سحابة صيف

سحابة صيف

نازك الطنطاوي

كانت الساعة تدق العاشرة ليلاً عندما سمعت أم محمد طرقاً عنيفاً على الباب، فنظرت في الساعة المعلقة على الحائط وقالت بشيء من الخوف والجزع:

- خيراً إن شاء الله..

ثم اتجهت نحو الباب ونادت :

- من بالباب.

وإذا بصوتٍ خفيض يأتيها من خلف الباب:

- افتحي يا أمي.. أنا هند..

أسرعت الأم وأدارت المفتاح في الباب وقالت باستغراب:

- هند !! ماذا أتى بك يا ابنتي في هذه الساعة من الليل؟!

وما إن فتحت الأم الباب حتى ارتمتْ هند على صدرها وهي تجهش بالبكاء.. وبدون أن تتكلم الأم أمسكت بيد ابنتها وأدخلتها إلى المنزل وأجلستها على الأريكة والدهشة تعقد لسانها فهذه أول مرة تأتي هند وحدها منذ زواجها قبل سنة وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل.

ألقت هند بنفسها على الأريكة باكية تندب حظها السيئ.. والأم تنظر إليها بدهشة واستغراب.. ثم ربتت على كتف ابنتها وقالت لها بحنان:

- خيراً يا هند ماذا حدث ولماذا هذا البكاء المر؟ تكلمي يا ابنتي فقد أوقعت قلبي من الخوف..

نظرت هند إلى أمها نظرة استعطاف وقالت بكلمات متقطعة:

- عماد يا أمي.. عماد!!

دقت الأم بيدها على صدرها بخوف وقالت:

- ماذا حدث لعماد؟.. تكلمي يا ابنتي!!

- لا يا أمي لم يحدث له شيء.. ولكنه خائن.. غشاش..!!

تنفست الأم الصعداء وقالت بشيء من الارتياح:

- الحمد لله.. كل شيء يهون ويصغر إلا المصيبة..

وهنا أخذت الأم بيد ابنتها ومسحت بقليل من الماء على وجهها ثم أحضرت لها كوباً من عصير الليمون لتهدئ من روعها ثم تركتها لحظات قليلة تستعيد فيها اتزانها ثم قالت:

- والآن يا هند تكلمي بهدوء وبدون انفعال..

تنهدت هند بألم وحسرة ثم أردفت قائلة:

- لقد تركت له البيت يا أمي دون أن يعرف ولن أعود إليه..

وهنا قالت الأم بحدة:

- ما هذا الكلام الذي ليس له معنى يا هند!!

قاطعتها هند بعصبية:

- كيف تريدينني يا أمي أن أعيش مع إنسان مخادع وغشاش ملّ مني وكرهني وأخذ يتجاهلني..

ثم اختنقت في البكاء من جديد..

تناولت الأم منديلاً من أمامها وأخذت تمسح دمعات تتساقط على خدي هند بدون أي تعليق :

- عماد يا أمي.. منذ شهر تقريباً لم نتناول العشاء سوية.. وكل يوم يحضر متأخراً إلى البيت يسوق الأعذار الواهية، وإذا أردت أن أحدثه يتصنع التعب ويذهب إلى النوم.. لقد وعدني أن يحضر اليوم الساعة السادسة لنخرج سوية.. وهاهي الساعة قد شارفت على التاسعة ولم يأت أو حتى يتصل تلفونياً ليعتذر!

ابتسمت أم محمد وقالت مداعبة:

- أهذا هو السبب الذي جعلك تتركين منزلك وتحضرين إلى هنا؟

- لا يا أمي إنني أتكلم بجدية لقد مللت العيش معه ولم أعد أحتمل أكثر..

قاطعتها الأم بعصبية وقالت:

- تحتملين ماذا يا ابنتي؟!  تكلمي..

- عماد يا أمي يقضي أوقاته كلها في المكتب مع سكرتيرته ليلى.. وعندما يعود إلى المنزل يعاود الاتصال بها.. كما تتصل به أيضاً..

قالت الأم:

- من قال لك هذا الكلام؟! وهل تأكدت منه؟

أطرقت هند رأسها إلى الأرض وقالت في انكسار:

- هو الذي يقول لي عندما أسأله أين كان ومع منْ.. بل إنه يتصل بها أمامي ولا يحسب حساباً لمشاعري وأحاسيسي..

ثم غطت وجهها بكفيها لتخفي دموعها..

أخذت الأم برأس ابنتها ووضعته على حجرها وأخذت تمسح شعرها بحب وحنان وتقول:

- لا تضخمي الأمر يا ابنتي.. إن عماد يكنُّ لك المودة والمحبة فلو أراد أن يتهرب منك لما تحدث أمامك معها ولا هي كذلك.. ولا أخبرك أين يذهب ومع من؟!

ثم أردفت الأم قائلة بشيء من الحزم:

- عندما كنتُ في مثل سنك كان والدك كثير السفر والغياب والانشغال بأعماله.. ولكني صبرت وتحملت وربيتك وأخاك محمداً -أعاده الله من بلاد الغربة سالماً- فكنت أرعاكما وأسهر على راحتكما بدون أن أزعج والدك -رحمه الله- فلم أتذمر من غيابه المستمر عن المنزل ووقفت بجانبه إلى أن أصبح مالكاً للشركة التي يعمل بها زوجك الآن..

قاطعتها هند:

- ولكن والدي كان منشغلاً بعمله وليس بسكرتيرته..

وهنا أجابت الأم على الفور:

- اسمعيني يا هند واعملي بنصيحتي فأنا أمك وأتمنى لك كل الخير لا تدعي الغيرة تسيطر عليك فتندمي يوم لا ينفع ندم.. وتأكدي من ظنونك قبل أن تواجهي بها زوجك أو تقدمي على أي تصرف.. لأن الرجل يا ابنتي يكره الغيرة الزائدة ويشعر بالضيق إذا زادت هذه الغيرة حتى تصبح حياته وكأنه في سجن.. وأنت بغيرتك العمياء هذه تبعّدين المسافات بينك وبين زوجك وتحطمين حبه لك..راجعي نفسك يا هند وأزيحي غشاوة الغيرة عن عينيك لأن الغيرة لا تدع الرؤية واضحة وتهدم أكثر مما تبني..

كانت كلمات الأم تنزل باردة على قلب هند فاعتدلت في جلستها وعلامات الرضى ترتسم على وجهها.

ابتسمت الأم وقالت:

- سأذهب لأتصل بزوجك لنرى حقيقة الأمر.

هزت هند رأسها بالموافقة.. وبينما كانت الأم تهم بالقيام رنّ الهاتف.. لقد كان عماد على الهاتف..

أشارت الأم إلى هند أن تكلم عماداً دون أن تظهر له أي شيء.. وعندما أمسكت سماعة الهاتف جاءها صوت عماد معتذراً متأسفاً عن تأخره وهو يقول:

- أين أنت يا حبيبتي.. لقد اتصلت بالبيت فلم أجدك فعرفت أنك هنا..

أجابت هند ببرودة:

- خيراً يا عماد.. بعد كل هذا التأخير أراك سعيداً ؟!

- أنا آسف على التأخير لأن ليلى غائبة هذا اليوم..وقد نسيت أن أخبرك بأننا مدعوون اليوم إلى حفلة زفافها.. جهزي نفسك فأنا في الطريق إليك.