لا تظلموا الخنازير
لا تظلموا الخنازير
هيا عبد الله عقيل
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة... حيث السماء غائمة و الغيوم السوداء تنثر رذاذها على الأرض منذرة بهطول المطر...كان هناك من بين الأراضي التي ترويها هذه الأمطار مزرعة في غاية الجمال و الروعة من ينظر إليها يتمنى أن لا ينظر لغيرها من شدة إبداعها و روعتها،حيث أنك في كل ناحية تنظر إليها ترى أشجارا باسقة شديدة الخضرة وترى النخيل شامخا في مدخل هذه المزرعة التي صممت على أيدي أمهر المصممين والمعماريين و المزارعين المحترفين الذين جاء بهم مالك المزرعة المليونير من أقاصي الدنيا لينفذوا له ما يتمنى،فقد كانت على أحدث طراز سواء في المزرعة أو في القصر الذي تحيطه هذه المزرعة.
كان هناك في طرف هذه المزرعة حظيرة خنازير حيث أن مالك المزرعة كان من محبي تربية الخنازير،فقد كان يطعمها و يرعاها و يلاعبها و يدللها ،و في القرب من هذه المزرعة العديد من المزارع الأخرى التي يربي أصحابها أيضا أنواعا مختلفة من الحيوانات كلٌ حسب ذوقه…
في تلك الليلة كان الجو بارداً و كان الخنازير مجتمعين جميعا في حظيرتهم يلعبون و يشربون و يلهون فمنهم من يلعب الورق و منهم من يشرب الخمر و منهم من يجالس النساء و منهم من يرقص ومنهم من يأكل فكلٌ منهم لديه ما يلهيه،و بينما هم كذلك دخل عليهم رئيسهم و يبدو على ملامحه الغضب الشديد...جلس و طلب كأسا من الخمر كي يشربه و هتف بأعلى صوته كي تجتمع الخنازير حوله ،انتظر الخنزير الرئيس لبضع دقائق حتى اجتمع الشمل من حوله و هو واقف على المنصة،تناول آخر رشفة في الكأس و بعدها رمى الكأس على الأرض فانكسر ،تفاجأ الخنازير من غضبه المبهم، وأخذوا يتبادلون نظرات الحيرة و الاستغراب... إلا أن صوته قطع عليهم حبل التواصل بين أعينهم القلقة وهو يصرخ:
- أتدرون ما يُقال عنَا بين الأمم الأخرى ؟
- صمت الجميع و الخوف قد أخذ منهم كلَ مأخذ ،صرخ مرة أخرى :
- إنهم يقولون أننا أوسخ و أقذر أمة على وجه الكرة الأرضية و أننا نعيش في القذارة، لا بل يقولون أنَ منشأنا هو القذارة و الوساخة و نحن هنا نلعب و نلهو و هم يتغامزون و يتلامزون علينا و يصفوننا بأبشع الصفات، إلى متى سنبقى هكذا نسمع الإهانة بأذننا و لا نستطيع الرد لأنهم يقولون الحقيقة و الواقع!!...ما عدتُ أطيق أن أجلس مع رؤساء الأمم الأخرى من الحيوانات و أنا أرى في أعينهم القرف و التهكّم عليّ،لقد سمعت في اجتماع اليوم في الغابة المجاورة رئيس الأسود و رئيس الدببة يتهامسون و يقولون أنني ديّوث لأني تركتُ زوجتي الخنزيرة سوزانا مع مستشاري الشخصي عند سفري إلى غابات الأمازون ،حقّا إنهم معقّدون و متخلّفون لا أدري كيف يُفكرون،و لكن ما أثار غضبي أكثر شئ هو عند جلوسي بالقرب من رئيس الجمال الذي أشاح بوجهه عني إلى الجهة الأخرى و قال لمستشاره بقرف:
- أف كم رائحته نتنة و قذرة،إنه يعيش في منبع القذارة...كم أقرف من هذا المخلوق.
عندها جُنّ جنوني و قررتُّ أن أثبت له العكس فأنا لم أتأثر من كل ما قيل بقدر ما تأثرت من هذه العبارة التي قالها و هو في قمة الاشمئزاز،و لكنني لم أستطع مواجهته لأنّ رائحتي حقّا كانت و ما زالت كريهة.
صمت الرئيس فجأة حيث شعر بحكّة في ظهره لم يستطع أن يقاومها فنادى على الخادم و قال له:
- انظر ما يوجد في ظهري بسرعة و أخرجه.
أخذ الخادم يبحث بأظافره عن الحشرة العالقة في ظهر رئيسه، صرخ الرئيس:
- ألم تجدها بعد؟؟!!!
كتم الخادم ضحكة كادت أن تنسلّ من بين شفتيه قائلا:
- يوجد أنواع عدّة من الحشرات على ظهرك يا سيدي لكني لا أدري أيهم التي أزعجتك!!
نظر الرئيس إلى خادمه نظرة كلها غيظ، و قال:
- حسنا أيها الوغد..
ثمّ نظر إلى الجميع و قال:
- حسنا أيها الأوغاد، إذاً ما يُقال عنا صحيح مئة بالمئة ،لذا سأكون أنا أول خنزير على وجه الكرة الأرضية الذي يسنّ قانون الاستحمام و التعطّر.. و سأكون أول خنزير في تاريخ خنازير الكرة الأرضية يستحمّ و يُنظّف جسده من العوالق..
نظر إلى خادمه و قال:
- أعدّ لي بانيو للاستحمام هنا في وسط هذا التجمّع حتى تشهد لي أمة الخنزير بأني أول من وضع الماء و الصابون على جسده و بأني من أزال العار عنها لبقية العمر.
و مع جو من الاستغراب قام الخدم بإعداد مراسم الاستحمام للسيد الرئيس و صبّوا الماء الساخن في البانيو و أعدّوا المنظفات من شامبو و صابون و ليفة و غيره من لوازم الاستحمام.
دخل الرئيس وهو يلفّ حوله منشفة باللون الأبيض انتزعها عنه خادمه،لمس الماء بطرف إصبع قدمه ليتحسّس إن كانت حرارته مناسبة لبدنه الناعم الرقيق أما لا ، كانت المياه دافئة فأعجبه الوضع و أنزل باقي جسده،بدأ يستحم و يسكب الماء على جسده و يضع مستحضرات التنظيف الفخمة المكتوب عليها Made in USA "صُنع في الولايات المتحدة الأمريكية" ،و أخذت رائحة الصابون تفوح في المكان و الكل ينظر إليه في حسد و يتمنون لو أنهم مكانه..انتهى السيد الرئيس من الاستحمام و جاءه الخادم بالمنشفة فنشّف جسده الذي أصبح كالحرير بعد استخدامه البلسم المكتوب عليه Made in Denmark "صنع في الدنمارك" . بعدها دخل إلى غرفته و ارتدى ملابس النوم، ثم خرج و نادى بأعلى صوته مخاطبا الرعيّة:
غداً سيكون لكم لكي تنعموا بالاستحمام و من لا يستحم سيُعاقب أشدّ العقاب.
ثم نظر إليهم بقرف بعد أن شعر بأنه متميّز عنهم و قال:
- أفهمتم أيها القاذورات! !
ثمّ أمر الجميع بالذهاب إلى النوم و دخل إلى غرفته لينعم بنوم عميق بعد نقطة التحوّل التي أحدثها في تاريخ الخنازير.
دخل الجميع إلى غرفهم ليناموا و أغلقوا الأبواب، و بعد حوالي ساعتين كانت المفاجأة، حيث استيقظت زوجة الرئيس و هي تنادي الخدم:
أحضروا الطبيب...أحضروا الطبيب.
سألها أحدهم:ما الأمر يا سيدتي؟
فقالت و علامات الخوف بادية عليها:
- إنّ الرئيس يعطس و درجة حرارته مرتفعة جدا.
نظر إليها الخادم باستغراب:
- يعطس؟و كيف ذلك؟.
أجابت:لا أدري،أسرع و أحضر الطبيب .
خرج الخادم مسرعا إلى منزل الطبيب ليحضره ...و ما هي إلا دقائق حتى كان الطبيب فوق رأس الرئيس يفحصه و يعاين حالته..سأل الطبيب:
- ما الذي حصل معه؟أخبروني بالتفصيل،يبدو أنّ حالته صعبة للغاية!!.
أخذت زوجته تسرد عليه كل ما حصل مع زوجها و كيف أنه قرّر الاستحمام و نفّذ ما قرّر و يبدو أنه أصيب بنوبة برد إثر استحمامه... إلخ من التفاصيل.
هزّ الطبيب رأسه مبدياً تفهمّه للحالة ثمّ قال بأسف:
يبدو أنّ زوجك يا سيدتي قد أُصيب بأنفلونزا.
نظرت الزوجة إلى زوجها ثم إلى الطبيب بتعجّب:
- أنفلونزا!!!كيف!! في تاريخ الخنازير كلها لم يُصَب أحد منهم بأنفلونزا فكيف يصاب زوجي و لماذا؟؟.
أطرق الطبيب رأسه قائلا:
- للأسف لقد لامس زوجك النظافة فكان جزاؤه أن أُصيب بنوبة برد و هذه كانت النتيجة.
ثم أردف قائلا:سيدتي نحن أمة وُلدنا من القذارة و تجرّعنا القذارة و تأكلنا أُمم القذارة، فمتى ما خرجنا منها هلكنا، تماما كما يحصل للأسماك عندما تخرج من الماء...فكيف يُقدم زوجك على خطوة جنونية كهذه إرضاء لبقية الحيوانات دون الاكتراث لماضينا.
قالت الزوجة الحزينة:
- ولكنه لم يستخدم أي نوع من أنواع المنظفات الرديئة، لقد استخدم منتجات مكتوباً عليها Made in USA و Made in Denmark. أجابها الطبيب : سيدتي العزيزة هذا ما زاد الطين بله أنه استخدم منتجات هذه البلدان، فبالرغم من قذارتنا فإنّ هذه البلدان الغالية تُنتج مستحضرات أشدّ قذارة من قذارتنا ،ولا أظنّ أنّ هناك أملاً من شفائه،و عليكم بعدم الاقتراب منه فهو بحاجة لحجر صحي لأنّ مرضه يُعدي حتى عن طريق النَفَس.
كان الخنزير الرئيس يستمع إلى هذا الحوار لكن دون أن يستطيع الحراك أو الكلام من شدّة تعبه.
نظرت إليه زوجته بحسرة و قالت:
- ما زلت شابا يا عزيزي.
و أخذت تبكي.
خرج الخادم مصطحبا الطبيب إلى البوابة فإذا بالرعية مجتمعون يتهامسون فيما بينهم و علامات الشماتة ظاهرة عليهم حيث قال أحدهم للآخر:
- هه…أرأيت يا عزيزي نهاية الخنزير النظيف ؟
و أخذوا يضحكون و يقهقهون من الضحك عندها تعالت أصوات جميع الخنازير ضاحكين على نهاية رئيسهم المغرور.
سمع الخنزير أصوات ضحكات رعيته تتعالى،حينها شعر بالحقد يغلي في عروقه،و اتخذ قرارا بالانتقام من أكبر عدد ممكن من الذين شمتوا به،و قال بينه و بين نفسه :
- أيها الأوغاد أردت أن أنتشلكم من القذارة و أجعل منكم أمة نظيفة فجعلتم مني أضحوكة…قسما لتندمن طوال عمركم.
مضى اليوم الثاني بهدوء غير معتاد و حلّ الظلام منذرا بقدوم الليل و ما كان من الخنزير المفلوز إلا أن استيقظ في منتصف الليل لينفّذ خطته ،ففتح باب الغرفة بهدوء و دخل إلى الغرفة التي بجانبه وجلس فيها بضع دقائق يأخذ شهيقا و زفيرا بعمق حتى يتأكد من أن نَفَسَه قد ملأ الغرفة و هكذا فعل ببقية الغرف ما إن ينتهي من غرفة إلا و ينتقل إلى الغرفة التي تليها…ثم بعد ذلك تسلّل إلى غرفته بهدوء و خلد إلى النوم و هو في قمة الإنهاك و التعب.
بَزَغَ الفجر و بدأت أشعة الشمس تُلقي بأشعتها على الحظيرة..وصل عامل المزرعة ليضع العلف و الماء للخنازير،ما إن دخل إلى الحظيرة حتى تفاجأ بوضع الخنازير ،اتصل فورا بصاحب المزرعة و أخبره بأنّ وضع الخنازير غير طبيعي و أنهم بحاجة لطبيب بيطري ليكشف عليهم..بعد أقل من ساعة وصل الطبيب و أخذ يكشف عليهم واحدا تلو الآخر… انصدم الطبيب من الحالة الغريبة العجيبة التي بين يديه و التي هي حالة السيد الخنزير الرئيس.تفاجأ الطبيب من أعراض المرض التي تشبه إلى حدّ كبير الأنفلونزا لا بل هي الأنفلونزا بعينها،و أعلن حالة الطوارئ بأنّ مرض أنفلونزا الخنازير قد ظهر إلى العالم..نظر الطبيب فورا إلى العامل الذي أبلغ عن الحالة و طلب منه الذهاب إلى المستشفى معه كي يكشف عليه على اعتبار أنه أول شخص دخل إلى الحظيرة دون اتخاذ إجراءات وقائية..
في المستشفى بدأت التحاليل و الفحوصات على هذا العامل المسكين ينتقل فيها من غرفة إلى غرفة لإجراء الفحوصات اللازمة للاطمئنان على حالته.. لكن المفاجأة كانت بأنّ هذا العامل كان قد أصيب بمرض أنفلونزا الخنازير لتواصله المباشر مع الخنازير دون حاجز…وما هي إلا سويعات قليلة حتى توفي العامل المسكين.كان الخبر حينها قد وصل لوسائل الإعلام حيث جاءت الصحافة و التلفاز لتغطي الحدث الغريب في المستشفى،و بدأ الخبر المرعب ينتشر بين الناس عن هذا الوباء الذي ظهر إلى العالم دون سابق إنذار،و قامت وسائل الإعلام من اتصالات و تلفاز و انترنت و صحافة تُحذّر من المرض حيث أصبح خبر الساعة…أصيب الناس بهلع شديد إبّان سماعهم عن حالات الوفاة التي نتجت عن أنفلونزا الخنازير و أخذوا يحتاطون بقدر استطاعتهم لتجنّب الإصابة بهذا المرض..و الاحتياطات ما زالت مستمرة..