الخيط المقطوع
في الصباح الباكر من خريف عام (1977م)... وعلى غير ميعاد، خرج رجلان من منزلهما ليلتقيا في محطة القطار.. الأول من مدينة حلب، والآخر خرج في اليوم التالي من إحدى ضواحي مدينة أنقرة.
الذي أخرج عبدالرؤوف حكمت من منزله في أنقره هو تلبية رغبة زوجته بشراء كيلوين من الجبنة الطازجة.. إنها تباع في السوق الأسبوعي الذي ينعقد في حيّ (جبجي). رجل جاوز الستين من عمره، ربع القامة، شعر رأسه بنيُّ اللون، انحسر عن معظم مساحته. عيناه عسليتان. حياته الزوجية، أقلّ ما توصف به أنها طبيعية: للمرأة اختصاصها، وللرجل اختصاصه، وهكذا دارت الأيام. لكن هل هذا هو كل شيء عن الرجل؟ وكيف قدّر له من دون الناس الآخرين أن يلتقي (حامداً) في ذلك الزمان والمكان المعينين؟
أمّا حامد عبدالواحد الذي ركب القطار من حلب، فقد بلغ الأربعين من عمره، وفي جيبه عنوان صديق له يدرس الطب في أنقرة. هذه هي المرة الأولى التي يسافر فيها إلى تركية. كان موعوداً بأن يشاركه في الرحلة زميل يتقن اللغة التركية، سبق له أن تعرّف على عدد من المدن التركية، لكنه تخلّف في آخر لحظة. على الرغم من ذلك عزم حامد على المغامرة. إنه لا يرغب بالسفر إلى بلاد لا يعرفها من قبل، ولغير ما حاجة ماسّة. هل هناك هاتف ألحَّ عليه، فاستجاب له؟ أحياناً يحسّ بإحساسات لا تدركها الحواس يسمع أصواتاً لا يسمعها غيره، أو هكذا يظن. يرى صوراً ومشاهد غير مرئية، يشم حتى مشمومات: عطوراً دخاناً، ويحس أحياناً دبقاً دبقاً دبقاً.أفّ، ما أفظع هذا!!! هل من مخرج؟ السفر السفر. إلى أين؟؟ إلى تركية. ولماذا تركية بالذات؟ السفر إلى الخارج، خارج النفس أم البلد؟
ما إن انطلق القطار في ذلك الصباح الجميل الهادئ حتى تفتحت حواس حامد وخلاياه لمعانقة الشمس الدافئة والنسيم الطري والمشاهد المتراكضة: جدّة. حرية. صلة حميمة بالطبيعة البكر ، ما أحوجه إليها؟ صلة أعمق بالشبكة غير المحسوسة من الأصوات والصور والمشاهد والروائح. من قال: إن الحياة كلها كذلك؟ وما الرحلة إلى تركية إلاّ شريط من الحياة. انقطع الشريط الحيّ عند (مخفر الحدود). قف. هنا (ميدان إكبس). آخر جندي سوري، وأول جندي تركيّ. متى حصل ذلك؟ نغر جرح غائر في صدر حامد. أول ما حصل بعد سقوط الخلافة العثمانية. انتشرت بصمات (سايكس - بيكو) والبطل القومي (أتاتورك).
حامد الآن مسكون بحساسية عالية. كان في مقعده المتصل بالنافذة العريضة حين جلس إلى جواره شاب في الثلاثين، في يده سيجارة:
- إلى أين أنت ذاهب؟
- إلى أنقرة (قال حامد مبتسماً، ثم رحل به الخيال الذي استولى عليه منذ خرج من بيته في هذا الصباح السحري. ظنّ أن السائل مسافر مثله).
- ما سبب سفرك إلى أنقرة؟
كاد حامد يسخر من السائل المتطفل، لكن شعر بأن حجراً غريبة ألقيت في بئره.
- رحلة سياحية!
- هل سافرت قبل هذه المرة إلى تركية؟
لأمر ما ضبط حامد أعصابه. بدأ يشك بالسائل.. بطبيعة الأسئلة. لم يشأ أن يعلن ضيقه أو يقطّب جبينه. خيوط الشبكة غير المدركة اهتزت. بعضها انقطع. بعضها توتّر، وأخذ ينتفض مثل جناح طائر ذبح تواً.
- كم تبقى في هذه الرحلة؟
غالب حامد التهجم الذي بدأ يتسلل من ملامحه ولهجته والجرح الغائر الجاهز للانفتاق. الجرح الذي كان يحاول أن يسيطر عليه بالمهدئات والتمنيات، بالمعالجة أو الشفاء.
- أيام معدودة.
صمت الرجلان. تأمل كل منهما الآخر. انتهى الحوار. انصرف الضيف الثقيل، والسيجارة في فمه.
الصائم يستثار من المفطر، فكيف إذا كان مدخناً. هذا الرجل ليس مسافراً. رجل آخر. ذلك سبب مجاهرته بالإفطار. وهو ما أثار حامداً، قنبلة انفجرت في أعماقه، كادت تأتي بشيء غير محسوب. أهمّ ما في الواقعة أنها هيجت الدواعي الخفية للسفر، للبحث عن سكن أو إعادة توازن للنفس والروح والعقل.
* * * *
بعد ثلاثين ساعة وصل قطار حامد عبدالواحد إلى غايته. السماء صافية زرقاء واسعة. الشمس دافئة تغمر الشوارع والساحات والأبنية. وسط المدينة يعجّ بالناس غادين رائحين. لا يعلم حامد شيئاً في هذه العاصمة، إلاّ أنه في المحطة المركزية للقطار، وأن لديه عنواناً لصديقه في جيبه. حاول أن يهيئ نفسه لهذا الامتحان طوال الرحلة.. بعقد صداقات مع المسافرين، لعل أحدهم يتعهد بإرشاده إلى بيت صديقه، لكن ثلاثين ساعة من السفر المتواصل أفرزت عشرات المحطات ومئات المسافرينن الذين تناوبوا على المقاعد المجاورة، والحصيلة قريبة من الصفر. خيط رفيع أمسك به، وهو حوار دار بينه وبين موظفي المحطة، فهم منه أخيراً أن هناك من يوصله إلى سيارة (تاكسي)، يمكن أن توصله إلى حي (جبجي). فلينتظر. هذه النتيجة استخلصت من حوار اختلط فيه كلمات متفرقة من اللغة العرية والتركية والانكليزية، وكثير من إشارات الأيدي والعيون وهزات الرأس. فجأة ظهر عبدالرؤوف حكمت:
- أنا أتكلم باللغة العربية. هل أنت عربي؟
غمرت الدهشة والفرح حامداً. أحسّ كأنه يعرف هذا الرجل منذ زمن بعيد. حالة يعجز الوصف عن الاحاطة بها - كما يقال - الشريط الحي الذي انقطع عند الحدود بدأ يلتئم.
نعم. أنا سوري غريب. لا أعرف شيئاً. لدي عنوان أرغب بالذهاب إليه. (ناوله ورقة).
- عظيم. أنت تريد الذهاب إلى حيّ (جبجي)، وأنا كذلك. (هذه أقدار مرسومة. قال حامد لنفسه):
- بعد دقائق يصل القطار ونذهب معاً.
وصل القطار. مسار جديد في حياة حامد بدأ. اطمأن. فرح. أزهرت الآمال. (كأني رأيت هذا الرجل من قبل) لكن أين؟
- يا أستاذ حامد أنا محسوبك عبدالرؤوف حكمت. أتكلم اللغة العربية منذ كنت طفلاً في مدينة دمشق. والدي كان موظفاً هناك. ما زلت أحتفظ بصور وذكريات جميلة لتلك السنوات التي عشتها قبل اخراجنا من دمشق.. أختي تكبرني بثلاث سنوات. خديجة مثلي تتكلم العربية، لكننا حرمنا من الاستمتاع بها طوال حكم كمال أتاتورك. سنَّ قانوناً شديداً يمنع الأتراك من التكلم بها. لا أخفي عليك. بقيت أنا وأختي نتكلم بالعربية سرّاً. ذهب أتاتورك، وذهب قانونه، لكن من بقي حتى اليوم يتكلم باللغة العربية؟
انشغل حامد طويلاً بتأمّل ملامح عبدالروؤف. أخيراً فطن إلى التشابه بينه وبين الشاب الذي رابه على الحدود في محطة (ميدان إكبس). فارق السن لم يطمس الشبه: توسط القامة. الشعر البني. الصلعة في الرأس. لكن شتّان!!! هاجس آخر كان يمدُّ رأسه من أعماق حامد: كيف أتيح هذا اللقاء؟ ما تفسير هذا الانسجام والمحبة التي ألَّفت بيننا، كأننا أقرباء وأحباب منذ أزمان سحيقة؟
(هل تعلم أننا نحبكم رغم أنكم طردتمونا من بلادكم، وتعاونتم ضدنا مع الأجانب. أستغفر اللّه. ليس كل العرب مذنبين. نحن أيضاً أخطأنا بحقكم).
الكون بما فيه من نجوم وأفلاك وشموس ومجرات لا يسير بشكل فوضوي. ومثل ذلك البشر من أفراد وجماعات، تجمعها وتفرقها الأقدار. قال حامد متفكراً. ألم أشعر بالرغبة إلى السفر إلى إعادة التوازن. أشياء دفعتني إلى الخروج أشياء نادتني: أن تعال! فجئت. ما أسعدني!!!
- هل تعلم - يا أستاذ حامد كيف التقينا. سوف تعجب كثيراً إذا حكيت لك القصة. باختصار طلبت مني زوجتي هذا الصباح أن أشتري كيلوين من الجبن. حضرت إلى سوق (جبجي) الأسبوعي. اشتريت الجبن. رجعت إلى البيت. زوجتي فحصت الجبن، فلم يعجبها. حلاوة الجبن أكلة سورية، ألا تعرفها يا أستاذ؟ كأن هناك هاتفاً قال لها: اطلبي من زوجك أن يرجع إلى جبجي لكي يقابل الأستاذ حامد. أنت صائم وأنا صائم مثلك. أشكرك على هديتك. حبة دراق، ما أجملها! وهكذا رجعت. زوجتي طلبت تبديل الجبن أو إرجاعه إلى صاحبه. ما رأيك؟!
وسوم: العدد 755