مواطن عربي

عصام أبو فرحه

[email protected]

من وسط الجموع التي أحاطت به , يقف على رؤوس أصابعه ويرفع رقبته ليتمكن من رؤية ذلك الرجل , وما أن يلمحه حتى يعلو صوته من جديد :

- أنا مواطن محترم , أنا إنسان , ألا تعرف ما تعنيه كلمة إنسان ؟ كيف تصفني بهذا الوصف المهين الجارح ؟ أما عرفت أن الإنسان لا يقدر بثمن ؟

سرعان ما يختفي ويغيب هو وصوته بين المحتشدين , مرت أكثر من نصف ساعة وما زال أسعد على حالته تلك , يقف في مجمع سيارات الأجرة , يصيح في وجه أحد السائقين الذي وقف مذهولاً عاجزاً عن تفسير ما يحدث , تحولق الناس حول أسعد , بعضهم يسمع ويضحك , وبعضهم يسخر منه , وبعضهم يصب بعض من وقود الفتنة على النار المشتعلة ,

في هذا اليوم وصل أسعد إلى بلده بعد غياب دام أكثر من عشرة سنوات , عاد يحمل شهادة عليا في تخصص علمي نادر , عاد رغم العروض والمغريات التي تلقاها في تلك البلد , فبلده أحق بعلمه , وأهله وناسه أحق بجهده , أقلته سيارة من المطار إلى مجمع السيارات في مدينته مسقط رأسه , هو من طلب من السائق أن ينزله في المجمع , فلقد اشتاق إلى كل شيء في مدينته , اشتاق إلى ركوب سيارات الأجرة وزحام الشوارع , اشتاق إلى الجلوس في السيارة وسماع صوت السائق ينادي باسم الحي الذي عاش فيه طفولته وشبابه  , اشتاق لمراقبة وجوه القادمين نحو السيارة وتتبع خطواتهم ,

وصل إلى السيارة وجلس فيها , راح يتأمل بشوق وحنين كل ما يدور حوله , حركة الناس , وجوه بائعي الكعك والعلكة , أصوات السائقين المنادين لملأ حمولة سياراتهم , كل ما رآه كان يبعث السرور والغبطة في نفسه ,

لكن تلك الكلمات التي سمعها من السائق الذي ينتظر معه في السيارة بددت أجواء الطرب والنشوة التي كان ينعم بها , كلمات سمعها حينما أجاب السائق على زميل له جاء مستفسراً عن الدور وحركة الركاب , فأجاب السائق : الحركة ليست كما يجب , لن انتظر كثيراً , معي في السيارة دينار يجلس في الخلف ( قالها وقد أشار بإصبعه إلى أسعد ) , سأنتظر قدوم دينار آخر وأمضي , حينها نزل أسعد من السيارة وصاح في وجه السائق :

ماذا تقول ؟؟ لم أسمعك جيداً , أنا دينار ؟؟؟؟؟  أم أن الأجرة دينار ؟؟؟؟

قال السائق ببساطة وبصوت منخفض : وما الفرق يا سيدي ؟؟

حينها بدأ أسعد بالصراخ حتى غاب في وسط تلك الكتلة البشرية الضخمة التي أحاطت به من كل جانب  , يطل برأسه ويواصل كلمات التوبيخ والعتاب والاستنكار :

هذا كل ما يعنيه لك الإنسان ؟؟ دينار  ؟؟ وافرض أنه لا يملك ذلك الدينار , فكم سيكون ثمنه في رأيك ؟ أيها الأحمق أما علمت أن دنانير الدنيا لا تساوي ظفر إنسان ؟

ظل أسعد يصرخ ويصرخ , واصل المحتشدون توافدهم , ظل السائق يرقب الحدث باستغراب وذهول حتى سمع نداء عامل المجمع يخبره بأن حمولته من الركاب جاهزة وعليه التحرك ,

 غاب السائق عن المكان , انخفض صوت أسعد , أعداد المتفرجين تقل شيئاً فشيئاً  , حمل أسعد حقيبته ومضى يشق الطريق بخطوات متثاقلة , يتمتم بصوت منخفض وبنبرة تهكمية :

الإنسان في نظره دينار , يا له من أحمق سخيف , يجب أن يتعلم الأدب , يجب أن يعرف قيمة الإنسان , لن أتركه , سأعود إليه ذات يوم كي أعلمه ما قيمة الإنسان في وطنه ,

بعد مضي عام كامل , وفي الصباح الباكر , عاد أسعد إلى مجمع سيارات الأجرة , عاد حاملاً حقيبته , ذات الحقيبة التي كان يحملها في ذلك اليوم , يلبس بدلة سوداء , ذات البدلة التي كان يلبسها في ذلك اليوم , راح ينظر في الوجوه , ينحني ليطل من شبابيك السيارات , يلتفت حيث أصوات السائقين ,

إلى جانب إحدى السيارات وقف أسعد وقد وضع حقيبته إلى جانبه , انحنى حتى أدخل رأسه داخل السيارة من خلال شباكها ,

- صباح الخير يا معلم , قالها أسعد بهدوء وألحقها ابتسامة عريضة ,

- صباح النور يا سيدي , أية خدمة ؟

- هل تذكرني ؟؟؟؟

- لا , مع كل أسف , لا أذكرك ,

- أنا الدينار , أقصد أنا من قلت عنه ديناراً , الصراخ , الناس , العراك , ألا تذكر ؟

أرجع السائق رأسه إلى الخلف قليلاً وحدق في محدثه , أطال النظر في وجهه , يشخص ببصره إلى الأعلى قليلاً  ثم يعيده إلى وجه أسعد , فجأة ضرب مقدمة رأسه بكف يده وقال :

نعم نعم , أنت ذلك الرجل الذي غضب من كلمة دينار , أنت من عمل لنا عرساً من لا شيء , والله ما كنت أقصد الإهانة حينها , أنت من ضخم الأمر , وما بالك تعود بعد مرور كل هذا الوقت لتذكرني بما حدث , أم هل جئت لمشاجرتي من جديد ؟؟؟

- لا يا أخي , لم آت لشجار أو عراك , أنا مسافر إلى حيث كنت , جئت لأودعك ولأشكرك قبل سفري , ولولا أني وجدتك لانتظرت قدومك , فقد عزمت ألا أغادر إلا بعد أن أشكرك , فأنت أكرم وأنبل من قابلتهم وتعاملت معهم خلال عام كامل أمضيته في الوطن , فلقد قيمتني بدينار ,

وما كنت أدري أن قيمتي في وطني لم لن تصل إلى مبلغ كهذا ولا بأي حال ,

حمل أسعد حقيبته ومضى يتمتم بصوت منخفض : أشكرك على كرمك يا سيدي , أشكرك , أشكرك .