عقلاء المجانين
عقلاء المجانين
قصة: نزار ب. الزين
مغترب من أصل سوري
موقع : www.FreeArabi.com
بريد : [email protected]
إسمه عِزَّة و يلقبونه (عزّو) تارة و ( أبو العز) تارة أخرى
عندما بلغ المرحلة الثانوية كان خجولا و إنطوائيا ، فلقبه زملاؤه في الصف بالسلحفاة ؛ ثم حاول بصعوبة أن يندمج معهم و لكن تربيته الصارمة ، كانت تمنعه من مسايرتهم ، فمعظم ألفاظهم كانت سوقية ، و قاموس شتائمهم كان أوسع من مجلد ، و طريقة عبثهم مع بعضهم بعضا تدور كلها حول الجنس و الجنس المثلي .
كانوا يرفضون مشاركته في أحاديثهم و يأبون مشاركته بألعابهم ، كان إذا أخطأ في إجابة مدرس على سؤال ، ينفجرون ضاحكين حتى لو لم يكن في الأمر فكاهة ، و إذا حاول التقرب من أحدهم يشيح عنه بوجهه و يتجاهله ، و ظل منبوذا و في حالة صراع مع نفسه إلى أن إكتشف أنه لا بد من الإستسلام .
و رويدا رويدا بدأ يتقبل من بعضهم ما كان يرفضه من قبل ، ثم ما كاد العام الدراسي ينتصف حتى طال لسانه و تضاءل حياؤه !
و ذات يوم أسود ، وفي أعقاب الإنصراف خرج أبو العز مع ثلة من زملائه ، و أخذوا جميعا يتعابثون و يتشاتمون و يتضاحكون ، و فجأة وجد نفسه بين براثن والده .
* * *
بادره على الفور بصفعة دوخته و ألقته أرضا ، ثم بدأ يعالجه بمظلته فوق كل موقع من جسده .
صُدِم زملاؤه
و قفوا مذهولين فاغرين أفواههم
و عندما أراد أحدهم التدخل أجابه بضربة من مظلته
فابتعدوا جميعا و قد تملكهم الأسى على زميلهم
مر أحد المدرسين ، فحاول التدخل ، فصرخ في وجهه :
- " هذا إبني و أريد أن أربيه "
- و ما الذي فعله يا أخ ، أنت تكاد تجهز عليه ؟
فصاح أبو عزة بشكل هيستيري :
- هذا ابني و أنا حر التصرف به ، أذبحه أشنقه أدفنه حيا ، أنا حر ( و ما حدا دخله ) . ثم انهال عليه ضرباً من جديد .
الفتى يصرخ و يستغيث و الناس بدؤوا بالتجمهر حوله ، و لكن أمام هياج الوالد الشديد لم يتمكنوا من فعل شيء !
* * *
صاح الوالد :
- إنهض يا كلب ، و إمشِ أمامي حتى الدكان ...
استطاع عزة النهوض بصعوبة ، و بدأ يتحرك ببطء فقد كان يشعر بالدوار ، و لكن والده كان يعالجه بضربة من مظلته كلما حاول التلكؤ لإلتقاط الأنفاس .
و بلغا أخيرا الدكان
أمر أجيره بالإنصراف
أغلق الدكان من الداخل
و بدأ ت من ثم دورة أخرى من التعذيب ....
كان الأجير، قد أطلق ساقيه يسابق الريح نحو دكان عم الفتى ، ثم عاد به جريا ، ثم أخذا يقرعان الباب معاً ، ثم كان لا بد من من كسره و اقتحامه ، ثم استطاعا معاً تخليص الفتى بصعوبة .
كان عزة ساعتئذ في حالة غيبوبة تامة .
- أتريد أن تقضي بقية حياتك في السجن يا أخي ؟
سأله أخوه لا ئما ، فأجابه و هو يرتعش غضبا :
- أريد أن أشرب من دمه و ليكن بعدئذ ما يكون !!
( شرف العيلة أهم من ستين ولد )
لقد شاهدته بعيني و سمعته بأذني
كان يتبادل مع رفاقه العبث البذيء الذي يؤكد وجود علاقة شاذة بينهم !
ثم أضاف بغضب شديد :
- هل ترضى لهذا الكلب أن يلوث شرف العائلة ؟
- و لكنه ذكر !
- لا فرق عندي بين ذكر و أنثى في مسائل الشرف !
صمت أبو سليم طويلا و هو يهز برأسه ، ثم اقترح و هو يربت على كتف أخيه :
- دعه لي ، و سأنتزع منه الحقيقة على طريقتي !
* * *
كان أبو سليم أعزبا و لُقب أبو سليم رغم عدم وجود سليم ، فقد رفض الزواج بإصرار لا يعرف أحد سببه ..
تعاون مع سامي أجير أخيه ، حتى أوصلا عزة شبه محمول ، ثم ألقياه على أريكة في ( ليوان ) المنزل .
لم يقصر العم أبو سليم بالعناية به بداية ، فقام بتنظيف جراحه الكثيرة و استعان بحفنات من البن لقطع نزيف بعضها ، و عندما لاحظ ارتفاع حرارته ، غادر المنزل فاشترى قطعة جليد و إبريقا من عصير الليمون ، ثم عاد إلى منزله محاولا تخفيض حرارة ابن أخيه . ثم دئب على ذلك كل يوم .
* * *
بعد حوالي أسبوعين بدأت بعض مظاهر العافية تبدو على عزة ، فقد أفاق من إغمائه و تمكن من تحريك رأسه و لكن إحدى يديه لم يستطع تحريكها .
كان يشعر بالإمتنان لعناية عمه به ، فكانت العبارة الأولى التي نطق بها شكره لعمه ، و لكنه صدم عندما أجابه عمه بغلظة :
- كنت أخشى على أخي و ليس عليك !
فرد عزة مستاء :
- أنت تكرهني كما يكرهني أبي ، إذاً دعوني أسافر إلى أمي ...
فأجابه عمه في لهجة تهكمية :
- أمك ؟ أنت من عائلة فستق و لست من عائلة العبد الله ، ثم إن أمك ، يا حبيب أمك ، بعد أن طلقها أبوك ، تزوجت من آخر و تعيش معه في حلب ، إن قبلت إستقبالك فزوجها لن يقبل ، و خاصة إذا علم بفعلتك الشنعاء .
- فعلتي ؟ و ما الذي فعلته ؟
أجاب عمه و قد بدأت الدموع تتساقط من عينيه مرغما ، فرد عمه قائلا و قد تجهم وجهه و قطب جبينه :
- عندما تتعافى تماما ، أنا من سيسألك عما فعلت ، و أنت من سيجيبب ، و لن ترحمك دموعك !
*
* *
التحقيق
و بعد أسبوع آخر
بدأ أبو سليم : يستجوب إبن أخيه :
- إليك ورقة و قلما ، قبل كل شيء أكتب لي أسماء أصحابك الذين كانوا برفقتك .
فكتبَ الأسماء ...
- أيهم كان على علاقة بك ؟
- كلهم !
قالها ببراءة ، فأجابه عمه و قد ازداد تجهمه :
- كلهم يا كلب ، و تقولها بملء الفم ؟
- أجل ، كلهم زملائي في الصف و أصحابي ؟
- عزة ، لا تتلاعب معي أو تراوغ ( إن كنت العدل فأنا رباطه ) ، اعترف لي بكل شيء ، إلى أين كنتم متوجهين ، و أين اعتدتم ممارسة رذائلكم .
- عمّو
أقسم لك أننا كنا نلعب و لا شيء غير اللعب .
و عند رأس شارع المدرسة كنا سنفترق كالعادة ...
هنا ، نهض العم أبو سليم غاضبا
توجه إلى أحد الأدراج
أخرج منه صندوق من الورق المقوى
فتح الصندوق
أخرج منه مسدسا
ثم وجه كلامه إلى ابن أخيه مهددا :
- أنظر إلى هذا المسدس ، إنه محشو بالكامل ، سأفرغ رصاصاته في رأسك ، إن لم تعترف لي اعترافا كاملا .
صاح عزة بعصبية :
- أعترف بماذا ، قلت لك كما قلت لأبي من قبل ، أننا كنا نلعب و نمزح و حسب و لا شيء بيننا غير اللعب و المزاح .
إلا أن عمه عاجله برفسة أصابت يده التي لا زالت مصابة ، فصاح متألما ، ثم ما لبث أن فقد أعصابه و في أقصى حالات الهياج أخذ يشتم عمه و أباه و أبا أباه و كل ما يمت لعائلة فستق بنسب .
تقدم أبو سليم نحوه ثانية و قد استبد به الغضب يريد توجيه ضربه جديدة ، فهب عزة واقفا ثم مبتعدا عنه ثم أسرع نحو الطاولة ، و بلمح البصر اختطف المسدس ، وجهه نحو عمه و أخذ يصيح بشكل هيستيري :
-أنا من سيفرغ رصاصاته برأسك إن مسستني ثانية !
ثم إزداد صراخه و هو يقول :
* لا مزيد من الضرب ....
* لا مزيد من الإذلال ....
* لا مزيد من الظلم ....يا غجر ..
* لا مزيد من الضرب.... يا حثالة البشر ....
* يا وحوش .يا.وحوش .يا .وحوش.
و فجأة انقض عليه عمه محاولا انتزاع المسدس منه
و لكن رصاصة انطلقت خلال العراك فأصابت ساق العم
و إذا بأبي سليم ملقىً على الأرض يتلوى و يتأوه و يستغيث .
أصيب عزة بالذهول ، و العجز عن التصرف ، و لكنه أخذ يصرخ بشكل هستيري :
- دم ....دم ... دم ....دم...
يزداد صياح العم، و يزداد نزفه ...
و أبو العز ، يدور حوله ، و هو يهتف بصوت مبحوح ، و في مزيج من الهلع و الفرح ، بين ضاحكٍ و باكٍ :
- قتلت الوحش .. قتلت الوحش !
سأقتل كل الوحوش ...
سأقتل كل الوحوش .....
سأقتلهم .. سأقتلهم ...
ثم رفع المسدس عاليا ، و بدأ يطلق الرصاص في الهواء و هو بهزج :
-الله الله يا مفرج المصايب
أضرب رصاص .. خلي رصاصك صايب .....
*
* *
الفصل الثاني
مجموعة من طلاب كلية الطب برفقة أستاذهم ، يزورون مصح الأمراض العصبية و النفسية .
أحد الطلاب يلفت نظره مريض في ريعان الشباب ، جلس على طاولة في أحد أركان القاعة الثالثة ، و قد ملأ جيب قميصه بالأقلام ، و غرس وراء كل من أذنيه قلما إضافيا و انكب على ورقة بين يديه يرسم عليها خطوطا متقاطعة ؛ فتقدم منه و جرى بينه و بين المريض الحوار التالي :
- أنا محمد الأحمد طالب بكلية الطب ، هل لي أن أتعرف عليك ؟
فحملق في وجهه مليا ، ثم أجابه هامسا :
- ألست من المكتب الثاني ( المخابرات ) ؟
- أبدا و الله أنا طالب جامعي و أقوم مع رفاقي بكتابة بعض الملاحظات عن مرضى المصح ، و قالوا لنا أن مرضى القاعة الثالثة يمكن التفاهم معهم لأن حالاتهم معتدلة .
وقف المريض و اقترب من الطالب ، ثم أجابه بصوت خفيض :
- هل يمكنك مساعدتي للخروج من هذا المعتقل ؟
أجابه الطالب هامسا :
- سأفعل ما بوسعي إذا أجبتني على كل أسئلتي :
عاد المريض إلى مقعده و ابتدأ من ثم يجيب :
* أنا عزة فستق
* أنا ضحية مؤامرة دبرتها لي المعارضة .يا دكتور..
* أنا من أعوان الرئيس ، و أكثر الناس التصاقا به ، و لكن عندما اكتشفت أنهم يخططون لإغتياله ، دبروا لي تهمة ، و ألقوني في غياهب هذا المعتقل .
* الرئيس لا يعلم أنني في المعتقل و من المؤكد أنه يبحث عني في كل مكان ..
* هل بإمكانك تمرير رسالة إليه ، أرجوك إفعل فالمؤامرة كبيرة وتشترك فيها بعض السفارات الأجنبية .
* أما هذه الأوراق فهي ملفات اختراعاتي التي ستغير العالم !
* الأول ، يتعلق بسلامة النقل بين القارات ، فأنت تعلم بمآسي حوادث الطيران و اختراعي هو بديل للطيران ، هو بكل بساطة عبارة عن تمديد كابلات بين الدول تتجاوز الجبال و البحار و المحيطات ، و تتنقل فوقها المركبات كأنها فوق سكك القطارات .
تجمع الآن حول عزة طلاب آخرون و مرضى آخرون
يستريح عزة قليلا ثم يتابع :
* أما الإختراع الثاني فهو أكثر أهمية ، هو حفر بئر عميقة .. عميقة جدا تخترق مركز الكرة الأرضية ثم تنفذ من الطرف الآخر ، فمثلاً إذا حفرنا البئر في دمشق يمكن أن تنفذ من إحدى المدن الأمريكية !
نشر عزة أوراقه و قد امتلأت خطوطا غير مفهومة في كل اتجاه ، ثم أضاف :
- هذه هي مخططاتي هل يمكنك يا دكتور محمد أن توصلها إلى الرئيس ؟
أجابه محمد مبتسما :
- طبعا طبعا !
ثم أضاف هامسا :
- و تبلغه أن ساعده الأيمن عزة فستق معتقل ؟
فأجابه :
- سأفعل ( على عيني و راسي ) !
* * *
و أمام ذهول طلاب الجامعة و أستاذهم و مدير المصح صعد عزة فوق الطاولة ، و أخذ يهتف :
-عاش عاش فكري بك ...
فرد المرضى بصوت واحد :
- عاش ... عاش... عاش
ثم هتف :
- من زعيمكم يا شباب ؟
فأجابوه بصوت واحد :
- فكري بك ...
من أبوكم يا شباب ؟
فأجابوه بأعلى أصواتهم :
- فكري بك ...
ثم أخذوا يهزجون مرددين وراء عزة :
* فكري بيك ....فكري بيك
* لعينيك ... لعينك
* و يا دوّاره دوري دوري
* على عِداك دوري دوري
* و عِزي و بلادي ... سوريه
* الله يحميك ..... سوريه
* من شر عِداك ...سوريه
ثم هتف بصوت مبحوح :
- تسقط المعارضة العميلة .... تا
فردد المرضى :
- تسقط ... تسقط.... تسقط
ثم اتخذ موقف الخطيب و أضاف مقلدا صوت الرئيس و حركات يديه:
- أيها المواطنون ...يا معشر شباب القاعة رقم 3 ، أبشركم بأنني حصلت على وعد شرف من زوارنا الكرام ، بأنهم سيتعاونون معنا على فضح المؤامرة الإستعمارية ...الصهيونية .. الأمبريالية .....البلشفية.... الفاشية ..الماسونية.. الدنيئة ، و أنهم سينضمون إلينا في هذا الصرح الجبار ...صرح القاعة رقم 3 ... رمز النضال من أجل الحرية ...و ذلك لكشف المؤامرة الخسيسة ...التعيسة... .النجيسة .. النحيسة...الكبيسة ....و سيعملون على إخراجنا من هذا المعتقل في القريب العاجل !
* يحيى( طباطبة) المستقبل ....يا
و بصوت واحد رددوا :
* يحيى ....يحيى ....يحيى
* * *