بلا بيروت بلا سان جورج
بلا بيروت بلا سان جورج
بقلم : عبد الله الطنطاوي
كان قد مضى على فراقنا أكثر من خمس سنوات، عندما التقيته _ قدراً _ في حديقة ( السبكي ) بدمشق ، وقد التفت ذراعه حول خصر فتاة يبدو أنها ( تقدمية ) جداً ، فتاةٍ شقراء يتدلّى من رأسها ( ذنب حصان ) جموح ، وذاتِ عينين زرقاوين جامحتين أيضاً ، ولها قامة مديدة شبيهة بنخلة باسقة ، فيما كان صاحبنا ما يزال يحتفظ بقامته القميئة ، وسمرته الداكنة ، وعينيه الصغيرتين كعيني إبرة مثقوبة من طرفيها .. كانت تنفث من فيها حزمة دخان لا تتناسب مع أنوثتها ، فيما كان ( السيجار ) الغليظ يعبر- بحزمات الدخان المنبعثة من فيه - عن جوف يحترق .. لقد كانت الفتاة من النوع الذي كان يتعامل معه قبل دخوله السجن ، بدليل أنها عندما رأته يقبل نحوي مسرعاً ، مسلّماً ومصافحاً ومعانقاً، أقبلت هي الأخرى تتهادى في غنج ، وتقول :
-اتركه لي يا إبراهيم .. أريد أن أسلم على صديقك ..
عندما رآها إبراهيم تتحفز للوثوب عليّ ، وقف في وجهها ، وحال بينها وبين ما تريد ، وهو يقول زاجراً :
-لا يا رانية .. هذا نمط آخر ..
-أليس صديقك ؟
-بلى .. ولكنه يختلف عن أصدقائي الآخرين الذين تعرفينهم ..
* * *
جلسنا على مقعد خشبي ، واختلط عبير الأزهار الربيعية التي تزين الحديقة البديعة، بالعبير الفواح الذي كانت قد اغتسلت به ( رانية ) فيما يبدو ، كما شاركت الوردة التي شكلها إبراهيم في عروة سترته ، في ترتيب الجمال الأخاذ الذي تبدّت فيه حديقة السبكي متنفَّسِ العشّاق في حيّ من أرقى أحياء دمشق الفيحاء .. وانطلق لسانه يسألني عن أحوالي حيناً ، ويحدثها عن زمالتنا في سجن الحلبوني سنة ثلاث وسبعين ، عن صبري وصلاتي وإيثاري الآخرين على نفسي مع شدة الحاجة إلى ما أوثر به سواي ، وإلى دماثتي ومعاملتي الممتازة لسائر المعتقلين ، وما إلى ذلك مما فاض به لسانه الذَّرِب .. وأخجل تواضعي الذي صار إلى شموخ في تلك اللحظة .. ومرة يسألني :
-كيف أفرجوا عنك ؟ كنت أظن أنك ستبقى في السجن ما بقي ( المعلّم ) ..
ومرّةً يلتفت إلى صاحبته ليحدّثها في ما لم أكن أعيه تماماً ، لأن شريط الذكريات المريرة كان ينثال على مخيلتي ..
* * *
عرفت إبراهيم الحسين هذا في سجن الحلبوني - كما قلت - ، وعندما سألناه عن سبب اعتقاله قال لنا : بسيطة .. والظاهر أنها ( بسيطة ) جداً ، فقد كان مدللاً ، وطلباته مستجابة ، وأكثر العناصر يعرفونه ويمازحونه .. كان معتقلاً وليس معتقلاً .. هكذا كان الزملاء يصفونه .. وذات ليلة شعرت أن الأرق قد جافى النوم عن أجفانه ، فسألته :
-مالك يا أبا الحس ؟
-قلق .. والنوم طاير من عيوني .
-خير إن شاء الله ؟
زفر زفرة من تشتعل منه الأعصاب وأجاب :
-طوّلوها .
-من ؟
-أولاد الكلب .
-من تعني ؟
سدّد نحوي نظرة يتطاير منها الشرر وقال :
-محمد المحيميد .. ابن المحيميد .. عرفته ؟
-تعني رئيس فرع المخابرات الخارجية ؟
-بالضبط .. مدير فرع فلسطين ..
-ماله ؟
أخرج إبراهيم سيكارة وسحب منها نفساً عميقاً ، ثم نفخ سحابة من دخان ، هو مزيج من دخان السيكارة، ومن الحرائق المشتعلة في جوفه ثم قال :
-تريد أن تعرف قصتي ؟
-إذا كان هذا يريحك .. فأنا أراك قلقاً ، مضطرباً .. وأرجو أن تنفّس عن نفسك ..
تلفت حوله .. رأى سائر الزملاء يغطون في نوم عميق .. قال هامساً :
-على شرط أن لا تحدّث أحداً بما سأقوله لك .
-مدى الحياة ؟
-بعد خمس سنوات على الأقل .
-هل ما تحدّثني به جريمة تذهب بالتقادم ؟
-لا .. لكن من الآن لخمس سنين يخلق الله ما لا تعلمون ، فقد أموت أنا ، أويموت ابن المحيميد ، أو يموت ( المعلّم ) .
-شرطك مقبول .
-اتفقنا إذن ؟
-اتفقنا ..
اقترب إبراهيم مني ، والتقم أذني ، وقصّ عليّ قصّته هامساً ، وهو يتلفت يمنة ويسرة، ويسكت لدى سماع أي حركة ، من سعلة أو نحنحة أو عطسة أو سواها .. قال :
-أنا من مدينة الخليل ، وكنت أخرج من الضفة متى أشاء ، وأذهب إلى بيروت ، ومنها إلى الشام.. وفي الشام تعرّفت إلى ابن المحيميد ..
-كيف ؟
-تريد الصراحة ولا تزعل ؟
-ولِمَ أزعل ؟
قال في وقاحة :
-عن طريق القوادة ..
-ماذا ؟
-ألم أقل لك .. بدون زعل ؟
-تابع إذا شئت .
كانت السيكارة قد أحرقت إصبعيه ، فصرخ وهو يلقيها على أحد الزملاء النائمين ، وكانت يدي أسرع من نارها، فالتقطتها وأطفأتها ..
-عفواً يا أستاذ .. غصباً عني .
-لا بأس .. تابع إذا شئت ..
قال في ارتباك واعتذار :
-لا تؤاخذني يا أستاذ .. سوف تحس باحتراق أعصابك ، وأنت تستمع إلى قصتي ..
تنهد إبراهيم ثم قال :
- سأحدّثك باختصار شديد .. وبكل وقاحة .. عملتُ قَوّاداً للمقدَّم ابن المحيميد .. واستطعت أن أبتزّه ، وكان يصرف بلا حدود، ثم أبرم معي عقداً لأَكون مخبراً من النوع الممتاز لديه .. صرت أكتب له بعض التقارير التي كان يمليها هو عليّ ، وأنا - يا أستاذ - نصف متعلم ، ولكن ( خدماتي ) له أهم من تقاريري المزيفة التي كنت أوقّع تحتها ، وليس لي منها غير الكتابة شيء ..
سكت إبراهيم فأغريته بمواصلة الحديث :
-وهل هذه هي القصة التي تخاف منها ؟ كلُّهم مثل صاحبك .
قال إبراهيم :
-هذا صحيح .. فكثيرون هم الذين يعملون في مهنة القوادة لأمثال ابن المحيميد من الضباط وكبار المسؤولين وحتى الوزراء ..
-إذن ماذا عندك بعد ؟
اتخذ إبراهيم سمتاً جاداً ثم قال :
-حلمك عليّ .. اسمع الجزء المثير من حكايتي ..
عندما عدت إلى الخليل ، واجهتني المخابرات الإسرائيلية بحقيقة وضعي وعلاقتي مع رئيس فرع فلسطين في المخابرات الخارجية ، وأرَوْني صورتين ملتقطتين لي مع ابن المحيميد ، فلم أستطع أن أنكر ..
-وبعدها ؟
-وبعدها تعاملت معهم ..
-مع المخابرات الإسرائيلية ؟
-إي نعم .. مع المخابرات الإسرائيلية .. مع الموساد .. عجبك ؟
-تابع ..
وتابع إبراهيم حديثه قائلاً :
-طلبوا مني أن أبقى على صلتي مع ابن المحيميد .. أي عميلاً مزدوجاً .. وعندما التقيت ابن المحيميد أخبرته بالأمر ..
-حتماً سبّك وسجنك ..
ضحك إبراهيم ضحكة هامسة :
-أبداً ..
-ماذا قال لك ؟ ماذا طلب منك ؟ ماذا تصرّف معك ؟
-على مهلك يا أستاذ ، فأنا نصف متعلم ، أم أنك نسيت ؟
كتمت غيظي :
-تابع أرجوك ..
-لا تقاطعني .. أم أنك تريدني أن أصلي الفجر معك ؟ .. لا يا صديقي ، صلّ أنت وحدك ، واتركني أكمل لك حكايتي مع أولاد الكلب .
-تابع يا إبراهيم تابع .
قال إبراهيم :
-قلت لابن المحيميد : إنهم يطلبون أن آخذ لهم مخططات معسكرات ( فتح ) في سورية ولبنان .
-وماذا قال ابن المحيميد ؟ ماذا تصرف معك ؟
-أبداً .. كان إيجابياً جداً معي .. قال لي : قبل أن تسافر أكون قد هيأت لك المطلوب ..
قلت :
-وهل وفى بوعده ؟
-طبعاً .. وعد الحرّ دين ..
قلت وأنا أضغط على أسناني ، وأعصابي تتمزق :
-أيّ حرّ وأيّ دين يا إبراهيم ؟ هذا خائن ، عميل ..
قال إبراهيم في أعصاب باردة :
-مسكين يا أستاذ .. أنت والله مسكين .. وصبرك عليّ ..
-تابع أرجوك ..
-بس حلمك عليّ ، وإلاّ أدرت ظهري ونمت ..
-تابع يا ابن الـ..
ضحك إبراهيم بصوت عال نسبياً وقال :
-هه .. الآن نزلت إلى الطابق .. سبّ أرجوك .. قل كلّ ما في نفسك .. روّح عن نفسك يا أستاذ ..
أجبت في ارتجاف :
-إما أن تتابع ، وإما أن أحلف ألاّ أكلمك أبداً ..
أحسست أني منفعل في وقت لا ينبغي لي أن أنفعل فيه ، فشددته من شعره وأنا أقول ضاحكاً :
-أحرقت أعصابي يا رجل .
استجاب إبراهيم لمداعبتي وقال :
-إذن .. اسمع ..
نظّف إبراهيم حلقه ، ثم قال :
-حملتُ مخططات معسكرات ( فتح ) وغادرت إلى بيروت .. وفي بيروت ، في فندق سان جورج تعرفت على فتاة تأخذ العقل .. جمال وحلاوة وشباب .. رقصنا معاً .. تعشَّيْنا معاً ، ثم ذهبتْ معي إلى غرفتي ، وسقتني من الويسكي ما طرحني ، وعندما استيقظت في الصباح ، كانت قد هربت وأخذت معها المخططات ..
قلت في لهوجة :
-كمّل يا إبراهيم .. يا ابن الـ..
قال إبراهيم في برود وهو يضحك :
-سلامتك يا أستاذ ، وسلامة قلبك وأعصابك ..سبّ ، والله أنا أستحقّ اللعنة .. سبّ ..سبّ ..
-طيّب كمّل أرجوك .
قال إبراهيم :
-عدت إلى صاحبي ورئيسي ابن المحيميد ، وحدّثته بما حصل ، وطلبت منه نسخة جديدة ، فقال في شيء من الاضطراب :
-أخشى أن تكون مخابرات ( فتح ) هي التي أرسلت إليك الفتاة .. أكيد .. حتماً هي التي أرسلت إليك الفتاة .. معنى هذا أنهم كانوا يراقبونك ويراقبونني .. كان يجب أن تحتاط يا إبراهيم .. على أي حال ، سنتدبر الأمر .
سألت :
-وهل تدبر الأمر يا أبا حسين ؟
قال إبراهيم - وقد نشِط وطار النعاس والذبول عن أجفانه _ :
-يبدو أنّ معلّمي ابن المحيميد روجع فيما حصل ، ثمّ أمروه أن يحقق معي ، فبعث بي إلى هنا .. إلى هذا السجن الملعون ، لأتعرّف إلى وجهك النـّير يا أستاذ ..
* * *
أحسّ إبراهيم وصاحبته أنني لست معهما في هذه اللحظة بعقلي وقلبي ، وإن كان جسمي يلاصق جسمه ، فنبّهني :
-إيه يا أستاذ .. أين وصلت ؟
وبدون انتباه أجبت :
-إلى وجهك النيّر يا أستاذ ..
ضحكا معاً .. استغرقا في الضحك ، فشاركتهما بابتسامة خاطفة وقلت :
-بعد أن أخذوك من عندنا .. إلى أين ذهبت ؟
قال ودموع ضحكاته تملأ عينيه وتسيل على خديه :
-ذهبت إلى ابن المحيميد ( والتفت إلى صاحبته ثم التفت نحوي ) وأخذت نسخة جديدة من المخططات ، وعدت إلى الخليل ، ولكن .. بلا بيروت وبلا سان جورج ..