لذا أصبحت أناديه أبي...
لذا أصبحت أناديه أبي...
زياد علي خليل الطويسي
كنت في الصف الأول الأساسي حينها ، لم يكن في البيت رجال سوى جدي لأن عمي تزوج ، كان الكثير من الناس يسألوني آنذاك : أين أبيك ؟ فكانت الإجابة لا أعرف ، حتى وصلت بي التخيلات في يوم من الأيام إلى أن للآباء سوقاً يباعون به ، فقلت لأمي ذات يوم بينما كنا في السوق : اشتري لنا أباً ، فضحكت أمي وقالت : وهل يباع الرجال في الأسواق ، فقلت لها نعم : عند سليمان عباس ؛ وهو تاجر كبير ، ما زلت في السابعة من عمري ولم أذكر أني رأيت أبي في يوم من الأيام ، وكنت أظن أن الأبناء تلدهن النساء وحدهن ، لكن الغريب في الأمر أن لكل طالب في صفي أب ، ولكل صديق لي أب إلا أنا لي عم وجد ، فضننت أن جدي هو أبي لكن لشيخوخته كنت أناديه جدي ، تطول الأيام ، وتليها الأسابيع والأشهر وأنا حائر أفكر بموضوع الآباء والأبناء ، فلم تهدئ لي ليلة ، ولم تهنئ لي غفوة ، ولم تنقذني الأيام من مأساة ألمت بي ، حتى الدموع التي غدت فريسة للرمال لم تخرجني باب سجنها المظلم المخيف ، فأخذت أجري في الدنيا كيتيم مات أباه وهو في بطن أمه ، أو كمسيح ليس له أب ، وبعد أن انتهى الفصل الأول من الصف الأول الأساسي لم أعد أفكر بشيء مما مضى لأن البيئة المحيطة بي أضاعت همومي بالألعاب والدمى ، أو بأغنية اسمها (( يا علي )) كنت كثيراً أسمعها عند أول صديق لي في الحياة عمي أحمد وهو أستاذ جامعي الآن ، وفي خروجي من بيته ذات يوم وقفت أمام باب بيتنا أتأمل وقت الغروب ، وبعد دقائق لم تتجاوز أصابع اليد ، وقفت سيارة كبيرة بيضاء ، فنظرت إلى السيارة لأقرأ ما كان مكتوباً على جانبها فقرأت وبصوت منخفض عمان ...عمان ، وبعد لحظات خرج من السيارة رجل يلبس ثوباً بالياً وسترة مُغبرة وله ذقن أسود طويل ، أخرج من داخل السيارة عصى طويلة وأخذ يجري عليها ببطء شديد ، فقلت في داخلي : غريب هذا الرجل ، لم يسبق لي وأن رأيته ، والغريب في الأمر أنه أخذ يتوجه نحو بيتنا ، وأخذ عدد من الرجال يتوجهون نحونا ، حتى أن رجلاً ألقى كيس الخبز على الأرض وجرى نحونا مسرعاً ، اقترب الرجل الغريب منا ، ونزل جارنا حسين من على سطح البيت بسرعة الرعد ، فتوغلتني سهام الخوف ، ومزقتني حبال الهرع والضيق ، فركضت إلى جدي مسرعاً وقلت له : هناك رجل غريب مخيف يقترب من منـزلنا ، فخطى جدي خطوات تشبه خطوات ذلك الرجل البطيئة ، فترك الرجل الأكياس من يديه وجرى نحو جدي وعانقه وقبلّ يداه ورأسه ، ثمّ أمتلئ بيتنا بالرجال من كل مكان ، حتى نفذ كل ما عندنا من شاي وسكر ، وامتلأت سجادة البيت طين وغبار من كثر ما داس أرضها الناس ، فبقيت جالساً في الغرفة وحيداً ، وفي آخر الليل دخل عمتي كسهم أعده الرامي منذ أعوام وأطلقه الآن ، فبتُ أسألها من هذا الرجل ؟ فقالت ببطء : أبوك ...أبوك ، أخرج وسلّم عليه ، وبعد ذلك خرجت عمتي ، وأخذت غطائي واطفأت ضوء الغرفة ونمت حتى الصباح ، ثمّ استيقضت وقت الصلاة لأذهب إلى المسجد مع عمي أحمد ، فوجدت ذلك الرجل يجلس في المطبخ ويشرب الشاي ، فناداني وقبلني وأعطاني عدد من النقود والألعاب ، وفي اليوم الثاني امتلأ البيت رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً ، وكلهم يأتون لتهنئة هذا الرجل ، الذي هو أبي كما قالت لي عمتي ، لم أعد أتذكر اسمه فسمعت الناس يقولون له : علي ، فأخذت أناديه علي مدةَ ثلاثة أسابيع ، وبعدها سمعت محمد ينادي أبيه حسين : أبي ، فأصبحت أناديه : أبي .