وفاء شجرة
وفاء شجرة
عبد الرحمن الحياني
من أول يوم انطلقت فيه الانتفاضة المباركة في أرض لإسراء ، وخالد يتابع أحداثها باهتمام بالغ بل و تحرق شوقاً إلى المشاركة فيها، ولم لا ؟ وهو ابن تلك الأرض الطيبة ، التي طالما كانت محط أنظار الطامعين على مر العصور .. نعم هو ابنها ، وإن لم يولد فوق ثراها ، ذلك لأنه ولد في قطر عربي مجاور، لكنه لم يشعر في يوم من الأيام أنه غريب عن وطنه الأم ، ويرجع الفضل في ذلك إلى والده ، الذي كان صلة الوصل بينه وبين وطنه ، فرغم يقينه أن أرض الإسلام واحدة ، إلا أنه يشعر بشيء يجره إليه ، بل إلى تلك المدينة مسقط رأس والديه، القدس الشريف ، فحب الوطن من الإيمان ، وله في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير الأسوة .. لقد كانت فرصة خالد جد عظيمة بوصول الأقارب من الأرض المحتلة ظهر هذا اليوم ، فالأخبار التي كان يسمعها من المذياع ، أو يرى بعض صورها في التلفاز ، لم تكن لتنقع غلته، وكيف يكون ذلك ومصدرها الوحيد عدوه ، كما أن التعتيم الإعلامي متفق عليه من الأطراف جميعها.. وهاهو اليوم وقد سنحت له الفرصة، ليسمع الأخبار الحقيقية عن الانتفاضة المباركة .. وبعد أن أخذ الضيف قسطاً من الراحة ، ودنت الشمس من المغيب ، تناولت الأسرة مع ضيفها طعام العشاء ، وبعد أن أدوا فريضة العشاء ، جلس الجميع بانتظار ضيفهم كي يبدأ حديثه ، وما هي إلا لحظات حتى انطلق لسان الضيف بالحديث: لقد كان يوماً عصيباً ، ذلك اليوم الذي أدينا فيه صلاة الجمعة ،الأسبوع قبل الماضي ، في المسجد الأقصى الشريف ، إذ انطلقت جموع المصلين في تظاهرة كبيرة حاشدة ، فقد شدد العدو الحصار على المتظاهرين ، محاولة منه في تفريقهم , ومنعهم من تسيير المظاهرة ، ولكن الشباب لم يكونوا بهذه السهولة التي تصورها اليهود ، فقد راحوا يشقون طريق المظاهرة بالحجارة حيناً ، وبالعصي والبلطات حيناً آخر، واليهود يهربون أمامهم ، واستمر ذلك ساعات ، والمسيرة تجوب شوارع المدينة ، ترفع رايات كتب عليها بعض الآيات الكريمة عن الشهادة وفضل الشهداء عند الله وعن الصبر و الحث على الجهاد ، أو تحمل عبارات التندد بالاحتلال ، ولكن المعركة اشتدت ضراوتها عندما حاول بعض جنود الاحتلال الاقتراب من جموع المتظاهرين ، واقتحام صفوفهم ، لإشاعة الرعب في قلوبهم ، لكن تماسك الشباب حال دون ذلك ، مما دفعهم لاستخدام الذخيرة الحية ، بعد أن فشلت أساليبهم جميعها في تفريق المظاهرة ، فقد استخدموا القنابل المسيلة للدموع ، والرصاص المطاطي الانفجاري ، الذي استورد حديثاً من بلد الحرية والعدالة ، وفي هذه اللحظات يكون قدر أحد الشباب الشهادة إنه سامي بن ملحم ، الذي أصابته رصاصة مباشرة في رأسه ، فقد كان يتقدم الجموع المتظاهرة ، بل كان من العناصر الأساسية في إنجاحها والتخطيط لها ، مما جعل قوات الاحتلال يستهدفونه دون غيره ، حمل الشباب الشهيد على أكتافهم وراحوا يرددون بعض الهتافات والشعارات التي اذكر منها: لا تقولوا فقدنا الشهيد فالعزم أضحى حديد ، سبعون حورية يا شهيد ونحن بعدك لا نحيد، الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .. وبعد أن قطعت المسيرة مسافة ليست بالقصيرة ، اختفت جثة الشهيد عن الأعين التي كانت معلقة بها ،ولم يدر أحد ما الأمر ، وزادت ضراوة العدو - في هذه المرة - أكثر من ذي قبل، وتفرقت المظاهرة طوعاً ، بأمر من قادتها ، فما كان من العدو إلا أن شدد الحصار على المتظاهرين ، وبصورة خاصة على المنطقة التي سقط فيها الشهيد ، فعمد إلى اعتقال بعض الأفراد ، واقتحم بعض المنازل بحثاً عن جثمان الشهيد ، لينتقم من أسرته ، بل ليوقع عليها أقسى أنواع الانتقام ، من هدم للبيوت ، وحرق للممتلكات ، وقطع للأشجار ، و فرض غرامات مالية ، ولكن محاولاته جميعاً باءت بالفشل
وتساءل خالد بعد أن توقف الضيف قليلاً عن الحديث : وكيف كانت النهاية ألم يدفن الشهيد؟ وما سر اختفائه ؟!
فاستطرد الضيف الحديث قائلا : كان لي شرف المشاركة في دفنه ـ يا خالد ـ فبعد أن أخلي الشهيد إلى أحد المنازل أثناء المظاهرة بصورة سريعة ، عمدنا إلى نقله إلى بيارة برتقال ، كانت قريبة من ذلك المنزل ، مستخدمين الباب الخلفي لذلك المنزل ، حيث قمنا بوضعه فوق شجرة من أشجار البرتقال الكبيرة ، وانتظرنا حتى جن الليل ، وهدأت الأوضاع قليلاً ، وعندها واريناه التراب تحت الشجرة ، وقد حاولنا جهدنا – رغم حلكة الليل – على عدم ترك أي أثر للحفر ، وتسللنا بعدها كل إلى منزله ، مستخدمين بعض الأزقة الضيقة، التي لا يتجرأ العدو على اقتحامها أو حتى المرور بها نهارًا، ناهيك عن دخولها ليلاً ، وتدخل خالد ليطلب من الضيف الكريم ، أن يحدثهم عن المزيد من الأخبار ، لكن الوالد طلب منه عدم إحراج الضيف بكثرة الطلب منه ، والإلحاح عليه، وإعطائه فرصة للراحة ، فالأيام التي سيقضيها بينهم كفيلة بتحقيق ذلك، فالانتفاضة المباركة ماضية ، ـ بإذن الله ـ ولن تكون هذه الأخبار هي آخر الأخبار ، ولن تكون هذه الليلة آخر الليالي التي يتحدث فيها عن الانتفاضة ، وعن أطفال الحجارة ، وسير الشهداء ، فأذعن خالد لقول والده ، ولم ينس بعدها أن يطلب من الجميع قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء الأبرار ، والدعاء لهم بالرحمة وحسن القبول قبل الانصراف إلى النوم ، فلبى الحاضرون دعوة خالد بكل سرور وشكروه على هذه اللفتة الكريمة