رسالة الدجاجات
ياوز آجار /تركيا
أبو سعيد رجل محترم يحبُّ أطفاله، ويهتمُّ بتربيتهم كثيراً. وقد علَّمهم قواعد التعامل مع الناس، ونشّأهم نشأةً جيدةً.
وكذلك زوجتُه، حيث تعتني بأطفالها، وتعلِّمهم المبادئ الإسلامية التي توصي الاحترام للكبار، والحبّ للصغار.
سعيد وشقيقه الصغير صالح يذهبان كلَّ أسبوع إلى القرية لزيارة جدِّهما وجدّتهما؛ لأنّهما يحباَّنهما حباًّ شديداً، ويحترمانهما احتراماً كثيراً. وكذلك أخْتاهما الصغيرتان سعيدة وصالحة، تروحان برفقتهما إلى القرية، فيتمتَّعون جميعاً بالنظر إلى جمال الطبيعة، والورود المختلفة في الألوان والأشكال، ويستنشقون هواءها النقيَّ.
وحينما أتى موعد الزيارة آخر الأسبوع فرح كلهم فرح المغترب الواصل إلى وطنه.
عندما وصل الأطفال إلى القرية، استقبلهم جدُّهم مع جدتّهم استقبالاً حفياًّ، وقبّلوا يدهما في احترام ووقار، ثم انطلقوا إلى البيت ليأخذوا قسطاً من الراحة.
وبعد بضع دقائق، أشارت الجدة لحفيدتيها أنْ تعاليا، فقامت سعيدة وصالحة وذهبتا مع جدّتهما. ورأى ذلك الأخ الصغير صالح، فوجّه سؤالاً لأخيه الكبير سعيد قائلاً:
- إلى أين هن ذهبن يا أخي؟
- ذهبن إلى المطبخ، أفلا تشمُّ رائحة الطعام!؟
ولم يمض وقت حتى أحضرن الأطعمة اللذيذة، إلى جانب الفواكه والمشروبات المختلفة، فأكلوها وشربوها بعافية.
وبعد ذلك، ذهب الجدّ والجدّة مع أحفادهما إلى الحديقة، وأخذوا جولةً حولها. كان في الحديقة كثيرٌ من أنواع الحيوانات والأشجار ذات الفواكه المختلفة. وقال الجدُّ مستقبلاً إلى سعيد:
- أنت تذهب وتجمع الشُّجَيْرات والرُّقاقات في الحديقة، أما صالح فيساعدك. وأما أنتما يا صالحة وسعيدة، فتذهبان وتساعدان جدّتكما في قطف الفواكه ووضعها في السلة.
ولماَّ قام الجميع بواجبهم على أحسن وجه، راحوا يستريحون تحت ظلال الأشجار الوارفة والأعشاب الخضراء. وبعد قليل، خاض سعيد في تفكير عميق وهو مستريح، حيث استحضر في ذاكرته الأيام التي قضاها في هذه القرية الصغيرة الجميلة قبل انتقالهم إلى المدينة الكبيرة المضطربة، وأخذ يكلّم نفسه:
»ماذا خسرنا بتطوّر الحداثة؟! «
»كان لنا بيت أسواره من اللبن، وأساسه من الحجارة، وسقفه من الخشب والأعشاب في القرية، ولكن جوه المعنوي الهادئ كان يملأ قلوبنا بالبهجة، ونفوسنا بالاطمئنان؛ وحديقة كبيرة جدا، فيها أكثر أنواع الأشجار من الخوخ والتفاح والكمّثري والكرز والجوز والصفصاف... وكنا نحفر أرضها ونزرع فيها أكثر أنواع الخضار من خيار وبندورة وبصل وفاصوليا وبطاطا... وكأنها كانت فهرستة أو قائمة جامعة شاملة لجميع أنواع النعم الإلهية على وجه الأرض تذكّر بنا النعم الإلهية الأخروية«.
»وكان فطرياًّ ونظيفاً كلُّ ما نأكل ونشرب؛ كنا نزرع بأيدي أنفسنا ونحصد بها أيضاً، فنأكل الأكلات الفطرية النظيفة بالعافية، وفي الوقت ذاته، نشاهد ألواناً شتى من عجائب صنع الله وقدرته في آيات الإبداع والخلق والتزيين والإحياء والإماتة... على أوجه صفحات الصيف والشتاء والربيع والخريف من كتاب الكون، فنتمتّع بسلامة البدن والقلب معاً«.
»أما في المدينة فشاهدنا الأبنية المصنوعة من الإسمنت والحديد، وناطحات السحاب، والمصانع الكبيرة... وعرفنا الأطعمة الجاهزة والوجبات السريعة، والخضارات بالزراعة المهرمنة (هرمون) والفواكه المصطنعة غير الفطرية، إلا أننا لم نحظ في جوها الصخب بالهدوء والاطمئمان، ولم نشبع نهمنا بالأكلات الجاهزة في المطاعم الكبيرة، كما لم نُروِ غليلنا بالمشروبات الحديثة، بل أُصبنا بكثير من الأمراض البدنية والنفسية التي ما كنا نعرفها في القرية، وأصبحنا كأننا نعيش الحياة الجهنمية وما زلنا على قيد الحياة«.
»وإذ بدأت الفطرة الصافية للإنسانية تبحث عن جنتها المفقودة، يا ليت هناك من مهندسين معماريين وربانيين، ليقوموا بتصميم ميادين الحياة كلها من جديد، وفقاً لقوانين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وليداووا أمراضها البدنية والنفسية«.
وبعد بُرهة من الزمن، قطع عليه أفكاره هذه أصوات لم تعرف مصدرها، فهبّ من مكانه ليرى أن منظراً غريباً شدّ انتباه الأطفال، وأثار فضولهم وحيرتهم، حيث كانت بعض الدجاجات تنقر بمنقارهنّ الروثات، ثم تنظِّفها بالتراب.
ولاحظ الجدّ انتباه الأطفال لهذا الأمر، فأراد أن ينتهز هذه الفرصة، ليعطي لهم درساً، فقال:
- يا أحفادي! يَجِبُ علينا أن ننظر إلى كلِّ شيء حولنا من منظور حسن، حتى نتذوَّق من حياتنا، ونعتبر من كل ما يحدث. فتلك الدجاجات قد يعطيـن – بِأَلْسِنَةِ أَحْوالِهنَّ هذه - درساً مهماًّ لنا؛ إذ كل شيء في هذا الكون، سواء كان حياًّ أو جماداً، صغيراً أو كبيراً، ناطقاً أو صامتاً، يحمل رسالة لهذا الإنسان الشاعر.
عجب الأطفال من قول جدّهم واستفسروا مستغربين مرمى قوله بـ»كل شيء يحمل رسالة«. فرد الجدّ قائلاً:
- أما حدّثتكم من قبلُ رسالة الغراب الذي تجري قصته في القرآن الكريم، إذ يقول الله – سبحانه وتعالى - :
(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، إذ قربا قرباناً، فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر. قال: "لأقتلنك". قال: "إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين". فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال: "يا ويلتا! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب، فأواري سوأة أخي، فأصبح من النادمين). (المائدة: 27-31).
وما قرأ الجد تلك الآيات، حتى تداعت تفاصيل القصة في أذهان الأطفال.
ثم شرح الجدّ مقصده من القول السابق بأن كل شيء آية وعلامة ورسالة من الله – سبحانه وتعالى – إلى جميع الناس. ولكن لا يستقبل هذه الرسالة ولا يحل شفراتها إلا من يستطيع كشف الغطاء عن الظرف الذي فيه، ومن كان قلبه سليماً من الأحكام المسبقة، وعقله جاذباً كالمغناطيس لتلك الرسالة المخفية.
وعاد القول بعد هذا الاستطراد إلى المشهد الغريب الذي شاهده الأطفال في الحديقة، حيث كانت الدجاجات تنقر بمنقارهنّ الروثات، ثم تنظِّفها بالتراب، إذ علّق الجدّ عليه قائلاً:
- أحفادي، يبدو هذا حدثاً صغيراً، وقد لا يكترث به أكثر الناس، ولا يعتبرون منه عبرة، كما قال الله – سبحانه وتعالى –
(وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) (يوسف 105).
نعم، هذا حدث صغير، ولكنه ينطوي على رسائل كثيرة، أنا سأكتفي بذكر إحداها فقط، فحاولوا أنتم بأنفسكم من بعدُ استخراجَ الآيات والرسائل والعبر الأخرى.
- يجب علينا أن نكون مثل تلك الدجاجات تجاه الذنوب والخطايا. الأحسن والأسلم أن لا نرتكب الذنوب ولا نقع في الخطايا، ولكن إذا ما وقعنا فيها بمقتضى بشريتنا، فعلينا الرجوع والالتجاء فوراً إلى الله – سبحانه وتعالى - بالتوبة والاستغفار، كما تنظِّف تلك الدجاجات منقارهن بالتراب والأعشاب بعدما تلطّخت بالروثات قائلات بلسان الحال:
"نتوب إليك يا ربنا، فلن نعيد ذلك مرة أخرى، فنستعين بك في تطهيرها"
- إن الذنوب والخطايا كالخبائث الملتصقة بأرواحنا وقلوبنا، فلا يتمّ تطهيرُها إلا بالتوبة والاستغفار كلما وقعنا فيها.
فرح سعيد جداً لتلك النكتة اللطيفة من جدّه، إذ كان يريد لأشقاءه أن يستفيدوا من أقواله الحكيمة وأمثاله الطريفة، كما استفاد نفسه في الأيام الخوالي وهو صغير.
وكذلك الأطفال استحسنوا هذا المثال كثيراً، وشكروا لجدِّهم شكراً جزيلاً.
وعندما رجع الأطفال من القرية إلى بيتهم في المدينة، وعد كلُّ أحدٍ منهم في نفسه، وقال هكذا:
»سَأَصْقُلُ صدأَ قلبي دائماً بالتوبة والاستغفار«.