أقراط حسنيه
عصام أبو فرحه
حمل الورقة النقدية وقلبها بين يديه مرات ومرات , رفع رأسه ونظر باستغراب إلى الرجل , وقال بصوت خافت : إنها ( مائة شيكل ) يا سيدي , أليس كذلك ؟؟
- نعم هي كذلك , رد الرجل بهدوء ,
- يا سيدي , قلت لك ثلاثة شواكل , أجرتي ثلاثة شواكل , من أين لي أن أعيد لك الباقي ؟؟؟
بتهذيب وابتسامة وطيبة قال الرجل : هي كلها لك , أعطاك الله الصحة والعافية .
قال تلك الكلمات وانطلق بسيارته , تاركأ عبد الجليل في حيرته , يقف مذهولاً ينظر إلى الورقة في يده المرتجفة أحياناً , وإلى السيارة التي ابتلعها الزحام أحياناً أخرى ,
- أمجنون هذا أم ماذا ؟ أم هل أنا من أصابه الخرف ؟ نعم إنها هي , هي بعينها , ورقة المائة , واحد إلى جانبه صفر وصفر آخر ,
وقف في وسط الشارع يحدث نفسه , متكئاً إلى عربته تعتريه الحيرة ويلفه الذهول , سنين طويلة أمضاها في سوق الخضار , يجر عربته من طلوع الشمس إلى غروبها , حاملاً ما يبتاعه الزبائن من خضار وفواكه لإيصالها إلى سياراتهم , يتقاضى أجرته تبعاً لمواصفات الزبون , فشكل السيارة واللباس وربما طريقة الكلام , كلها عوامل تشترك في تحديد المبلغ المطلوب والذي لا يتجاوز ثلاثة شواكل في أحسن الأحوال , بين خمسة أحمالٍ وعشر يتراوح عدد الأحمال التي يظفر بها عبد الجليل يومياً , عشرون من الشواكل هي متوسط دخله , بالكاد تسد الحاجات الأساسية - بل والأساسية جداً - له ولزوجته حسنية , ولو أنهما رزقا بأطفال لما كانت تسد شيئا , وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم , كان يقولها دائماً مصبراً نفسه ومواسياً حسنية ,
ظل عبد الجليل يقف بين مصدق ومكذب للأمر , يجلس على أحد جوانب عربته يقلب ورقة النقد , وبعد أن تخلص من ذهوله وأحس بحقيقة ما حدث , دخل مرحلة التخطيط والإعداد لما هو آت , حيث كان أول قراراته هو ايقاف العمل لهذا اليوم , بهمة ونشاط جر عربته إلى مكان مبيتها اليومي , حيث أحكم ربطها إلى الجدار بسلسلة حديدية , ومن ثم انطلق مسرعاً مبتسماً مغادراً السوق وأهل السوق , تحسس الورقة وقد استقرت في جيب قميصه , وحين انحنى قليلاً ونظر الى نفسه رآها واضحة المعالم تظهر من بين مسامات قميصه الشفاف , فارتعد وقال محدثاً نفسه: ما هذا يا عبد الجليل ؟ هذا مال غير محرز , إنه مكشوف لأصحاب النفوس الضعيفة , لو سُرق فلن تقطع يد سارقه , سأضعه في جيب البنطال , إنه أكثر أمناً , لكنه استدرك قائلاً : لا يا عبد الجليل , إذا جلست أو انحنيت ستسقط الورقة وربما لن أحس بها ,
نظر من حوله بترقب وحذر , وقد لمعت في مخيلته فكرة مناسبة تكفل له الأمن والأمان وراحة البال , بحركة خاطفة رفع بنطاله عن أحدى رجليه , وبحذر شديد تناول الورقة ودسها في جرابه ,
- والآن يا عبد الجليل , المبلغ في حوزتك , قال محدثاً نفسه بسعادة ونشوة , حسنية أيتها الحبيبة الغالية , سأحقق مطلبك الذي طالما تحدثنا به , سأشتري لك قُرطاً جديداً , كم ستكون فرحتك عارمة , استذكر عبد الجليل زوجته التي أضاعت أحد قرطيها قبل سنتين أو يزيد , حينها نزعت القرط الآخر عن أذنها واحتفظت به , وكانت تقول : احفظ شكله جيداً يا عبد الجليل , وكأنها تطالبه بشراء قرط جديد , واستذكرها عندما كانت تتزين له في بعض الأحيان , فتلبس في إحدى أذنيها القرط الذي ما زالت تحتفظ به , وتسدل شالاً على رقبتها ليغطي تلك الأذن التي ضاع قرطها ,
تابع عبد الجليل حديثه إلى نفسه : نعم حسنية تستحق ذلك وأكثر , والمبلغ كافٍ ويزيد , إنه قرط واحد فقط وليس زوجاً من الأقراط , كما أنه خفيف الوزن , لن يتجاوز ثمنه سبعين أو ثمانين شيكلاً , نعم المبلغ كافٍ ويزيد , سيتبقى لدي ما يكفي لتحقيق حلم صغير , حلم طاردني في ذهابي وإيابي وكنت أحسبه صعب المنال , ذلك المطعم الفاخر, الذي طالما أغوتني وراودتني دجاجاته المصطفات المتقلبات أمام المشواة , كم وقفت أمامها صاغراً عاجزاً , فالأمس ما كان لك يا عبد الجليل , ولا أخال أن الغد سيكون غدك , أما اليوم فهو بلا شك يومك , هاهو المطعم أمامك وهاهن الدجاجات ينظرن اليك ساخرات , جاهلات حقيقة ما تملك , سأنقض على إحداهن بلا رحمة أو شفقة ,
صفق بيديه كما رأى البعض يفعلون , انحنى أمامه النادل قائلاً : تفضل يا سيدي ,
- أريد دجاجة سمينة محمرة , مع بعض الخبز , قالها بصوت مرتفع ورأس مرفوعة , ولكن أسمع – حينها رفع جسده عن الكرسي قليلاً ونظر حوله بشيء من التوتر والخجل وهمس في أذن النادل : لا أريد أن يتجاوز ثمنها عشرين شيكلاً ,
انفجر النادل بضحكات عالية ولم يستطع الكلام , أما عبد الجليل فقد انكمش في مكانه , وصار يرمق المحيطين بنظرات خاطفة , ويقول : ما بك يا رجل ؟ أرجوك توقف عن الضحك , الكل ينظر صوبنا , بعد فترة استطاع النادل أن يتوقف عن ضحكاته والتي كانت عفوية غير مقصودة وقال : يا رجل , ثمن دجاجة كالتي تريد مع توابعها يزيد عن مائة شيكل , هل أنت غريب عن البلاد ؟
- بل أنا غريب عن الدجاج يا صاحبي , قالها عبد الجليل وقد بدأ اليأس والخجل بغزو معالم وجهه , وقد بلغ به الجوع مبلغاً , عاود وهمس في أذن النادل : هل يوجد عندكم ما آكله بما لا يزيد عن عشرين شيكلاً ؟؟
- لا شيء غير الفول , صحن من الفول مع الخبز والبصل وكأس من الشاي بعشرة شواكل فقط ,
- فول ؟؟ فليكن الفول , فإن الفول بمطعم كهذا لن يكون طعمه كأي فول , سآكل فولاً وأشتم رائحة دجاج ,
كور عبد الجليل قطعة من الخبز حتى صارت كالمجرفة , وغاص بها إلى أعماق صحن الفول , وما هي إلا عضة واحدة حتى صرخ صرخة دوت في المطعم وخرجت منه , وضع يده على فمه وتابع الصراخ , اجتمع كل من في المطعم حوله , زبائن وموظفين , أحدهم يصرخ : يا له من نزيف حاد ؟ بينما يضع آخر كمادة ماء بارد على فمه , صاح النادل تعال معي , هيا استقوي على نفسك وحاول أن تقف , الدم يسيل من فمك بغزارة , ساعدني أرجوك حاول أن تمشي , فوق مبنى المطعم هنالك عيادة لطب الفم والأسنان , هيا اصعد ولا تتأخر , الدم ما زال يسيل .
وصل عبد الجليل إلى العيادة حيث ألقى بنفسه على كرسي الطبيب وقد بدت عليه معالم الخوف والارتباك , بدأ الطبيب عمله دون أن يسأله عن الأمر, وبعد أن تمكن من ايقاف النزيف قال : ما الذي حدث ؟ كيف انكسرت هذه السن ؟
- لا أعرف يا دكتور , كنت آكل بعض الفول , بل كنت سآكل بعض الفول , فأحسست بألم فظيع في فمي وسالت الدماء غزيرة كما ترى ,
- نعم أظنه حجر كان مع الفول , كان يجب أن تتنبه , أو ربما حبة من الفول ما زالت صلبة لم تنضج بعد , على أي حال ساقتلع بقية السن , وسأعالج الجرح , لا تقلق ستكون بخير .
بعد ساعة فتح عبد الجليل الباب وهم بالخروج من غرفة الطبيب , بدا مترنحاً وقد غص حلقه بطعم البنج والمعقمات ,
- يا سيد عبد الجليل , - استوقفه الطبيب قائلاً – لم تدفع الحساب , يكفي منك مائة شيكل ,
استدار عبد الجليل بعيون ذابلة ووجه شاحب , وقال باستسلام وتسليم للأمر الواقع :
آسف يا دكتور , والله نسيت , تقدم حينها بخطوات متثاقلة نحو الطبيب وقال بعد أن رفع رجله : اعذرني يا بني , لا استطيع الانحناء , النقود موجودة في الجراب , اسحبها ,
بامتعاض واضح وازدراء شديد انحنى الطبيب وسحب ورقة النقد ودسها في جيبه ,
خرج عبد الجليل يحدث نفسه بصوت مسموع :
لا تحذني يا حثنيه , في القريب العاجل ثأثتري لك القرط الذي ترغبين ,
سمعه الطبيب فناداه وقد لاحظ وقوع حرف السين من بين كلماته : لا تنس يا عبد الجليل , عندما تشعر بالتحسن يجب أن تعود لزراعة سن جديدة , وإلا سيظل حرف السين غائباً عنك , ولا يفوتك أن تجلب معك مائة أخرى من الشواكل ,
واصل عبد الجليل سيره دون أن يلتفت إلى الخلف و وتابع كلامه بصوت مسموع أيضاً :
مثكينة يا حثنيه , قد أضطر في القريب العاجل لبيع القرط الذي تملكين .