استقالة الأستاذ عبد العظيم
استقالة الأستاذ عبد العظيم
|
بقلم : محمد علي شاهين |
لم أكن أصدق كل ما كان يقال عن خفة روح الرجال السمان وحبّهن للفكاهة والمرح حتى التقيت بالأستاذ عبد العظيم، الرجل القصير ابن الأربعين عاماً .
كل شيء في المدرسة الريفيّة التي كنت أعمل بها مع الأستاذ عبد العظيم كان متجهّماً ودقيقاً، ويوحي بأن مدير المدرسة قد ارتكب خطأ فادحاً يوم رضي القبول بهذا المنصب المتواضع، لأنّه خلق ليكون حاكماً عرفيّاً، يحكم بقانون العصا ويستخدم مواهبه لترويض من حوله، وقد أهّله لهذا المنصب: وجه عبوس، وشفتان ملتصقتان، وعبارتان مكرورتان لا يمل عن ترديدهما كلّما أراد إظهار براعته في الخطابة، وآلة صدئة وهبها له حلاّق القرية لجزّ رؤوس الطلاب الصغيرة الفارغة كلّما أراد أن يثبت جدارته الإداريّة، واستغلال سافر لصمت الجميع وإيثارهم السلامة .
وعورة طريق الوصول إلى المدرسة المتفرّع من الطريق الملتوّي كالأفعى السوداء عبر الوديان السحيقة والسفوح الجرداء التي تملأ جبال السروات، وضمور حيوانات القرية وهذالها، ونضوب بئر القرية الوحيد، وشرود الطلاب الخاوية بطونهم، ونومهم فوق أكمامهم المتسخة تحت سقف منخفض يزداد اشتعاله باللهب كلّما اقترب العام الدراسي من نهايته، جعلني أعد الأيّام على أصابع يدي كلما وضعت رأسي على أريكة المساء .
كل طلاّب المدرسة كانوا على موعد مع عطلة الحج تخلّصاً من أعباء الدراسة، ومشقّة الوصول إلى المدرسة، إلاّ الأستاذ عبد العظيم فقد كان يترقب بشغف موسم الحج لأنّه يشعر بشوق حقيقي إلى تلك الديار، ويسعى لتطهير نفسه من ذنوب كدّرت عليه حياته .
لم يهدأ عبد العظيم حتى التقى برفاق الرحلة، فتقاسم معهم تهيئة الخيمة وأدوات الطبخ وأوعية الماء، وتطوّع أحدهم بنقلهم مجّاناً إلى منى في الزمان المناسب فكانت رحلة ميسرة .
ووسط الزحام وجد عبد العظيم ورفاقه فرجة ضيّقة بين خيام الحجاج تطل على طريق فرعي، فنصبوا عمود خيمتهم في وسطها ودقّوا أسافينها في التراب، وكان عبد العظيم أكثر الرفاق سعادة عندما فرش بساطه أمام الخيمة واستلقى بجسده المترهّل المتعب على جنبه الأيمن وقد مالت الشمس نحو الغروب فأخذته سنة من النوم بينما كان كفّه الأيمن مبسوطاً على الأرض .
سمع عبد العظيم وقع أقدام تقترب منه، وصوت رجال يتحدّثون بالتركيّة فوق رأسه، بينما كان رفاق رحلته منشغلين بترتيب الخيمة وإعدادها للنوم قبل حلول الظلام، إلاّ أنه لم يعر الجميع انتباهه وفضّل الاسترخاء بعد رحلة شاقّة استغرقت عدّة ساعات .
استيقظ عبد العظيم وقد تحلّق رفاق الرحلة حوله ينظرون إلى كفّه وهم يضحكون بصوت عال، وكأنّهم نسوا قداسة المكان .
نظر عبد العظيم إلى موضع نظراتهم فإذا كفّه اليمنى مملوءة بقطع نقديّة معدنيّة وورقيّة فذهل من المفاجأة، ثم أخذ يضحك معهم حتّى اضطجع على بطنه .
ـ عامل شحات اليوم يا أستاذ عبد العظيم ! !
ـ عاوز اتشارك ويّاك يا عبد العظيم بيه ! !
جلس عبد العظيم القرفصاء وسط تعليقات رفاقه وأخذ يعد ما رزقه الله من مال وفير والابتسامة تملأ وجهه الضاحك، قبل أن يضعه في محفظته .
وانتهت مناسك الحج لكنّ ما وقع للأستاذ عبد العظيم من مفارقات منذ اليوم الأول للرحلة ظلّ يملأ الخيمة بالمرح والسرور ويخفّف عن الرفاق القيظ والإرهاق والتعب والزحام .
وعاد الجميع إلى بيوتهم فاجتازوا الطريق الملتوي كالأفعى، ومعهم الأستاذ عبد العظيم وقد فاز بثواب الدنيا والآخرة ! !
وفي أوّل اجتماع يعقد في المدرسة تحدّث المدير بلهجته الفوقيّة المتعالية، ثم أخذ يتقرّب من المعلّمين فسألهم عن أمنياتهم التي يستطيع تلبيتها .
وقف الأستاذ عبد العظيم ابن الأربعين عاماً أمام مكتب المدير وعيون معلمي المدرسة ترمقه بالمحبّة، إلا أنّ الجميع ذهلوا من أمنيته التي تمنى تحقيقها.
عبد العظيم: أرجو أن تقبل استقالتي يا سعادة المدير .
المدير: وهل آذاك أحد يا أستاذ عبد العظيم حتّى تستقيل ؟
عبد العظيم: أنا شفت شغلانة أفضل يا بيه .
المدير: وماذا تنوي أن تعمل ياعبد العظيم ؟
أخذ عبد العظيم يتحدّث عن طبيعة عمله القادم وسط استغراب الجميع ودهشتهم، ثم أخذ يشرح للمدير والزملاء تجربته خلال رحلة الحج، فضجّت القاعة بالضحك وبدت نواجذ السيّد المدير لأوّل مرّة، بينما كان الأستاذ عبد العظيم يتمدّد على جنبه الأيمن، وكفّه مبسوطة على بلاط الغرفة .
(تمت)