رؤيا الشتات
رؤيا الشتات
بلال الزين
... ... ... وتنحني تأخذ حصاة ترميها في الماء المتلاطم أمامها بلطف ثم تنحني مرة أخرى وتأخذ غيرها ترميها ... ثم غيرها وغيرها ...
تراقب هروب مياه البحر من حصياتها ... تشكل دوائر متناسقة كأنما رسمت بفرجارها القابع فوق مكتبها يعيد لها ذكريات الطفولة ...
ثم تعدل جلستها وكأنما قد ملت من رؤية الدوائر المائية حيث كانت تضع نفسها على صفاة ملمومة الأطراف تحوي بعض التعرجات تثير نظر الهارب من نفسه ومن وقع الحياة اليها .
تثني رجلها اليمنى فتضعها على طرف الصفاة تمسكها بكلتا يديها تحتبي احتباءا كأنما تخاف أن تسقط في الوحل تنزلق أحيانا فتردها تنحني انحناءة خفيفة حتى تثبت ذقنها الناتئ بحدة جميلة عليها تركز نظرها على أطراف قدمها اليسرى الممتدة التي تلاعب رمال الشاطئ .
شمس ساحلية تلسع وجهها الجميل فتضربه بسمرة عربية أصيلة ورياح بحرية هادئة تضرب رمال الشاطئ فتحركها حركة عشوائية كأنما تتخبط بلا هدف تغازل عيناها الناعستان فتجبرها على رؤية باطن جفنيها فيبان طول رمشيهما... وبقلم رصاصي حاد يختط الرسام حوافهما ويرفع يده فيرسم حاجبان رفيعان تعتليهما جبهة لايجد صعوبة في مزج ألوانها فما هي الا خليط من لسعات الشمس ... مع خط بسيط بين عينيها يوحي بنظرة عميقة ... ثم ينزل بيده فيكمل رسم وجهها حواف واضحة ... انحناءات الوجنتين ... وأنف فيه من الدقة وله من الطول مايبرزه كلؤلؤة على جبين تاج .
انعكاس أشعة الشمس عن وجهها تنير الكون المظلم أمامها يوم مولده تلوم نفسها أنها عرفته ... حيث أنه أظلم حين أنارته ... وأقحل حين أزهرته ... وأدلج حين أشرقته ...
كنت أقف على بعد منها أرقب تحركاتها الملائكية وتأملاتها وشجن دفين في داخلي يتلاعب بأعصابي وشيء ما لا أستطيع الافصاح عنه ...
أراقب يدها التي أهملها الرسام حيرة في خط ألوانها ... تمدها تارة و تردها أخرى تحاول انقاذ ذلك الغريق ولكنها تستسلم ويتداركها الضعف مع معاودتها الكرة مرارا وتكرارا ...
ينظر اليها حائرا هل هي جادة في انقاذه أم أنها تتلاعب به ولكن يكفيه الأمل الذي زرعته في قلبه ...
ومع أنه يصارع الأمواج الا أنه كان يشعر بالشفقة عليها ... ولا أظن شفقته الا من ذلك الذهول الذي أشغلني عن معرفة مصيره ... فظل يصارع عنفوان الموج في سهيان من الكون ...
فقدمت بخطوات بطيئة حتى وقفت أمامها فلم تشعر بي ... خطوت خطوة قصيرة الى اليمين ثم أنمت ساقي اليسرى واعتمدت اليمنى ... أرقب عيناها وهي على حالها ... ... ...
كونها الذي لبس عباءته السوداء واعتمر كوفيته واستل سيفه الذي لم يبت في غمده ساعة من حياته معها ... ... ...
وحياتها التي أعلنت الحداد على لحظة هناء ضاعت في معتركها قادت جيش الدموع أمامها ... حتى احتلت أرضها ... فركبت مركبها وأشرعته بالتيهان ... وأتت رياح الحيرة فساقته في بحر الشتات ... فخلدت ذكرى شقائها الذي أدمت عيونه صراعات حزنه عليها ... ... ...
شياطين خوفها ماتت رعبا من الخوف الذي زرعته في خلجات قلبها الذي مافتئ ينبض بدوي شديد أرعب مخلوقات الأعماق البحرية ... حتى ولت هاربة مكانها فقضت نحبها ... ... ...
ضعفها الذي تصارعه داخلها حتى كاد أن يقتلها لولا بقية من قوة وقفت معها ... ... ...
حرصها الذي حاول أن يزرع فيها شيئا من الحذر من نفسها قتلته بكبرياءها حتى لم يبق منه الا خيط سراب من ايمان ... ... ...
الألم والأمل ... الشقاء والسعادة ... التيه واللا تيه ... الحيرة واللاحيرة ... الخوف والرجاء ... الضعف والقوة ... الحرص والكبرياء ...
معان كونية وصراعات أزلية روحية تمثل في داخلها رؤيا الشتات ... ... ...
كل ذلك عجز الرسام عن بلورته في لوحته العجيبة ... بل ولا أظني استطعت له وصفا ... ... ...
كنت أقف كتائه أمامها ... أرى تقلب ذلك في وجهها ... وألوان قوس قزح تسطع في عليائها تارة ... ثم يعود اللون الأسود يمثل بريقا مؤلما في صباحاتها ... ... ...
وفي لحظة من ذلك الصراع بدت لي وكأنها وعت لحالها ... فنظرت الي نظرة غريبة تقرأ فيها كل حرب كونية حتى داخلني شعور غريب كدت حينها ألعن المشاعر ... حين التقت نظراتنا فخفت من نفسينا على نفسينا ثم قامت على عجل وانطلقت هاربة لاتلوي على شيء...حتى اختفت في الأفق البعيد... ... ...
أتت موجة عالية فرمتني في أعماق المحيط ... لا أبكي الخوف قدر ما أصارع التيه في موج من الشتات ... ... ...
أدركت حينها أني كنت ذلك الغريق الذي ... ... ...