محاضرة في البرمجة
محمد الخليلي
كانت القاعة جميلة ومجهزة بالتكييف المركزي . امتلأت نصف القاعة بالحضور الذين قارب عددهم على مئة،ونودي باسمه كي يلقي محاضرته النقدية بعنوان : نظرة نقدية في علم البرمجة اللغوية.
كان قد أعد لمحاضرته جيداً فقد عكف على تحضيرها لعدة ساعات وزينها بالشعر نقلا وقرضا،كما جمع الأدلة اللازمة من الآيات والأحاديث ومأثور الشعر .
لم يشعر بالارتباك أبداً في بداية محاضرته لأنه تعود المحاضرة في المساجد والمراكز، وحسبه أنه كان يجد أذناً صاغية وانتباها مشدودا واحتراما لآرائه ،فإذا ماأراد أحد أن يناقشه في فكرة استأذنه فإما أذن له وإما طلب منه تأجيل مداخلته إلى أن يفرغ من إتمام محاضرته .
ولكن ما راعه في تلك المحاضرة المشؤومة عدم التزام الحاضرين بأدبيات وفن الحوار. فلا يكاد يتم جملة حتى يعارضه بها أحدهم وفي بعض الأحيان لاينتظرونه إتمام جملته ، بل يقاطعونه من منتصفها ،ولقد أحس كأنهم قد سُلطوا عليه .
أدى ذلك إلى شيء من الإرباك عند المحاضر فطلب منهم غير مرة عدم المقاطعة ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ً ولكن لا حياة لمن تنادي
قال فيما قال إن فرضية البرمجة الأساسية تقول: وراء كل عمل نية إيجابية .هذا الكلام غير دقيق أيها الإخوة والأخوات، فبالله عليكم قولوا لي ماهي نية شارون الإيجابية في قتل أبنائنا وتشريد شعبنا واقتلاع أشجارنا وهدم بيوتنا وتدنيس مساجدنا في فلسطين .
فانبرى أحدهم قائلاً : إن عمله من وجهة نظره ذا نية إيجابية !!!!
وفي تصحيح آخر لنظرية تقول : لايوجد فشل وإنما نتائج وخبرات قال لهم : أين نذهب بكلمة فشل التي توجد في جميع قواميس اللغة العربية، سيما وأنها وردت في القرآن غير مرة.
قالوا : وما هي هذه الآيات؟
قال الآية الأولى من سورة آل عمران :( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
والآية الثانية من سورة الأنفال :( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) .
فأجابوه بسرعة بديهة : لاعلاقة للآيات التي ذكرت تدليلا على كلامك بفرضية البرمجة المذكورة .
ثم أردف قائلا :إن الفرضية الحادية عشرة للبرمجة اللغوية فيها تعميم خاطىء إذ إنها تقول : (إذا كان أي إنسان قادراً على فعل أي شيء فمن الممكن لأي إنسان آخر أن يتعلمه ويفعله) . وهذه الفرضية أيها الإخوة والأخوات تعارض نواميس الكون التي ذرأ الله خلقه على هذه البسيطة فيها ، بل وتتصادم مع آيات صريحة في محكم التنزيل . ونحن أيها السادة نأخذ من علوم الغرب مايتناسب وديننا الحنيف ،أما إذا تعارض علمهم مع أساسيات شرعنا فإننا ننبذه جانبا .
قالا : وما هي هذه الآيات يا سيادة المحاضر؟
قال الآية الأولى من سورة الأنعام :( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ماآتاكم إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) .
وأما الآية الثانية فهي من سورة الزخرف والقائلة:( أهم يقسمون رحمة ربك ؟نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون ) .صدق الله العظيم . لم يكد يتم الآية الكريمة حتى قال أحدهم :نعم لقد صدق الله العظيم ،ولكن لم تصدق أمثلتك أيها المحاضر المبجل !!!!!
ودعما لإحدى الفرضيات عزز المحاضر هذه الفرضية ببيت شعر من قريضه ،فقاطعه ذو الانتقادات المستمرة قائلا : ولكن هذا البيت مسروق من ألفية ابن مالك ياسيادة المحاضر!!!
رد عليه المحاضر مقسما :تالله لم اقرأ ألفية ابن مالك البتة.
رد عليه النقاد :بل هو مسروق ولكنك حرَّفت فيه قليلا وأصل البيت قد نظم على لهجة تميم .
قال له المحاضر:لك ماتشاء يا سيدي .
وتكررت الانتقادات غير المبررة وغير العلمية والتي لاترتكز إلى آداب الحوار وفن النقاش . فأثناء إلقاء المحاضر لبيت شعر انبرى له النقاد دونما استئذان أو احترام مفنداً :لقد صرَّفت كلمة( نتائجاً) وهي ممنوعة من الصرف، فرد عليه المحاضر دون أن يلتفت إليه: للشعر ضروراته .
وقد ضرب لهم الأمثلة الكثيرة وكلما ضرب لهم مثلا ، إذا هم يصِدون ،وما صدوا عنه جدلا بل هم قوم خصمون .
ولم يكن لهم بد من أن يجادلوا، إذ لم يعهدوا بأحد يعارض فرضيات البرمجة اللغوية من ذي قبل فهم مع قول الشاعر :
فصفق للرئيس ولا تعارض وإن ينطق فقل لافضَّ فوه
وسواء وافقت فرضيات البرمجة اللغوية العصبية أساسيات دينهم الحنيف أم عارضته ،فإنهم مع البرمجة ،لقول الشاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
ولما رأى المحاضر سوء ما يُقابل به من عدم احترام وأدب ، حاول أن يختصر المحاضرة وخرج من القاعة ممتعضاً .
رآه أستاذ له على تلك الحال فسأله عن السبب ؟ فلما قصَّ عليه القصص ،قال لا تخف لقد كنت مع القوم الجاهلين. ألم تسمع يا بني لقول أبي الطيب :
ومن يك ُ ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
قال التلميذ ولكني قد عذت بمدير الندوة غير مرة فلم ينجدني ،فقال الأستاذ: يا بني أنت ينطبق عليك قول الشاعر:
إذا كان رب البيت بالطبل ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
خرج التلميذ من عند أستاذه وهو يردد : أجل والله لقد كانت أشبه ما تكون بحفلة رقص ..أي والله ..أي والله...ولكن لأنني تعلمت البرمجة الإيجابية ونبذت السلبية فعليَّ أن أبرمج نفسي وأوطد عزمي على التعامل مع أمثال هؤلاء السلبيين إيجابياً.