عندما يأتي المساء

عندما يأتي المساء

فاطمة المزروعي

في المساء، ترى ذلك الزقاق الصغير مملوءاً بالمارة العائدين من جولاتهم كالمعتاد، تلتفت يمنة ويسرة، ترى الكثير من المشاهد المتكررة يوميا، مجموعة من الصبية الصغار يعدون بعضهم خلف بعض، يتضاحكون بصوت مرح، الأصوات الصاخبة ترتفع من مقهى صغير في وسط ذلك الزقاق وبيوته الحجرية القديمة، قد ترفع ناظريك أحيانا مثلي فتحملق في الوجوه التي اعتادت الجلوس في ذلك المقهى، عندها ترى ملامح أعمل الزمن فيها فأسه، تتخيل أن ثرثرة الرجال ستصبح مخلوقاً خرافياً بإمكانه القضاء عليك أينما كنت.

اعتدت أن أمرّ أمام ذلك المقهى وأنا عائد من عملي. رائحة القهوة تفوح لدرجة تظن معها أنها تطبخ في أنفك، يأسرك تدفق الحياة في الزقاق فتقترب أكثر وأكثر من المقهى وتنظر إلى أرجائه بتمعن، هناك على مقعد خشبي تراه جالسا في أواخر الخمسين من عمره، تقوس ظهره ووهنت ملامحه، تقترب منه تجده وحيدا، كلا، لم يكن وحيدا هناك، كومة كبيرة من الجرائد القديمة موضوعة على الطاولة بجوار كوب الشاي يقرؤها بنهم شديد، في البداية كان أهل الزقاق ينظرون إليه بحذر، يتفحصون ملامحه التي أصبحت مهددة بالخريف، يحاولون التوغل إلى عينيه الحادتين، محاولاتهم تفشل، كثيرون جازفوا بالاقتراب منه، تحدثوا معه، سألوه عن كومة الجرائد التي ينهال عليها بالقراءة كل مساء، فلا يتلقون إلا تحرك شفتيه برنين متصل، بكلام غير مفهوم، حسبما يترجم الكلام إلى عقولهم، يتحدث عن أشياء قد تبدو بالنسبة إليهم خارقة، مجهولة، خفية. مع الأيام ابتعدوا عنه، نفروا منه، أصبحوا ينظرون إليه بتوجس وخيفة، أحدهم قال إنه ليس من أهل الحي، وآخر أقسم أنه يراه يختفي في الظلام عندما يترك المقهى، ولا يصعد إلى بيته الذي نراه نازلاً منه في الصباح.

ظل هكذا سنوات وسنوات حتى كثرت الشائعات حوله، تناقلتها الأفواه، فاختلطت بعضها ببعض، وجعلت منه شخصية مستعصية. طوال السنوات كنت أرمقه في شغف، أتابعه بولع مكبوت، وعيناي تحدوهما الرغبة في النظر إليه والجلوس معه، أسمع الهمس الذي يدور حولي، فيتفاعل في أعماقي ويتحول إلى ما يشبه الحكايات التي كنت أسمعها من جدتي، مثيرةً في خيالي الفضول والخوف معا. أتذكر أنني حينها كنت في الثانية عشرة من عمري، كثيرا ما أحاول الاقتراب منه، أتفحصه بعيني، لم يلحظ نظراتي، ولكن تكرار قدومي ووقوفي بجوار المقهى جعله يدعوني للجلوس معه، ترددت ولكن لهجته كانت أقرب إلى الأمر، دفعني الفضول إلى المجازفة، فجلست.

تكررت اللقاءات بعفوية وكان بعضها جلوساً صامتاً، والأخرى كلاما أفهم أقله، لكنني وكأنني كنت على دراية من قبل بهذا العالم الذي يمثله هو، فلم أشعر بغربة من عدم فهمي للكثير مما أطلع عليه. عَلِم والدي بالأمر فمنعني من الخروج من المنزل، ولكنني عدت إليه بدافع من الاحتياج الشديد بسبب الفراغ الذي بدأت أشعر به تجاه نفسي قبل أن أتعرف عليه. شعرت بأن هناك شيئاً ما يربط بيننا، ربما في الملامح، أو نبرة الصوت والأفكار، عشقت جرائده العتيقة التي أكل الدهر منها الكثير، ويكاد يأتي على ما تبقى. لم يحتمل والدي عصيانه، فضربني حتى كاد يسبب لي عاهة، ولولا والدتي لكنت في عداد الموتى، وأخيراً وجدت نفسي أنسحب بالرغم مني. مرت الأيام كعقارب الساعة، لم أستطع إيقاف الثواني أو الدقائق، صحيح أنني حاولت أن أتعثر في عقاربها المسرعة ولكنني كنت أتراجع وأنفاسي اللاهثة تعبّر عن سخطها بمحاولاتي العديدة الفاشلة.

أعود من الكلية عند المساء، أجده جالسا على مقعده، أتمعن في ملامحه، وأرى كيف يحتضنه الزمن بوداعة، شعر أبيض، وسَكينة لا نهائية. يرفع رأسه، يلمحني، أخفض عيني، أنسحب إلى منزلي، أنفاسي تتابعه في لهاث متقطع، وصورته تغزوني، ودائما أحاول أن أبعدها عني بيدي، دائماً وبلا فائدة.

تخرجت في الجامعة بامتياز، شدتني الحياة إليها بكل مفاتيحها ومغاليقها، رحت أغوص في كل شيء جميل فيها، وقبيح أيضاً، تزوجت وابتعدت عن الزقاق. مرّت السنون، حتى شعرت بأن الزمن قد تمكن من رأسي ولم تعد لأفكاري أي فائدة، فاستبد بي الحنين إلى الزقاق، وراحت قدماي تقوداني إليه. وجدت المقعد خاليا، سألت عنه، فأكدوا أنهم لم يروه منذ مدة طويلة، حتى أنهم شككوا من الأصل في وجوده بيننا. شعرت بأن مقعده يناديني، فأصبحت كلما يأتي المساء أحمل كومة جرائد أشتريها من بائع متجول للأشياء القديمة، وأنكبّ على قراءتها سطرا سطرا، .. أهل الحي يرمقونني بنظرة رأيتها من قبل، يسألونني أسئلة ليست غريبة عليّ، حتى إذا كان ذات مساء رفعت رأسي فإذ بي ألمح طفلاً في نحو الثانية عشرة من عمره ينظر إليّ بفضول، فأعود إلى تفحص جرائدي كما كنت أفعل كل مساء.