جريمة شرف
جريمة شرف
منى محمد العمد
جلست أمام المرآة وأخذت تتزين , سرحت شعرها , وصبغت بالألوان وجهها , فيما يزيد على الساعة , ثم ارتدت ملابسها بعد تردد طويل ولم تنس أن تمس عطرها قبل مغادرة غرفتها.
ـ ما شاء الله , ما شاء الله , وجهك لوحة فنية رائعة الجمال . قالت لها أمها , امتلأت غروراً وأجابت في دلال:
ـ بعض ما عندك يا أمي.
والتفتت لتأخذ حقيبة يدها وتخرج بهذه الزينة كلها......... إلى الشارع.
شعرت أختها الكبرى بامتعاض وقالت لأمها :
ـ اسمحي لي أن أقول لك إنك تتساهلين مع ليلى كثيرا , إنها تبالغ في لباسها وزينتها وأنت لا تعترضين على شيء بل تشجعينها على ما هي فيه .
ـ إنها ما تزال صغيرة .
ـ ولكن هذه الصغيرة قد أصبحت شابة يا أمي والناس في القرية يتكلمون , هل كنت أفعل فعلها عندما كنت أنا في مثل سنها ؟ هل كنتم لتسمحوا لي بذلك أنت وأبي أعاده الله إلينا سالماً ؟
ـ الزمن تغير يا ابنتي , أيامكم كانت مختلفة دعي أختك تعيش مثل بنات جيلها .
قالت محتدة : لكنك يا أماه حتى لم تسأليها إلى أين هي ذاهبة ؟
ـ إلى أين ستكون ذاهبة في ظنك ؟ أكيد إلى صاحباتها .
ـ مَن من صاحباتها ؟ هل تعرفينها ؟ هل تعرفين ابنة من هي ؟ و ما هي ظروفها ؟
ـ هل تريدين أن أتشدد معها مثلك , الدنيا تغيرت و نحن في عصر" الكونوبيوتر" " هكذا لفظتها "
ـ نعم يا أمي و هذا الكومبيوتر الذي تقولين , هل تعرفين ماذا تحدث في سهراتها الطويلة ؟؟
ـ إنها تتعلم وتقرأ , ليست مثلي ولا مثلك , أنها جامعية وعما قريب ستصبح أستاذة , هل تغارين منها ؟
ـ إنها أختي الصغيرة يا أماه وإني أخاف عليها مما أرى وأسمع و خروجها بهذا البنطلون الضيق لا يبشر بخير , وأنت تتركين لها الحبل على الغارب .
_ إنها تحسن اختيار ملابسها , ألا ترينها جميلة ؟ إنها كالدمية , مثل مذيعات القنوات الفضائية, ما شاء الله عليها .
_ وهل قلت غير ذلك ؟ إنها لجميلة ولكن لها جمال الدمى فعلا .
_ ماذا تقصدين بقولك هذا ؟ كأنك تهزئين بي ؟
_ معاذ الله , أنا أقصد أن أقول : إنها حسناء الوجه رشيقة القوام , لكنها يا أمي كالدمية فارغة من الداخل , تسير على غير هدى , بلا هدف تسعى إليه و كل ما يهمها في حياتها هو لباسها وزينتها وعطرها . أليست هذه ثقافة الدمى ؟
ضاقت الأم بكلام ابنتها الذي تكاد لا تفقه كثيرا منه , وقالت ضجرة : هل تريدين مني أن أحبسها في البيت ؟ غدا تتزوج وتجلس في بيتها لا تخرج منه .
_ لم أقصد ذلك أبدا يا أمي , فقد طالما عانيت أنا من هذا الحبس , أريدها فقط أن تعرف ما ينفعها وما يضرها فتميز هي بنفسها بين الخير والشر , فتكون عندئذ أهلا لثقتنا جميعا , أريدها أن تختار صاحباتها عن علم وأن يكون ذلك تحت رقابتك ولو من بعيد , أرجوك يا أمي , إنها لا تسمع نصحي , وخفضت صوتها وهي تقول : وأنت تشجعينها على ذلك .
غضبت الأم وقالت : ربي أنت بناتك كما تشائين و دعيني أربي ابنتي كما أريد .
ـ أنهت الأم الحوار , و تشاغلت ببعض حاجتها بينما أخذت ابنتها الكبرى في تهيئة أولادها استعدادا للعودة إلى بيتها .
مرت أيام عزفت فيها ليلى عن الخروج من المنزل و لم تعد تأخذ زينتها كما كانت تفعل سابقا مما أثار قلق والدتها و سألتها عن ذلك , فتهربت من الرد و تظاهرت بأنها منشغلة بالدراسة , حسبك يا ابنتي لقد أصبحت مثل الوردة الذابلة قومي و غيري ملابسك و اذهبي لزيارة صديقاتك , قامت متثاقلة , وارتدت ملابس محتشمة نوعا ما و لم تصبغ و جهها بشيء بل اكتفت ببعض الكحل في عينيها و خرجت . مكثت ساعة ثم عادت مصفرة الوجه , مكفهرة الملامح وقد خالط الكحل دموعها التي حاولت مغالبتها دون جدوى فسالت سوداء على وجنتيها , و في عينيها انكسار لا حدود له . ضربت أمها بيدها على صدرها و قامت إلى ابنتها تسائلها عما جرى , ألقت الفتاة برأسها على كتف أمها و أطلقت لدموعها العنان .
ـ لماذا تبكين , لا شيء في الدنيا يستحق دموعك الغالية يا حبيبتي .
ـ بل يستحق أن أبكي دما بدل الدموع يا أمي و ازداد بكاؤها ونحيبها .
سألت الأم في ريبة : ما الأمر ؟ هل فقدت شيئا ؟
ـ فقدت نفسي . فقدت ما لا يمكن أن أتعوض منه بشيء أبدا . وجمت الأم ساعة , جمد الدم في عروقها و حملقت في وجه ابنتها كأنما تتثبت من وقوع البلاء ثم دفعتها بعيدا , وهرعت إلى بيت ابنتها الكبرى و هي تلطم وجهها وتشق جيبها وتدعو بالويل والثبور , وعظائم الأمور .
بكت البنت و بكت أمها بكاءً ترق له الحجارة الصلد بكت الأم ندما و ما أحر الندم على مثلها , إنه ليحرق كبدها و مع ذلك فهو لا يقدم و لا يؤخر , نعم قد ينفع عند الله ولكن هل يشفع لها عند الناس ؟؟ تمنت لو استطاعت أن تعود بالزمن إلى الوراء فتمنع وقوع هذه الكارثة , لكن عقارب الساعة لا تدور بالاتجاه الآخر أبدا .
أطلقت زفرة حرى تكاد تذيب الصخر عندما قالت ابنتها الكبرى : يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا . نعم كيف ستقول لزوجها عما حدث وكيف سينظر إليها بعد ذلك ؟ هذا إذا كان سيبقى على زواجهما أصلا فهو الآخر سيلحق به بعض ما يلحق بأحمائه وأخوال أولاده .
ومرت أشهر قبل أن تتحرك ثمرة الخطيئة في أحشاء الفتاة الغريرة , وجاءت تبلغ أمها بما حدث . صعقت الأم وكأنما هي تسمع الخبر لأول مرة , كأنما انتبهت من غفلة استمرت طويلا , ولم تكن غافلة بل لقد كان يسقط قلبها بين ضلوعها قطعا في كل يوم آلاف المرات .
سألت ليلى أمها وهي مطرقة : ما العمل الآن ؟ فثارت الأم وأخذت ترغي وتزبد , وهي تقول : ما العمل الآن ؟ نعم ما العمل ؟ ألا تعرفين ماذا يفعل الناس في هذه الحالة ؟ قالت الأم ذلك ولمعت في عينيها نظرة مريبة فأوجست ليلى في نفسها خيفة , وقالت ماذا تقصدين يا أماه ؟ قالت الأم وهي تحاول إخفاء ما في نفسها : تفعلين فعلتك النكراء ثم تسألين : ما العمل ؟
قالت ليلى : لعلكم تريدون قتلي ؟ نعم هذا ما يفعله الناس في هذه الحالة , يلتزمون الصمت ويغضون الطرف وهم يرون ابنتهم تسير في طريق الشيطان حتى إذا هوت بها الريح في مكان سحيق قام الرجال يتحسسون أسلحتهم ويتحدثون عن الشرف الرفيع الذي لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم , دم الضحية . قالت أمها متسائلة : أأنت ضحية ؟ أطرقت ليلى ولم تجب بينما أضافت أمها كمن يحدث نفسه : ربما كنت كذلك , وربما كنت ضحية أنا أيضاً .
قالت ليلى في أسى : لماذا تركتيني أسقط ؟ كنت أخرج باستمرار. أنت حتى لم تسألي إلى أين ؟ لم تمنعيني من ارتداء الملابس الفاضحة بل كنت تتغزلين بي . ويا أرض احفظي ما عليك . هل تذكرين ؟؟
فقد أصبحت أنا المذنبة إذا , قالت الأم , ثم أخذت بثوب ابنتها تشده بعنف قائلة : وأنت أين كان عقلك ؟ ردت الفتاة بعد موجة من البكاء : الذنب والله ذنبي لست أنكره لكن لكل منكم نصيبه في ذنبي , لكل منكم نصيبه في ذنبي . حتى أختي الكبرى كانت تنصحني ولكن ليتها صفعتني , ليتها منعتني من قتل نفسي . أخذت الأم تكرر عبارة ابنتها , بصوت لا يكاد يسمعه أحد : ليتها منعتني من قتل نفسي ....
ثم قالت لابنتها وقد أزمعت أمرا : غدا سنذهب أنا وأنت إلى التل القريب لنتناقش في الموضوع بعيدا عن آذان أهل البيت ونرى ما يمكننا عمله .
وفي اليوم التالي طلبت الأم من ولدها الأكبر الذي لم يكمل بعد ربيعه السادس عشر أن يوصلها وابنتها إلى بعض أطراف القرية , وهناك جلست الفتاة تحت شجرة بينما تظاهرت الأم بأنها ستذهب لتصرف الفتى , وتنحت به جانبا , وهي تمسك بيدها مسدسا محشوا , فزع الفتى وقال لأمه : ما هذا ؟ ما الحكاية ؟ والتفت إلى حيث أخته والأسئلة تتسابق إلى قلبه ولسانه .
جمدت ملامح الأم وقالت في حزم لم يعهده فيها : أنت لم تعد صغيرا , وأختك ليلى قد أتت ما يلطخ شرف العائلة بالطين , أنت لن تستطيع أن ترفع رأسك بين الناس بعد اليوم , وأضافت وهي تناوله المسدس , ولابد من قتلها تخلصا من عارها . لابد من قتلها . هيا يا عاصم كن رجلا واغسل بدمها عارك وعار الأسرة والقبيلة .
أخذ الفتى السلاح وكلمات أمه ترن في أذنيه ـ لابد من قتلها ـ وهرع إليها دون تفكير لم يسمع لتوسلاتها بل صوب إليها المسدس وأخذ يطلق الرصاص باتجاهها في هستريا , وسقطت الفتاة قتيلة تسبح في دمائها , تدفع عمرها ثمناً لساعة لهو لم تقدر عواقبها . وغير بعيد , سقطت أمها أيضاً تدفع ثمن تضييعها الأمانة أو ثمن جهلها بمسؤولياتها نحو أسرتها.
بعد دقائق وفي مركز الشرطة رن جرس الهاتف .
قال الصوت : أنا عاصم , قتلت أختي , غسلت عاري , أحضروا سيارة إسعاف , أمي غائبة عن وعيها , ربما تكون ميتة هي أيضا ً.