أصيلة...

مدينة لأساطير العشق..!!

محمد الكلاف

أصيلة – المغرب

إلى كل الأحبة : وزنة حامد أوسي – حسين أحمد – رغدة عيد – سيف الرحبي – شاكر نوري - حسونة المصباحي...في الحضور... محمد زفزاف – تشيكايا أوتامسي – وبلند الحيدري ...في الغياب

عذراء المحيط ...عرافة الماء والهواء ، تقرأ بتلقائية أسرار الموج عبر فوهة المحار... في انتظار ذاك القادم من عبق خز البحر... لم تكن أصيلة سوى ذاك القبر الذي يسع كل تلك الأجساد الضالة في موسم التيه... كالقشة جرفتها الأمواج إلى شط المتاهة على المحيط ، فنبتت كالدفلى ، فكانت " أصيلة " الأسطورة : - زيليس كما سماها اليونانيون على اسم إحدى أميراتهم المدللة ... مدينة الكنوز ، كما توهم النور مانديون الذين أرادوا اكتساحها لاستخراج ذاك الوهم ... مدينة البئر المرصودة ، ذات الماء السحري الذي يشفي من كل الأمراض ( ماء الحياة ) ، كما شاع في مخيلة المغامر الجغرافي : " كريستوف كولومبوس " الذي اضطر للرسو بها ، وهو في طريقه إلى أرض الهنود والعبيد ، للتزود من ماء هذه البئر أملا في الشفاء من أوهام الاستكشاف ... مدينة آلاف الحكايا ...

في موسم العري الماجن ، يحج إليها كم هائل من الزوار من جميع الأعمار والجنسيات والأديان والهيئات ، حيث تنبعث كل صيف من رمالها كصغار السلاحف ، تسابق حر الشمس نحو الموج ، صخب عشاق المتعة ، أجساد العري الماجنة ، تعكس نور الشمس كالمرايا ، والعباب يملأ المدى ...

من هناك حيث أقواس بريش ، تتراءى أضواء المدينة عند غفوة الليل ، كنجوم متناثرة في فراغ من الظلمة ، كحبات سبحة مبعثرة ، أو كعقد ماس براق يزين جيد عروس في ليلة زفاف ، تجلس على حافة سرير من الموج في لحظة تأمل ، تغازل البحر في صمت الثكالى ، تغزل من خيوط الذاكرة شباكا لصياديها الذين يركبون صهوة الموت عند كل طلوع فجر ، في رحلة التيه ، تنتعش بنسيم خز البحر ، المنبعث من عمق المحار العالق ببقايا الشباك المتآكل ، المترامي على شاطئ المتعة هنا وهناك ...عند انبلاج الليل لا يسمع سوى نعيق النوارس ، وارتطام الأمواج فوق صدر الأسوار الصدئة تمسح عن خدها ما تبقى من مكياج التاريخ ، لتكون مع فحيح الرياح الغربية سمفونية روحية ساعة الاحتضار ...

لكي تحب هذه المدينة بصدق العاشق الولهان ...اخرج إليها والناس نيام في الصباح الباكر ، لتكون أول من يحضنها ، تحضنه ، فتقبلك أشعة الشمس بحنان في أول اشتعال لها ، والهواء ما زال نديا ونقيا ، يحمل بصمة البرودة البحرية ... اجلس على الأحجار المترامية على شاطئ المتاهة ، وتنفس عميقا أريج الدهشة وأنت مغمض العينين ، وستشعر بحبها ينساب بداخلك انسياب فرحة المكتشف لحب جديد ، حب لن يكون من السهل عليك الشفاء من مرضه والتخلص منه ، لأنه سيتربع على قلبك ، وستجد نفسك كل سنة ملزم بالعودة إلى أحضانها ...إنها مدينة ساحرة ، تدخل كل  القلوب بدون استئذان ...

تهب المدينة للزائر كل الحب بتلقائية ، زرقة البحر ، صخب الموج ، وحضنها الدافئ ... تفتح أمامه كل الأبواب العتيقة لبناياتها القصيرة الواطئة ، ليلج بكل فضول أغوار أسرارها المفضوحة ، قلبها وقلوب كل سكانها البسطاء ، بيوتاتها البيض بنوافذها وأبوابها الزرق المرصعة ، وفرصة الحلم في هدوء ودون أي إزعاج ...

ما أن تطأها قدماه ، حتى ينتابه شعور غريب ، تتملكه وتستهويه بساطتها ، قيمها ، مساءاتها الدافئة ، غروب شمسها نحو الأفق الأزرق المجهول ، حمرة خجل شفق الغياب ، هدوء ليلها الصامت ـ تقاليد أهلها ، تجاوبهم الإنساني ، حسن ضيافتهم ... رائحة الأكلات الخفيفة والشهية المنبعثة من المطاعم المستنسخ على طول امتداد شارع الحسن الثاني الذي يفصل المدينة الجديدة الخارجة عن طاعة المدينة القديمة المسيجة بالأسوار الصدئة ... رائحة الشاي المنعنع الطالعة من مقهى الصيادين( مقهى زريرق) ، حارسة التاريخ والبحر ، والراسخة في ذاكرة كل الثقافات ... رائحة الجير والحناء والصباغة في عرس الكلمة واللون واللوحة ... الأهازيج الكناوية بنغمة الهجهوج ، ورائحة البخور النابعة من الذاكرة الفلكلورية المحلية ( المرحوم : عمي علي ) ، مساحيق التجميل التي تزين شوارعها المتقاربة لصغر حجم المدينة التي يستهويك المشي بين أحضانها سيرا على الأقدام لاكتشاف مرافقها المعدودة ، أزقتها الضيقة ، الواسعة سعة قلوب ساكنتها البسطاء ، الأغنياء بتعففهم ... رائحة خز البحر والشباك وفواكه البحر النابعة من مطعم ( بيبي ) و (غرسيا ) بالشارع الطويل ، تفتح شهية كل شبعان في جزيرة الجياع بقناعتهم ، رمالها الذهبية التي تستهوي كل الأجساد المجردة ، في موسم التيه العاري ...فتهب الزائر زرقة البحر ، وحضنها الدافئ ، فتستحوذ على مشاعره ليحبها بعنفوان إلى حد الوله ، ويعيش لحظات وأيام حارة ، حرارة العشق والهيام...

لحظة الوداع الاضطراري ، يشعر الهاجر لها ، بالدمع اللاإرادي يستوطن محجريه ، رعشة الحزن تتراقص بين أحشائه ، دقات قلبه تتسارع لتسابق الآهات الصاعدة من حرقة الفراق ... في عناق روحي ووجداني ، يبكيها وتبكيه في صمت ... لا يودعها بقدر ما يتوعدها بعودة مرتقبة وقريبة ، ما دام كل آت قريب ، وما دام الزمن يطوي الأيام كطي السجل للكتاب ...

بعد لحظة الهجر ، تلبس ( أصيلة ) حزنها ... تنزوي في عمق تنهداتها ، ترنو إلى الأفق الداكن مشيعة كل الراحلين ، يتعالى صخب الأمواج بفعل عتو الرياح الشتوية الماطرة ، يتخطف بصرها بين الفينة والفينة ، وميض البرق ، دوي الرعد ، تبلل شعرها قطرات المطر ، تنحدر عبر وجنتيها لتغسل ما تبقى من مساحيق التجميل ، لكنها لا تبالي ما دام هناك أمل بزوغ شمس موسم جديد ...وعودة النوارس من مجاهيل التيه ... ويبقى ركح المدينة مشرعا على الغياب ، ما دام هناك انتظار