رسالة بالعربية
رسالة بالعربية
بقلم : محمد علي شاهين*
عندما يختفي القرميد الأحمر تحت طبقات الثلج المتوهج، وتتدلى قناديل الفضة الجليدية فوق أغصان غابات حوض (الإمس) وتأوي العصافير التي لم يحالفها الحظ بالهجرة في وقت مبكر إلى شقوق الأشجار، وتواصل درجات الحرارة انخفاضها، تستعر حرارة أعياد الميلاد، وتنشط المحطة الصغيرة لقطار الشمال بالقادمين لقضاء إجازاتهم السنوية بين ذويهم، وتحفل الأسواق بشتى أصناف البضائع التي تروق لأبناء القرى في المناسبات السعيدة .
ويتوجب على زائر مستشفى (ميبن) الوحيد السير من المحطة باتجاه برج الناقوس المربع المطل بقلنسوته الحمراء على سفن الشحن الصغيرة التي تمخر النهر في حركة دائبة، تحت الجسر المتحرك .
ولا بد لهذا الزائر القلق، المدثر بمعطف صوفي سميك، من التوقف أمام المحال التجارية، وقد دبت الحركة في أوصالها، رغم شدة البرد، ورزاز المطر الدائم الهطول، لمشاهدة شجرة عيد الميلاد، وهي في أجمل حلّة، قبل أن يغزّ السير متثاقلاً بحذائه الرطب، باتجاه البوابة الرئيسية للمستشفى، منطلقاً بكل إحساسه للقاء صغيرتين جميلتين، ترقدان على سريرين متجاورين بالدور الثاني، فقدتا أمهما في حادث سيارة يقودها سائق أرعن مخمور، وأصيب والدهما بإغماء متواصل، بينما ظل قلبه ينبض بالحياة في غرفة العناية المركزة .
امرأة في الستين من عمرها، ولولا الابتسامة المطبوعة دائماً على أسارير وجهها الشديد الحيوية، لزدتها عشر سنوات أخرى، كانت لا تنقطع عن زيارة الطفلتين، ولا تبخل بحنانها، وبما يتهافت عليه الصغار من ألعاب وحلوى .
وجودها الدائم إلى جوار الطفلتين جعلهما يتعلقان بها، ويتلهفان لموعد قدومها .
سألتها بالألمانية في لغة ركيكة كنت قد تداركتها في بلدي، مبتدئاً بكلمة (من فضلك) التي يحرص الألمان عليها عن علاقتها بالأسرة المنكوبة، وعن سر اهتمامها بالطفلتين؟
قالت في عبارة أنيقة: ما كنت أعرف عن العائلة شيئاً، ولم يسبق لي أن التقيت بهذه الأسرة من قبل، حتى حدثني ولدي الوحيد عن الحادث المؤسف، فتأثرت كثيراً .
وبدت علائم الحزن على وجنتيها، حتى كادت تنفجر باكية، فقاطعتها مواسيا، والحزن يعتصر فؤادي:
أشكرك يا سيدتي على إنسانيتك وكرمك، وأرجو ألا ترهقي نفسك بهذه الزيارة اليومية .
فإذا بالدموع تترقرق في عينيها من شدة الانفعال والتأثر .
ثم أضفت قائلاً: لقد أحضرت المزيد من الهدايا، فأرجو أن تكتفي بهذا المقدار .
قالت: كل ما قدمته من هدايا، شيء تافه، لا تشغل نفسك به .
قلت: هل تسمحين يا سيدتي أن أقدم خالص امتناني لمعروفك، وأرد على زيارتك ؟
فعادت البسمة إلى وجهها، والتقطت من حقيبتها الصغيرة قلماً خطت به عنوانها بالألمانية، وبحروف واضحة.
وكنت كلما التقيت بها في غرفة الأطفال بالمستشفى أزداد لها احتراماً، وتزداد الصغيرتان لها حباً .
انقضت مدة العلاج، فغادرت الصغيرتان المستشفى، وانقطعت السيدة عن لقائهما، فعزمت على تحقيق وعدي لها بزيارتها في منزلها بالشارع الرئيسي، قبل رحيلي عن (ميبن) .
كان العنوان شديد الوضوح، فتمكنت من العثور على المنزل بسهولة ويسر دون الاستعانة بالمارة كعادتي .
قرعت الباب بلطف أتأبط باقة صغيرة من الزنابق البيضاء، وأنا أجهل معنى ألوان الأزهار وأنواعها، لأنني من بلد يتهادى الناس فيه بالفاكهة، والحلوى، والأدوات المنزلية أحياناً .
قلت لها بكل تواضع واحترام وقد خفّت لاستقبالي بحفاوة:
أرجو أن تتقبلي هذه الهدية المتواضعة، ودعوتها لزيارتنا باسم أسرتي، ووعدتها برسالة من الوطن بعد عودتي مع الطفلتين .
وكانت رسالتي إليها مملوءة بمعاني التقدير، حرصت على تنميقها بالعربية، وحرص صديق لي أمضى نصف عمره في طلب العلم، وغسل الأطباق ـ دون جدوى ـ على ترجمتها بتصرف .
دعاني حظي العاثر لدخول معترك التجارة، في فترة حل الكساد فيها على أصحاب البيوتات التجارية العريقة، وكانت حرفة الأدب التي أتجمل بها قد أصيبت بالضربة القاضية، من الجولة الأولى، وغدت أوراقي موضع سخرية المغفلين الذين يقبضون كثيراً ولا تظهر عليهم آثار النعمة، وكان الكساد الذي ضرب متجري المتواضع ماحقاً، وكان يعني مزيداً من إهمالي للتجارة، وكثرة زيارتي للأصدقاء، وعيادة المرضى منهم .
ومن المفارقات أن حادثاً مروّعاً وقع لسيارة مسرعة كانت تنقل مجموعة من السياح الأجانب، على الطريق الصحراوي، أودى بحياة عدد منهم، وكان شاب من رفاق الرحلة قد أصيب بنزيف شديد، قدّمت له الإسعافات على عجل، واضطرت إدارة المستشفى عبر شبكة التلفاز الداخلي إلى دعوة الزائرين الذين يحملون إحدى زمر الدم النادرة لمراجعة بنك الدم، بعد استنفاذ الكمية المخزونة لديه، وكنت دائماً من هواة جمع الأشياء النادرة .
وفي العيادة قدّمت ما طلب مني راضياً، وفي خيالي صورة السيدة الفاضلة.
وتمر الأيام مسرعة وأعزم على تقليد (سيدة ميبن) للاطمئنان على الشاب الذي تماثل للشفاء، فكان سروره بي عظيماً، وأصرّ على إعطائي عنوانه، وهو يظن أنني من هواة المراسلة .
فتحت دفتر العناوين الصغير الذي أحتفظ به في جيب قميصي لتسجيل عنوان الشاب، وكانت المفاجأة عندما تطابق عنوانه مع عنوان السيدة .
ذات مساء سألتني الصغيرتان: هل أرسلت تحيتنا يا عماه في رسالتك إلى (سيدة ميبن) ؟
قلت: نعم .
كم حرصت أن تصل رسالتي، فوصلت، ولكن بالعربية هذه المرة .
(تمت)
* أديب سوري يعيش في المنفى