أبو عرب

أبو عرب

محمد الحسناوي

في صباح يوم باكر من أيام الخريف انطلقت سيارتان عسكريتان إحداهما من دمشق، والثانية من حمص. كان هدفهما المرابطة على نقطة محددة في طريق (تدمر) الصحراوي. في ذلك الوقت كانت برودة الشتاء تزحف على حرّ الصيف، وكانت السحب الكثيقة تحتل مساحات واسعة من جبهة السماء. وفي ذلك  الوقت أيضاً كان موسم إعمار البيوت، حيث تخزن المؤن لفصل الشتاء: من قمح وزيت وسمن، وحيث تكثر عقود الزواج وحفلات الأعراس.

-1-

في الساعة الثامنة من ذلك الصباح انطلق عبداللّه العسّال بسيارة »المؤسسة« المدنية من  بيته الكائن في أحد أحياء دمشق الشعبية. لم يكن معه في السيارة غير ولده الطفل محمد، في الثامنة من عمره،  ومسدس في محفظة أوراقه.

اخترقت سيارته شوارع العاصمة المكتظة بذوي البزات العسكرية. أذكره ذلك بالأرتال العمالية التي كانت تغصّ بها الشوارع منذ سنوات، كما أذكره بالأحلام   التي كان يرسمها لأسرته الصغيرة: دكان  (نوفوتيه) في (حي المزرعة). بيت ملك. حقل صغير في (الزبداني). لا غير.  في الحقل بعض أشجار العنب والتين والزيتون. هو حقل للاصطياف ومورد للعيش. لماذا السفر إلى لبنان أو سويسرا أو فرنسا؟ هنا دمشق. هنا الغوطة، هنا الزبداني وبلودان وأبوزاد. رحم اللّه أحمد شوقي:

خـلّـفـتُ  لبنانَ جناتِ النعيم، وما
نُـبـئـتُ  أن طـريق الخلد iiلبنان
جـرى  وصـفـق يلقانا بها iiبردى
رحم اللّه بردى ودمشق وأيام الأحلام

الدكان أفلس. إيجار البيت تضاعف. الحقل لم يُشترَ. حلّ محلّه مسدس. من يصدق؟!.

عبدالله العسال مواطن عادي بكل ما في الكلمة من معنى.  في التنظيم الذي ينتمي إليه اسمه الحركي (أبوعرب). لم يكن بحاجة  إلى اسم حركي. ولا لأن يدخل التاريخ من  أي باب.

حين وقعت أحداث هذه القصة كان عبدالله دون الثلاثين  من عمره.  حنطي اللون. طويل القامة. شعره بنّي وعيناه عسليتان.  عبل الأطراف. راحة كفه أكبر حجماً من راحة الآخرين. مثل ذلك شفتاه المكتنزتان. بوسعك أن تستنتج أنه صحيح البنية. سليم الحواس. قوي الشكيمة. دؤوب في عمله. كونه وحيداً لأبويه لا يميزه من أقرانه. أبوه تزوج أكثر من مرة حتى رزق هذا الغلام. الغلام بعد وفاة أبيه نهض بكفالة نفسه وأمه وزوجة  أبيه حتى تخرّج من معهد متوسط للجيولوجية، وعيّن موظفاً في مؤسسة  التنقيب عن البترول. يكفي بأن تعلم أنه يقبّل كف زوجة  أبيه صباحاً ومساء، برغم اكتمال رجولته وتزوجه.

صحيح أن الرشوة فشت بين الموظفين وهو لا يرتشي. وأن غيره من الشباب يتأخر في السهر خارج البيت. وهو لا يتأخر. وأنه أتيحت له فرص للبروز والهيمنة فلم  يفعل. على أثر حرب حزيران 1967م، اضطربت الأحوال  في العاصمة دمشق، فكان هو الضابط  المجند الذي استطاع  أن يضبط الأمن مع  مجموعة من الجنود في شوارع العاصمة وأحيائها. كان  بوسعه أن يعتقل كبار المسؤولين، وأن يحتل الإذاعة، وأن يذيع بلاغاً ذا رقم واحد على  عادة الانقلابيين، لكنه لم يفعل. قد تقول  الآن - وبعد مضي اثنين وعشرين عاماً - ليته فعل. وتودّ لو تجري له محاكمة تاريخية، لأنه  لم يفعل. إذا كان هذا مذهبك  في الحياة فإن  ثلاثة أرباع هذ  الشعب مدعوّ لمثل هذه المحاكمة. هل تحاكم الشعوب؟

هكذا - يا أبا محمد - تصبح من حملة المسدسات؟ أنت الذي أقنعت مجموعة مسلحة بالتريث. بالعمل  السلمي لبناء مجتمع جديد نظيف. أنت الذي اقتطعت من طعام زوجتك وطفلك لتنفق  على الشبان الملاحقين، ولتوفر لهم فرص التواري والعمل والطمأنينة، وتستل شرارة التفجير. ها  قد أصبحت ملاحقاً مثلهم، لماذا؟ لأن اثنين منهم ضبطا في جبل قاسون يمارسان الرياضة. إن (قاسيون) لم  يعد متنزهاً ولا جبلاً. إنه حصن. قطعة عسكرية. هل يوجد  في دمشق، في سورية كلها أحد يجهل ذلك؟ وهذا المسدس الذي معك من أجل ماذا؟ لتدفئه في رمال تدمر، أم لتنفذ انقلاباً عسكرياً؟ يا لك من أحمق ينفذ انقلاباً بمسدس واحد!

كم أنت مظلومة أيتها البادية. لولا حاجتنا إلى البترول،  لما نبشنا جوفك. حينما كنتُ في جبهة الجولان أحسستُ بحب عميق لكل تراب هذا الوطن،  لا فرق  بين غوطة  دمشق ولا بادية الشام. لو  كنتُ شاعراً لقلتُ في نسيم البادية وليلها الهادئ الساجي ما لم يقله شوقي في دمشق.

 -2-

سيارة (اللاندكروزر) التي خرجت من حمص أواخر الليل كانت تقلّ ستة عساكر فضلاً عن السائق: ضابط برتبة ملازم. رقيب. عريف. ثلاثة جنود. الضابط والرقيب والعريف بلباس مدني صيفي رقيق بين رمادي  أو أصفر. كلهم مسلحون. الضابط ومساعداه يحملون مسدسات. العناصر الأخرى مسلحة ببنادق (كلاشينكوف). أفراد هذه المجموعة  العسكرية  لم يكونوا مرتاحين للمهمة الصحراوية فماذا في البادية غير الحرّ والغبار والسفر الطويل؟!

الجندي عبّود:

شاب أسمر البشرة. نحيل.  شعر رأسه أسود أجعد. كان أقلهم سخطاً لـمَّا علم أن المهمة على طريق تدمر، حيث مرأى البادية مألوف لديه. لكنه خشي أن يكون الهدف أبناء عشيرته أو شيخاً من شيوخها. »هل يمكن«؟ تساءل في نفسه. لا. لم لا؟ إن الحكومة لا توفر أحداً. حتى شيوخ المساجد تعتقلهم، وتهينهم. ألم يأمروني بضرب الشيخ المسنّ؟ قال لي سمّان الحارة: أوصيك بالشيخ جنيد. إنه رجل  طاهر وعالم تقيّ.  الله يمهل ولا يهمل. لا تعتدوا على شيبته. واللّه يا عمّ محمد  ما ضربته أبداً. أعطيته معطفي الشتوي، وهذه رسالة منه حتى تصدق كلامي. وانعطفت  راجعاً حتى لا يراني أحد. آه! ما هذه العسكرية؟ صيد الضباع والذئاب أفضل.

الجندي بسام:

كل شيء إلاّ نصب كمين للمهربين. إنهم مسلحون. حرب حقيقية. لماذا الاشتباك إذا كانت حصة (المعلم) مضمونة؟ يبدو أنها هذه المرة مهددة. هل هناك منافس عليها؟ هل تصطدم مجموعتان حكوميتان من أجل (الحصة)؟ أنا ما حصل معي. قالوا هذا أمر طبيعي. على حساب من نحن نذبح؟!

أخرج مرآة صغيرة نظيفة ومشطاً لماعاً من جيبه. نظر إلى شعره الصقيل وشاربه الممسد. قرص خده الأيمن ثم  الأيسر. ابتسم راضياً. حلق بخياله إلى منعطفات الحديقة العامة في حلب. انتفخت خياشيمه بعطر نسائي وبندى الأصيل. الصبايا يتمايلن سافرات، ضاحكات. أليس هذا خيراً من حمل  السلاح، ومواجهة المهربين في بادية الشام؟ يا مال  الشام  يا مالي. طال المطال يا  حلوة تعالي.

الجندي عبدالهادي:

لا أشك في أننا ذاهبون لاعتقال رجل يحب اللّه والرسول. لا مواجهة مهربين، ولا صيد غزلان، ولا ما  يحزنون. البعرة تدلّ على البعير. لا  حول ولا قوة إلاّ باللّه. يا رب عفوك. سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر.  ما العمل؟ أنا مجند. لا أستطيع وحدي تغيير المنكر. منكر تقترفه حكومة. حلقت لحيتي، وأخفيت صلاتي، وما خلصت. وها هم يجبرونني على اعتقال الأبرياء.

إلى متى يا رب؟ أين صارت المسبحة؟!

الضابط:

قالوا لي: التعليمات تتلقاها من آمر المجموعة القادمة من  دمشق. هو يحمل المهمة معه. يعني نحن غير موثوقين. لعنة اللّه عليكم وعلى آمر المجموعة. واللّه إن كان تركي علم الدين لأقتلنّه هذه المرة بنفسي.

-4-

راكبوا سيارة (اللاندكروزر) الأخرى مثل راكبي السارة الأولى في العدد واللباس والأسلحة، لكن الضابط آمر المجموعة كان برتبة رائد: طويل القامة. عريض المنكبين. أسمر البشرة. شاربه أسود كث، فوقه أنف قاس متعجرف. نظراته سريعة قادحة بومضات تنمّ عن يقظة وحذر غير عاديين.  ذو خبرة في عمليات المداهمة والاعتقال والتحقيق. في ذهنه خطة كاملة لعملية اليوم:

موظف مدني وحيد على طريق منقطعة. هات هويتك. ارفع يديك. لأدنى مقاومة صفعة مباغتة على الوجه. ضربة قوية بعقب المسدس على قفا الرقبة. لكم، دوس، رفس. قيود في الأيدي والأرجل. رضوض مرشوشة هنا وهناك. (تكني كلار) سوف يتعجب أبو مضر من  الفرق الكبير بين الصورة  الفوتوغرافية و(البضاعة المحجوزة). خذه كتلة من لحم  وعظم. لا مقاومة. لا كلمة. اسمك. عمرك عملك. احكِ  قصتك مع أحمد وعمر. احك حكاية التنظيم من الألف إلى الياء.  ولك! كلب. هل لك عين تنظر؟ ضربة على العين اليمنى. حلقة حمراء تأخذ بالاسوداد شيئاً فشيئاً حول العين. هل أقلع عينك اليسرى؟ جيد. تابع. تحدث بتفصيل...

ما زلت تقاوم؟ هات الدولاب يا غضنفر أعطني العصا.  اضربه أنت أولاً. واحدة.. اثنتين.. عشرة.. مئة. تصرخ؟ أعرفك لن تستجيب بسهولة. كذاب. لا أصدقك.  واحدة.. اثنتين.. خمسين. أغمي عليه. هات الدلو يا غضنفر. استيقظت؟ هذه رفسة في بطنك. وأخرى على رأسك. استيقظت تماماً؟ لا تتوجع. أمامك وجبات متنوعة. كل حتى تشبع. لا أحد يعلم باعتقالك. ولن يعلم أحد بمصيرك.

موظف مدني. شاب غرّ في أول العمر. متزوج له طفل. لم يسجن من قبل. سوف ينهار بسهولة، بسرعة. لن يحتاج للبلطة ولا للمسلة في مخ العظم. لا. لا. وأراهن. لن يحتاج. سوف ينهار هنا قبل العودة إلى دمشق. هكذا. هكذا.  ثم، ثم حفلة  في »الشيراتون«. ونجمة أخرى على الكتف. وملف جديد في الخبرة الأمنية. لكل مواطن ملف. لكل ملف نكهة. بستان  الأمن سوف يزدهر وتكثر ثماره. سوف نصدر يوماً ما إنتاجنا. الرائد (تاء) مبتكر الضربة القاضية في الانهيار السريع: (ميد إن سيريا): تي. إم. إن إس:

-5-

على طريق تدمر لم تطلع الشمس  بعد، ولم يرحل الليل. أفق ضبابي سديمي يخفي أشباحاً سحرية أثيرية. فجأة لاح طيف حيوان لطيف، جسمه بيضوي أبيض ممتلئ. سيقانه طويلة رقيقة. عنقه طويل رشيق. تقول النفس: إنه غزال. وتقول الأشباح: طيف سينمائي خيالي مذعور، أخذ يعدو محاذياً السيارة الأولى، ثم انحرف  يشتد   في جريه، كأنه شمّ رائحة الحديد والبارود والنوايا، توقفت زمجرة السيارة. انتشر المسلحون حولها يريدون اصطياد الغزال. ابتلع الأفق الشاحب الغزال.  سمعت جلبة ضوضاء تقترب.  تقترب.  تقترب. وصل الضجيج والغبار على شكل عاصفة وحشية. اخترق الموقع المسلح حيوانان  لاهثان مزمجران. ثعلب وذئب يعدوان، ويتصارعان خلف الغزال. أجفل الرجال المسلحون. انبطحوا يلتمسون النجاة. باغتتهم المفاجأة. لو واتتهم الفرصة لهربوا. فوجئ الوحشان  البريان بالسيارة المضيئة  والرجال المسلحين. توقفا عن العدو بعيداً. أصاخا السمع. دمهما يسيل. تبادلا النظرات اللاهبة. فجأة  تذكرا  صراعهما. هجما يستأنفان العراك. تناسيا الغزال. تجاهلا الغرباء. قررا  تصفية المعركة بينهما.

صاح  صوت مهزوز:

- إلى السيارة إلى السيارة يا جبناء، قبل أن تأكلنا الوحوش  هيا. هيا..

-6-

في الساعة الثامنة صباحاً وصلت السيارة  الأولى إلى المكان المحدد: منخفض بين هضبتين صغيرتين.  نزل الرجال المسلحون منها في وسط المنخفض، حيث ينعطف طريق  السير بشكل شبه دائري، يرغم  السيارات على التمهل. توزع المسلحون بأسلحتهم. كانت الشمس  ترمقهم بأهداب ذهبية  وأخرى قانية. وكان الصمت الشامل  يتململ من  اصطكاك أسلحتهم ، وقرع أحذيتهم العسكرية. تقافزت بعض العصافير مجفلة. منظر نشاز:  حفنة نمال خرافية تتشبث ببساط مخملي  أصفر مهدب بخطوط سوداء وبيضاء متساوقة تحت سماء زرقاء لا نهائية، شمسها ملثمة بسحب قزحية.

في الساعة   التاسعة وصلت السيارة الثانية. توقفت. نزل رجالها المسلحون. قبل التحية تبادل الملازم والرائد النظرات:

مشهد جنازة حافلة تحمل جثة  في إحدى مناطق الجبل الشمالي. الناس خلف النعش يبكون،  يندبون،  عينان سوداوان في الأفق الجنوبي تلتمعان فرحاً وشماتة.

مشهد جنازة أخرى تحمل جثة في إحدى مناطق الجنوب. الناس خلف النعش يبكون، ينبدون، عينان زرقاوان في  الأفق الشمالي  تبرقان فرحاً وشماتة.

تصافح الرجلان. يد باردة جداً. يد حارة جداً. العرق تفصد من كفيهما. شرح الآمر الرائد للملازم طبيعة المهمة، وتفاصيل العملية. هزّ الملازم  رأسه موافقة. أُعيد  ترتيب العناصر المسلحة: مفرزة عسكرية عادية تفتش العابرين. إذا حاولت سيارة ما الهرب قفزت السيارة الثانية إلى عرض الطريق، وقطعت  عليها طريق العودة، على حين  تكون السيارة الأولى جاهزة وراء الأفق المرتفع لقطع الطريق الأمامي  أيضاً.

- تمام؟ (قال الرائد).

- نعم. تمام (قال الملازم).

- كل شيء محسوب. سوف يصل الهدف في الساعة العاشرة.

-7-

في الساعة العاشرة هبطت المنحدر سيارة (لاندكروزر) مدنية بيضاء. اضطر سائقها لتخفيض السرعة. برزت أمامه نقطة عسكرية لم يعهدها من قبل  في هذا المكان. لم يقلق ولم يطمئن. الحواجز العسكرية أمر مألوف. أن يكون هو الهدف ليس بمستغرب. لكل حادث حديث.

- قف (أشار الرائد بيده). انزل من السيارة.

استيقظت حواس عبدالله العسّال جميعاً. استنفر ملكاته  العقلية. استرجع كل ما يحفظ من القرآن  الكريم بصمت. قفزت إلى مخيلته ذكريات. جبهة الجولان. هزائم. تدفق  الجيش المعادي. هرب القادة.  تشرد الجنود. اضطراب الأمن في العاصمة. ليال سود وأيام مرة. فضائح. فضائح (لقد أخطأت في إحضار  هذا الطفل معي. ماذا لو حصل اشتباك؟) نزل عبدالله من السيارة. انتصب ببزةالعمل الزرقاء الكابية.

- هويتك!

- في المحفظة.

- أخرجها.

عاد عبداللّه إلى سيارته. فتح المحفظة. أخرج مسدساً شهره بسرعة:

- ارفعوا أيديكم كلكم. ألقوا أسلحتكم.

بوغت المسلحون بما فيهم الرائد. لاذوا بالصمت.

(قلت لك يا رائد تركي لا تستهن بالمواطنين. ليسوا أرانب. إنهم بشر مثلنا. يغضبون، يألمون، ينتقمون أيضاً. ألا تفهم؟ سوف ترى. عبداللّه العسّال هذا الشاب المدني الغر،  سوف ترى كيف يصحح نظرياتك الأمنية. حقاً أنا مفاجأ بك يا عسّال! من أين هذه البراعة؟)

لم يصدق عبدالله نفسه. لم يصدق أنه سيطر على المجموعة المسلحة كلها. أحسَّ بأنه انتقم لهزائم حزيران. أحس بصلاح الدين يتقمصه: دماء جديدة، عزيمة، أمل، بصيرة نافذة. التمعت في رأسه فكرة: سوف أجمع أسلحتكم وأذهب. من يلحقني، من يعترض فمصيره الموت.  مفهوم؟

لم يجب أحد.

شرع عبداللّه بجمع الأسلحة. جبينه يتصبب عرقاً. مسدس. اثنين.  ثلاثة. بندقية. سمع  نداءاً بعيداً من وراء الهضبة. نظر إلى أعلاها. دوى في الأفق طلق ناري. لمح شبح رجل مسلح يحمل بندقية. أدرك عبداللّه أن الخطر محدق به. أخذته المفاجأة. صوب مسدسه نحو الشبح. أطلق لم يستجب  المسدس. شحن المسدس ثانية لم يستجب. شحنه ثالثة فلم يستجب. ترك الأسلحة. وأخذ يعدو نحو الهضبة المقابلة. هجم المسلحون إلى أسلحتهم. أمطروه بالرصاص. سقط على الأرض مغشياً عليه. نجوم حمر بدأت تومض في رقبته وكتفه ورجله اليمنى. الطفل محمد لم يفهم كل ما حدث، ومع ذلك بكى.

-8-

في مدينة حلب انقطع المدرسان حامد عبدالواحد وعبدالرحمن  المحمود عن عملهما. إجازة مرضية. انقطعا أيضاً عن مسكنيهما. أقاما في بيت خرج سكانه إلى الريف. منزل مستقل في منطقة سكنية مترفة لا تلفت الأنظار. أصبح المنزل  غرفة  عمليات. بريد ذاهب. بريد عائد. لقاءات مكثفة. السهر ليلاً والنوم نهاراً.

قبل هذا اليوم كان كل من حامد وعبدالرحمن المحمود يختلطان بالناس، يداومان على عملهما، يسافران وكل شيء طبيعي.  الأفكار والأسرار   في رأسيهما، وفي جيوبهما  أحياناً، في أوراقهما القريبة والبعيدة، تحت الأرض وفوق الأرض، وكل شيء طبيعي. أمّا اليوم فالأمر قد تغيّر. أو يوشك أن يتغير. حتى الهواء صار التعامل معه مدروساً، فكيف العيون المتطفلة والغرباء العابرون. الأسئلة الغامضة؟  لم يعد الواحد منهما أباً أو زوجاً أو مدرساً، بل هو كائن جديد كمن وراء العين المشغولة بالنظر من وراء النوافذ أو في أعماق الرسائل والتقارير. وتضخمت حاسة السمع، فالأذن المرهفة تتنقل بين الهاتف وبين التصنت إلى الأصوات الخارجية. أمّا العقل فآلة تعمل بأقصى طاقتها في التذكر والتحليل والتركيب ورسم الخطط والمداخل والمخارج. ليست هذه هي المرة الأولى التي يتواريان فيها عن الأنظار. كلما حصل (تماسّ) أمني تواريا. ليست المشكلة: يكونان أو لا يكونان. المشكلة بالتنظيم الذي يحتلان فيه مواقع مفصلية. شبكة من  الاتصالات المعقدة: تنظيم المحافظات والأرياف، والطلاب والعمال والموظفين والنقابيين. كل عضو فيها إنسان حيّ، له أحاسيسه ومشاعره وظروفه المحيطة به. ربما كان جدّاً أو زوجاً أو مدير مدرسة أو ابناً وحيداً، أو طالباً جامعياً في السنة الأخيرة من الدراسة. كل هؤلاء وذووهم وأصدقاؤهم يجب أن يسلموا، أن يناموا مطمئنين، وأن يمارسوا حياتهم وأعمالهم بشكل طبيعي. أفواه تنتظر الطعام. أطفال تنتظر الحنان، آمال وأحلام تنتظر المستقبل. المستقبل يتهدده السجن والجلاد.

أبوعرب نفسه ليس رقماً حسابياً - قال حامد: أنا أحبه أكثر من ابني وأخي. لماذا؟ ليس عندي التعليل الكافي. لكن عندي الإحساس القوي الغامر. أشعر كأن عضواً من جسدي قد اقتطع. أبوعرب أنجز مهمة صعبة في الخارج. أصيب برصاصة في بطنه. لم تزد الرصاصة أن دارت مدار الحزام، ثم خرجت من تحت جلدته،  ولم تقتله. أبوعرب حضر أول لقاء للمجلس في بيتي. وأسهم في القرارات الخطيرة. إلى أيِّ حد يستطيع التكتم عليها؟! كنت أبحث عنكم في العاصمة. عجبت كيف اكتشفني  يومها، ولم تكن بيننا معرفة سابقة. بعد صلاة العشاء جلست في المسجد أنتظر أحداً يدلني على مكان اللقاء. اقترب مني هامساً: تريد  أحداً. نعم أريد فلاناً. تعال معنا. لم أشتبه به. صدقته، مشيت معه، وصلت بعد فقدان الأمل. زرته معك في دكان (النوفوتيه) في حي المزرعة. لا دكان ولا نوفوتيه ولا بطيخ!

(أبوعرب رئيس مركزه) قال  عبدالرحمن المحمود (يعرف كل شيء عني وعن المركز). بعد فترة صمت كئيت تنهد وزفر ثم قال: (اعتقاله مصيبة كبيرة. هذه المرة وقعنا جميعاً. اللّه يستر).

-9-

اسمي: عبدالله العسال.

عمري: 30

عملي: موظف...

علاقتي بالمجموعة المسلحة: تعرفت على عمر الشياح في المسجد. صارت بيننا ألفة وصداقة. صارحني بوضعه الحالي المحرج. ساعدته. بعد فترة صارحني بوضعه الأمني. عينته عاملاً في الورشة التي أشرف عليها في التنقيب، يكفي نفسه، يتواري عن الأنظار. بعد حين دلني على بقية المجموعة. مشكلتها مشكلته. ضممتهم إلى الورشة. عاهدوني على ترك العنف، والتوجه للعمل السلمي. الدليل على ذلك الأسلحة التي وجدتموها في السيارة. كنت أحملها لأدفنها في صحراء تدمر.

علاقتي بالتنظيم: ليست لي علاقة. دعيت مرة إلى لقاء خارج القطر. استغربت في البداية. حب الاستطلاع حملني على الاستجابة حضرت اللقاء. كل الحاضرين أكبر مني سناً بكثير. شعرت بحرج. كنت غريباً. يبدو أن هناك خطأ ما قد وقع. طلبوا مني الخروج، بصراحة طردوني. لحق بي أحدهم. رجل مسنّ. عمره فوق الستين. متوسط الطول. أشيب الشعر. يلبس جبة، وعلى رأسه  عمامة كبيرة بيضاء. لهجته حلبية. اعتذر لي بلطف. أهداني كتاباً عنوانه (رجال في التاريخ) اسم مؤلفه: عبدالرحمن المحمود. رجاني عدم البوح بما رأيت.

أتعهد بالتبليغ عن كل من يتصل بي.

التوقيع

عبدالله العسال

- وإذا خدعتنا؟

- ....

- سوف نسلخ جلدك وأنت حيّ.

-10-

برقية

جواباً  على  برقيتكم:  رقم..   تاريخ....

نفيد: صاحب الاسم: عبدالرحمن المحمود موجود في مدينة حلب. لكن المواصفات مختلفة كلياً: العمر  واللباس والاتجاه السياسي والاهتمام الثقافي. كل ذلك مختلف عما ذكرتم. يرجى أخذ العلم.

التوقيع

.................

- اقرأ البرقية الجوابية. أليس هذا خداعاً؟!

- أقسم باللّه العظيم: أنا المخدوع.

- سوف نطلق سراحك. سوف نرى. سمعت؟ نسلخ جلدك؟

-11-

في الصباح  الباكر. حين يبدأ زحف النهار على الليل، وترتدي ذرات الهواء البلورية لوناً رمادياً شفافاً يكاد يبين عن كل شيء ولا يبين، وحين بدأ المصلون ينصرفون من  صلاة الصبح في أحد مساجد دمشق اقترب رجل من آخر. تحاورا بصوت خافت:

- ما القرار الأخير؟

- أن  تنجو بجلدك. أخرج من البلد  بأقرب فرصة.

- أغادر البلاد؟

- نعم.

-  هذا هو  القرار؟

- نعم هذا هو القرار.

تعانق الرجلان بسرعة. نظر كل منهما إلى الآخرة نظرة أخيرة. افترقا.

-12-

أبوعرب يعرف أحد طرق التهريب بين سورية ولبنان في منطقة الزبداني، وإن لم يسلكه من قبل. إنه ابن المنطقة تسلق وحده السلم الصخري عصراً. كانت الشمس حمراء مائلة في الأفق الغربي، وسورية جاثمة  في الأفق الشرقي. رأى أبوعرب ظله أمامه يمتد منحدراً على  سطح  الجبل. ورآه يمتد يعبر سهل الزبداني. ثم يمتد ويصعد الهضاب المقابلة،ثم يمتد فيعبر سورية من مغربها إلى مشرقها. أعاد حساباته للمرة الألف: (هل هذا هو القرار الأخير؟) (نعم هذا هو القرار الأخير). لاك كرة وهمية في فمه. وجد القرار مرّاً صعباً. ووجده في الوقت نفسه منطقياً: (إن تركي علم الدين ينتظر المعلومات، أو يسلخ جلدي. هل يكتفي بسلخ جلدي أنا وحدي؟ إنه يتلمظ لسلخ جلود العشرات والمئات. ذئب بشري. كيف نقطع الطريق عليه؟ الخروج من البلد. الهرب. هل هذا هرب؟ لا. أبداً. إنها هوة عميقة. خندق للوقاية. فليغضب، ولينتحر تركي ومعلمه ومعلم معلمه وكل الزبانية والجلادين.  أين أبوعرب؟ أين أبوعرب؟ أين أبوعرب؟ أبوعرب هرب. هرب. هرب. نعم هرب).

أبوعرب الآن يقف على آخر قمة تطل على سهل الزبداني. لا يكاد يصدق أنه نجا. أو أنه يترك وطنه إلى المجهول دفعة  واحدة. احتشدت في نفسه ذكريات طفولته وصباه، آماله وأحلامه: طفل  يتدلى من  غصن شجرة تين. طالب صغير يحمل الكتب في كيس قماش معلق برقبته. موسم الربيع والأزهار ثلج يتماوج مع النسيم. ثمار الدراق والإجّاص تشخب عسلاً مصفى في الأفواه الظمأى. بنت الجيران تحمل لحم الأضحية صياح العيد. أين أنت يا عيد الوطن؟ عيد الأطفال والأمهات والجيران واللعب والأراجيح والحلوى؟! آه. يا رب أعني. إذا كان تركي علم الدين يريد  أن  يسلخ جلدي عن عظمي، فأنا أسلخ نفسي عن  روحي وأهلي وبلدي وتاريخي ومستقبلي.

يا رب! ما هذه المعادلة الصعبة. ألا يمكن الجمع بين الوطن والعدل؟

أخيراً أدار أبوعرب ظهره وعينيه،  لكنه ظلَّ ينظر في الغيب متطلعاً إلى صورة جديدة طالما كان يحلم بها