهمني أمره، فقط لو يحرك يده، يشتمني بأعلى صوته، يضربني بذيل كلبه لو شاء. ألمهم أن يخلصني من ألمأزق ألذي أوقعت نفسي فيه، يرفعني من هذا ألوحل ألجاثم على صدري.

-        صباح ألخير يا سيدي.

         خرجت مني رغم تقطع أنفاسي ولهاث ألوحل على صدري فخمة جزله، وكأنها موجهة إلى ملك متسلط، غاص ألوحل بقلبي أكثر. لو يرفع عينيه فقط، لا، لا أريد منه ذلك، فلينبحني كلبه، نبحة مبحوحة، متحشرجة، هذا يكفي. أيها ألكلب أللعين، يا إبن ألكلب، خلصني من ألسخرية ألمرتسمة في ألعيون ألمسمرة نحوي، خلصني ولك علي أن آتيك بكيلو لحم، لحم أحمر لم تذقه منذ زمن بعيد. لكنه لم يشأ، لم يسمع توسلاتي، كنت أقف إنسانا كاملا، أنبض بالحياة، تجتاحني عواصف مدمره من ألأنفعالات والأحاسيس، هذه ألعواصف تكفي إثباتا على إنسانيتي، ولكن دون جدوى. مسحت جبيني أكثر من مره، وبالكاد إستطعت أن أخفي إرتعاشة قدماي. فركت عيني بشده لأزيل غمامة ألعار ألتي بدأت تتشكل فوقي بقوه، خلعت يدي من جيبي، حملت قدماي خطوة، كنت أستند على ألهواء لئلا أقع على ألأرض. هززت ألرجل بيدي بعنف حانق.

         سقط ألرجل على ألأرض، ككومة نفايات ثقيلة لزجه، أسندت نفسي على يدي أللتين إنتصبتا على ألطاولة كعامودين من ألصخر. تمزق ألصمت مرة واحده، إندفع ألجالسون كالذباب نحو ألرجل وأصواتهم ترن في أذني ( ألرجل ميت )، ( مات وبيده خرطوم ألنرجيله )، ( مات، سبحان ألله، ما في واحد عرف أنه ميت ). تقلصت أعصابي، ودب في جسدي تحجر هائل، لم يرف لي طرف، صدمني ألهول ألأتي من ألمفاجئة، شلني شللا تاما، كاملا، حتى ألناس ألتي بدأت تتدافع من ألخارج وأصواتها ألمتداخلة تعلو، لم تدفعني نحو ألحقيقة قيد شعره.

         وصلت سيارة ألبلديه ألخاصة بالموتى، دفعوا بالحماله ألناس ألمتجمهرة بكثافة ليشقوا ألطريق نحو ألجثة، وحين وصلوها قلبوا ألرجل على جنبه بمهارة فائقة ودفعوا ألحماله جانبه، فلما حاذته تماما، قلبوا ألرجل من جديد مع دفعة صغيره، فاستقر ألجسد فوق ألحماله.

         إصطدمت عيني بوجهه وكأني أراه لأول مرة، كانت نظراته ألبارزة من عينيه ألجاحظتين تتجه نحوي مباشرة، نظرات باردة، بليدة، لم يغير ألموت فيها شيء، ومع ذلك نفرت عقرب سوداء كريهة، لدغت شفتي، أفرغت سمها فيها، عصرته عصرا، كدت أختنق لولا ألملاءة ألبنية ألتي نثرت فوق ألجثة فغطتها.

         أندفع ألرجال بالجثة ألمسجاة على ألحمالة من بين ألناس بسرعة، ودفعت ألحمالة بحركة ماهرة داخل ألسيارة. حاول ألكلب ألاندفاع نحو ألجثة، لكن ألباب كان قد أغلق، وعلا نفير ألسيارة فبدا مزعجا، قاسي ألنغمات، وسارت ألسيارة مسرعة. في هذه أللحظة بالذات، علا نباح الكلب بصورة مسعورة وهو يطوي ألأرض وراء ألسيارة لا يلوي على شيء.

         تفرق ألناس وهم يلوكون ألحديث بسيرة ألميت ألغامضة على ألمقهى والمدينه. وعاد ألجميع إلى ما كانوا عليه. فتشابكت قصة ألموت مع فرقعة ألنرد واحتكاك أوراق أللعب. ألموت، موت ألرجل أمر عادي، عارض، ينسى بسرعة مذهلة حين لا تستجيب أرقام ألنرد لراميها، فيبدأ بإرسال صواعق شتائمه على ألحظ ألمقلوب، ثم يهدأ بسرعة مذهلة ليعاود إستغراب قصة ألموت ألمفاجىء.

         تملكني ألملل ألشديد، هاجمتني حيرة حادة لاذعة، أيقظت إحساس ألغموض ألفياض في صدري كزوبعة عارمة محملة بالأتربة والعرق. تفرست ألوجوه ألموجودة في ألمقهى من جديد، بدت لي غريبة، بعيدة ملامحها عن ذاكرتي. ألآن، وفي هذه أللحظة بالذات تعوم صورتهم في بحر ضبابي كثيف، مثلما كانت تبدو لي وأنا أنفث دخان دخينتي بهدوء أمام وجهي، لأحدق من خلال ألدخان ألمتصاعد بكثافة في وجوههم. كانت تبدو آنذاك قاتمة، مترجرجه، تظهر ثم تختفي. ألآن أكاد لا أتبين ملامحها مطلقا وسط بحر من ألضباب ألذي يلفها لفا كاملا.

         خرجت من ألمقهى دون إرادة، ولغير وجهة، يرافقني ألإعياء ألشديد بسبب تقلصات أعصابي، ويأكلني شعور ألمبهم، والنار تلفح وجهي وجسدي بحرارة شديدة، والدخان ينتشر في خلايا دماغي، أسودا، مظلما، يتلوى كعربيد جريح في أكثر من موضع.

         هذه ألمدينة، مدينة طول كرم. أعرفها جيدا، شوارعها، مقاهيها، سياراتها، خيولها، حميرها، قنوات ألمياه ألملتوية بين زقاق ألمخيم، بياراتها، حواريها، حتى مسامات ألأرض ألمسفلته وغير ألمسفلته، أعرفها مسامة مسامه.

         غريبة علي أليوم بكل ما فيها، كل نبضة حب نبضها قلبي من اجلها، أندم عليها، أرثيها. ألشوارع ألتي طالما احتضنت خطاي، أشعر أليوم برغبة عارمة للثأر منها، ومن قدمي. ألمدينة ليست شوارعا، أو كتلا إسمنتية متراصة بجانب بعضها ألبعض، ولا حبة زيتون ناضجة مثل حلم قاتل، ولا عرق زعتر، أو حبة لوز، وليست سوقا تتناحر ألأقدام فيها كي تثبت نفسها فوق شوارعها وأرصفتها.

         ألمدينة هي ألناس، بانفعالاتها، أحاسيسها، بدموعها، فرحها، بدمائها، بروحها وموتها. هي ألتشابك في ألحياة ألزاخرة ألنابضة في ألتضاد ألذي يختلف ليلتقي، ليتوحد، ليصبح كلا، صلته بالجزء معدومة لا تظهر. لكن هذه ألمدينه، بلا قلب، بلا روح، خاوية ألإحساس، تمور بالمتناقضات ألعارمه ألطافية على ألسطح، والمستقرة بالأعماق.

         هي مدينة ألمحبة والكراهية. تنجب في لحظه مئة رجل، لتقتل في أللحظة ذاتها ألف رجل، تعانق ألسماء بشموخها، وتسحر أنوثتها ألرجولة، وتتمطى شبقة أمام دودة. تفيض علما، وتسح من كل جوانبها جهلا، تنعش ألآمال، وتفتك بالأحلام، تضمك لصدرها حنانا، تلفظك فظاظة وقسوة.

         أحبها حبي للجنة، أمقتها مقتي لجهنم، هي فوق ألوصف، وهي لا تستحق أن يقال فيها كلمة.

         مسكين هذا ألرجل، هل كان يعرف عنها شيئا؟ نعم، يقينا. وإلا ما قذف نفسه بأحضانها دون غيرها، ولا، يقينا. وإلا لكان أختار مدينة غيرها، هو ألآن لقمة بأمعائها، تعصره عصرا لتأخذ منه كل ما تبقى، تعتصره بوحشية، بأنيابها ألغوليه ألحادة، لتدفعه فوقها من جديد، شجرة حنظل أو عليق. وربما شجرة مسك أو عنبر. لا أحد يدري، حتى ولا هو. مستبدة هي بكل شيء، حتى أنها لم تسأله، لم تستشره في مثل هذا ألأمر، كم هي قاسيه.

         ولكن ما الجدوى من إستشارته؟ ولماذا تضعه في موقف حائر؟ لماذا تعذبه برغبة ألاختيار؟ فلتتحمل هي مشقة ألأمر، وتدوس على ألإبر والأشواك وحيدة، لتتحمل هي كل ألآم هذا ألاختيار، ثم لتتحمل ولوحدها نتائج اختيارها. أما هو فليرقد بسلام، هانىء ألعين، مطمئن ألضمير، كم هي حانية هذه ألأم؟

         والكلب، ذلك ألقزم ألضئيل ألمقزز، ما ألذي حل به بعد موت صديقه؟ أي مشاعر تتنازعه وتتحداه؟ مسكين هذا ألكلب، كيف سيرتاد الشوارع دون حماية؟ وكيف سيدخل ألمقهى؟ هل هناك من يحس بإحساسه ألآن، هل سيقدم أحد له عزاء بصديق عمره؟ لا، لا أظن ذلك.

         شيء واحد، واحد فقط، هو ألذي انتشلني من دوامة المجهول الأحمق التي استبدت بكل نفسي، شيء واحد فقط، مشهد الكلب القزم وهو مهروس ألرأس على الشارع ودماغه مختلطة بدمائه، وعجل السيارة المطبوع فوق الخليط المركز من الدم والدماغ.

         أحسست النشوة تغزو أعماقي، وعضة الجوع أيقظت معدتي، فانفلت من أفكاري كالسيل حين يفلت من حاجز. عدت نحو البيت ورائحة السمك تعبق بأنفي، وصوت النادل ينساب بأذني بعمق رائق:

         - ( واحد قهوه دبل للأستاذ مركز، ومزبط، وعالكيف ).