حرامي من الداخل

قاسم كيلاني

دخل حسون خلسة إلى غرفة والد ه على حين غفلة من أهله الذين كانوا مسمرين أمام شاشة التلفزيون منشغلين بمسلسلهم المفضل . د س يده في جيب والده فأخرج حفنة من الليرات المعدنية عجزت كفه عن حملها .

أخفى أربع ليرات في جيبه  وأعاد الباقي ؛تنحنح وثنى عطفه، وأصلح هندامه، وخرج مسرعا

يريد الوصول إلى باب الدار. قطع الصمت المطبق على صالة الجلوس رنة ليرة معدنية على الأرض

سقطت من جيبه المثقوب ثم تلتها ليرة أخرى استقرت تحت قدمي والده ؛جحظت عيون أهله دهشة واستغرابا حتى كادت أن تخرج من محاجرها، وفغروا أفواههم من هول مارأوا  وما سمعوا ،تيقن أنه قد

انفضح أمره وانكشف سره؛ فاستبق الباب ليلوذ بالفرار من فعلته الشنيعة؛ فسقطت ليرة أسرع أخوه الصغير فالتقطها ودسها في جيبه أحس حسون كأن قلبه المذعور تدحرج تحت قدميه ليلحق بالليرات المعدنية على الأرض ، وقبل

أن يصل إلى الباب مر بالقرب من رأسه حذاءضخم دوى في أ ذنه كأنه قذيفة مدفع ،ثم تلاه حذاء

آخرتوسط رأسه فترنح ترنح  السكران وخر على وجهه دون حراك . انهمرت عليه زخات من الأحذية

الثقيلة ؛ والخفيفة ثم تبعها لكمة ؛ثم لكمات ثم ركلة ثم ركلات

.هدأت نفسه قليلا، وشعر بشئ من الطمأنينة

والارتياح عندما انكبت عليه أمه وهي تصرخ بهم : (خافوا الله الولد راح يمو ت بين ايدينكم) ثم انتهى إلى

سمعه  صوت جدته المتهدج الضعيف تخاطبه برقة وحنان(عيني حسون معقول تبوق

أبوك ماكل مرة تسلم الجرة ياعيني . ) انتفخ وجهه ؛و تغيرت خارطتة ؛ وتناثرت على صفحتيه بقع

زرقاء؛ وأخرى حمراءوانطبع على وجنته اثرنعل حذاءوالده  القاسي الذي لايرحم . قفزت إلى ذهنه فكرة

عفريتية حاول أن يشحن بها قلب أبيه وإخوته بالعطف والرقة لحاله ؛ فأخذ يئن أنينا مفجعا يلين له

الحديدالصلد وتتشقق له الحجارة الصماء رقة ورحمة ؛ثم أخذ يضرب

  برجليه الأرض بحركات هستيرية كطائر مذبوح أوكالذي تخبطه الشيطان من

المس . ولما  لم يرق لمأساته المريرة أحد ،همد على الأرض ولبد .لام نفسه أشد اللوم على فعلته المنكرة  ؛وعرف من هذه التجربة الأليمة أن

السرقة فعلة أثيمة ؛ وعاقبتهامخزية وخيمة ،ثم لام والده وإخوته الذين أبرحوه ضربا مذلا مخزيا لم يضربه

حمار في مطلع . وكان أشدذلك  وقعاعليه وإيلاما له حذاء والده المرعب الذ  أعياه من كثرة تردده

++

على الحذائين لإصلاحه حتى يبس جلده من طول العهد وتضخم وكبر فأصبح حذاء أبي القاسم الطنبوري قزما أمامه. وعتب على أمه

 لأنها لم تصلح ثقب جيبه الذي كان سبب البلاء الذي وقع على رأسه وكان قد طلب منها إصلاحه مرارا ولكنها كانت تنسى كما هوديدنها وعادتها . فتح نصف

عينه وأخذ يراقب بها ماحوله مراقبه فاحص حذر، أحس بأن الهدوءيلف المكان ، وأن الزوبعة الهوجاءالتي

ثارت ثائرتها قبل قليل والتي كادت أن تخطف روحه قدهدأ ت حدتها،،وأن الحرب الضروس المستعرة

عليه قد همدت نارها، وخمد أوارها ،فهزت نفسه فرحة غامرة    

كادمن نشوتها أن ينتصب قائما  لولا أن تدارك نفسه فتشبث في الأرض كأنه جثة هامدة.  لم يكتب لهذه

الفرحة المتعوسة المنقوصة الحياة ، فقد وئدت  أوان ولادتها ، وأزهقت قبل أن يتمتع بلذتها وحلاوتها ،فقد راعه طرق عنيف

على الباب؛ وجلبة وأصوات منكرة كاد قلبه أن ينخلع لها رعبا ،مالبث أن دخل عمه وأولاده مندفعين إلى

صالة الداركالسيل العرم أو كثيران هائجة أفلتت من حظيرتها بعد طول احتباس. وصم أذنيه صوت عمه

يهدر كموجة تسونامي ا رتطمت بشاطئ البحر:( شو صار عليكم أصواتكم واصلة لآخر الشارع عسى ماشر؟) تصدى له  أخوحسون

الصغير فأجابه ببراءلأطفال : ( عمو . حسون سرق من جيب أبوي مصاري و أكل قتلة أخت الموت  )

 أحس حسون بعدها كأن الأرض تزلزلت من تحته، وكأن قاصفا من الرعد والبرق أظله من فوقه ،فقد

هجم عليه  عمه وأولاده يمطرونه بوابل من اللكمات؛ والصفعات؛ والركلات ولم يتركوا في قاموس الشتائم والسباب لفظة

 نابية ولا كلمة قاذعة إلا قذفوه بها.

 عادت الحرب جذعة، واستعرت نارها ،غير أنه هذه المرة لم يستعمل فيها سلاح الأحذية الفتاك . أفاق حسون من هذا الكابوس المخيف الذي بدا له كانه فلم رعب لم تكتب له نهاية .خيم على نفسه سحابة من   القلق المزعج فقد خشي ان هذه المعركة لن تضع أوزاها، ولن   ينقشع غبارها ، فتكون مثل حرب البسوس أو مثل داحس والغبراء تتجدد كلما تجددت ذكراها.

وجد نفسه ممددا على سريره وأمه إالى جانبه تمسح جبينه برقة ولطف وهي تقول بصوت يقطر

حزنا وأسى :( شلون صرت ياعيني .حسون ماتعرف إنو البوق حرام  . معقول تسرق من أبوك لوانك بعهد

الرسول  صلى الله عليه وسلم كان قطعوا إيدك  ) فتح عينيه المتوررمتين وقال لها بصوت خافت متقطع :

( في حدا جاي من قرايبنا ، ترى ماعاد أتحمل ضرب ) سكت هنيهة ثم قال بنبرة مستنكرة : (العمى هيه أربع ليرات وانعجنت عجن  لو كان أخذت عشرين شوكان صار. ) شهقت أمه شهقة قوية وقالت

 معنفة له : ( اسكت ياحزين كان شنقوك) دس حسون رأسه تحت الوسادة مذعورا وهو يتصور نفسه

.يتأرجح على حبل المشنقة.