أمنيات

أمنيات

بقلم : نازك الطنطاوي

 

إيمان ورغد فتاتان في عمر الأزهار، كانتا صديقتين حميمتين، كأنّهما أختان من أب وأمّ، تحبّان بعضهما البعض، وكلُّ واحدة منهما تتمنّى الخير لصديقتها.

وكانتا كسائر الفتيات، تتمنّى كلُّ واحدة منهما أن يكون لها بيت جميل، وزوج طيّب، وبنون وبنات.

وفي يوم من الأيام، وبينما كانت إيمان ورغد جالستين تتجاذبان أطراف الحديث عمّا تريدانه من المستقبل، قالت إيمان:

- أتمنّى من الله العليّ القدير، أن يجمعني بزوج طيّب، يحافظ

عليّ؛ ولا يهمّ إذا كان غنيّاً أو فقيراً.. المهمُّ أن يكون رجلاً شهماً، ذا أخلاق عالية، وأن تكون معاملته لي ومع كلّ النّاس، على أساس من المحبّة والاحترام المتبادل. المهمّ أن يكون رجلاً بحقّ، وبسيطاً في آن واحد.

ضحكت رغد من كلام صديقتها إيمان، وقالت لها:

- كم أنت طيّبة القلب يا إيمان! هل في هذا الزّمان من يتمنى رجلاً بسيطاً لا يملك نقوداً ولا أموالاً ولا عقارات ولا.. النقود أصبحت في هذا الزمان - يا صديقتي - كلَّ شيء، والأخلاقيات والمحبّة والتفاهم وسواها من القيم التي تتمسّكين بها سوف تأتي بعد ذلك.

وبعد لحظة صمت، التقطت فيها أنفاسها، تابعت رغد تقول:

- أريد رجلاً غنيّاً أولاً وآخراً، يسكنني في قصر مليء بالخدم والحشم، ويملأ صدري ومعصمي بأثمن الجواهر وأغلاها، أطوف معه أرجاء العالم.. ثم بعد ذلك، تأتي المحبّة والتّفاهم وما تريدين يا عزيزتي.

ومضت الأيام والسنون، وتحقّقت لكلّ منهما ما أرادت وما تمنت..

تزوجت إيمان من محام مبتدئ، ولكنّه كان معروفاً بحبّه للخير، واحترامه للنّاس.. كان شاباً أخلاقيّاً متديّناً، وكان عصاميّاً، بدأ حياته من الصّفر، ثم أخذ يصعد في سلّم الحياة الاجتماعيّة بهدوء وصبر.

أمّا رغد، فقد تزوّجت من رجل أعمال كبير، وكان فارق السّنّ بينهما كبيراً.

ومضت كلٌّ من الفتاتين في الطريق الذي رسمته لنفسها، وتمنّت على الله أن يحقّقه لها.. سلكت كلٌّ منهما طريقاً موازياً للآخر، ولا يمكن لهما أن يلتقيا. هكذا ظنّت كلٌّ منهما..

 ودارت الأيام، وشاءت الأقدار أن تلتقي الصّديقتان.

كان وجه رغد شاحباً، وهمومٌ قاسية تغطّي قسماته. وساد صمتٌ ما لبثت إيمان أن قطعته، وهي تتحدّث عن أيام زمان.. أيام الصّبا والشّباب.

قاطعتها رغد:

- ولكن قولي لي.. كيف حالك؟ كيف حال زوجك؟ سمعت أنه صار محامياً مشهوراً، وأنه صار يكسب الكثير.

قالت إيمان:

- إنه كما وصفت، وهو - بالإضافة إلى ذلك - محبوب، يحبّه النّاس البسطاء والمستقيمون، ويلهجون بالثّناء عليه.

صعّدت رغد حشرجة كالفحيح، ثم انطلقت الكلمات من فيها بحزن يقطّع نياط القلوب.. قالت:

- لقد كنت - يا إيمان - على حق، عندما كنت قانعة من دنياك بالقليل، فأعطتك الكثير، أمّا أنا.. أنا الفتاة الطمّاعة التي ما كان يشبعها شيء، فقد أردت من دنياي أن تهبني كلَّ شيء وبلا تعب، وبالسُّرعة القياسيّة. وها أنا ذا أحصد ما زرعته.

حاولت إيمان مقاومتها، وتحويل مجرى الحديث، إشفاقاً عليها، ولكن رغد أصرّت على متابعة الحديث عن فاجعتها.. عن مأساتها:

- اتركيني أكمل لك مأساتي يا إيمان، فأنا أكاد أختنق .. أختنق.

- تفضلي يا أختي، فرّجي عن نفسك، أعانك الله.

- هل تذكرين - يا إيمان - أمنيتي في الزواج من غني.. أي غني. شاباً كان أو عجوزاً؟

- أذكر!.

قالت رغد:

- لقد تزوّجت من ذلك الغنيّ.. من رجل أعمال كبير، ولكنّه كان في سنّ والدي.. قلت لا بأس.. يموت وأتمتّع بتركته.. ولكنّ بخله لا يحتمل، ثم إنه لا ذمّة له ولا ضمير ولا شرف، وهو سيئ الأخلاق.. حتى الغربان لا تطيق النّظر إلى وجهه أو سماع حديثه.

إنني لم أعد أحتمل، وأتمنَّى أن يتركني هذا العجوز وشأني، ويأخذ ما يحلو له من مال، فلم تعد الأموال ولا العقارات تهمّني.. المهمّ عندي أن آخذ حرّيتي..

قالت إيمان:

- وبعدها يا رغد؟

أجابت رغد:

- لقد أخطأت بحق نفسي خطأ لا يغتفر، وأخطأت بحقك أنت يا إيمان، فقد سخرت منك، واتّهمتك بالغباء لما تظهرين من قناعة، وكنت أنا الغبيّة، فقد بعت نفسي بأبخس ثمن، وخسرت شبابي وأحلامي.. وكلُّ ما أريده الآن، أن أعود امرأة سوية مثلك، وأنا مستعدّة لتقديم كلّ شيء في سبيل تحقيق هذا الهدف.

قالت إيمان:

- لسنا الآن في صدد النّدم أو التلاوم يا أختاه .. المطلوب الآن أن نبحث عن حلّ.

قالت رغد في لهفة:

- أجل يا إيمان.. والحلّ؟ ما الحلُّ يا إيمان؟.