هل حان وقت الآذان يا جدّي
هل حان وقت الأذان يا جدّي؟
بقلم : نازك الطنطاوي
- استيقظ يا أحمد فقد حان موعد أذان الفجر ...
فرك أحمد عينيه:
- ولكن يا جدّي ألا تسمع صوت الرَّصاص؟ كيف نخرج الآن؟ أخاف أن يمنعنا اليهود من الوصول إلى المسجد.
رَبَّتَ الجدُّ العجوز على كتف أحمد، وقال له، وابتسامةُ الثقة تعلو وجهه:
- لا يا بني سوف نذهب مهما كلّف الأمر، يجب أن نوقظ الناس لصلاة الفجر...
نهض أحمد من فراشه، وتوضّأ، ثم ارتدى ملابسه وخرج مع جدِّه...
في الطريق كان الجدُّ ممسكاً بعصاه يتوكّأ عليها، ويتلو بعض الآيات القرآنيّة... واضعاً يده الأخرى على كتف أحمد، وكأنه يريد أن يطمئنّ أنّه ما يزال بقربه...
أمّا أحمد... فقد كان يأمل أن لا يلتقي أحداً من جنود العدو، خوفاً على جدّه العجوز من أذى أولئك الأوغاد، الذين قُدّتْ قلوبُهم من صخر.
كان الظّلام ما يزال يخيّم على المدينة، والشّارع خالياً من المارّة... وفجأة، وقبل أن يصلا إلى الجامع بقليل، زمجر صوت أجشُّ ممطوط:
- قف!!..
خفق قلبا العجوز وحفيده معاً، ثم توقّفا، وكأنّ أرجلهما قد دُقّت بالمسامير، لا يستطيعان الحركة، من وقع المفاجأة... وبعد أن استردّا أنفاسهما، وأنعما النظر فيما حولهما، رأيا أنّهما أمام دوريّة صهيونيّة..
نظر قائد المجموعة إلى الاثنين معاً نظرة مليئة بالكره والغضب:
- من أنتما؟..
أجاب العجوز في صوت يتصنّع الثبات:
- أنا مؤذّن الجامع، وهذا حفيدي..
- أين تذهبان في هذه الساعة من الليل؟
- إلى الجامع.. لأذان الفجر..
قال قائد الدوريّة مهدّداً:
- بل أنتما من المخرّبين..
ردَّ عليه العجوز بصوت متقطّع وهو يشدُّ على يد أحمد:
- لا يا هذا.. إنّنا لسنا من هؤلاء، نحن ذاهبان إلى المسجد لكي نؤذّن لصلاة الفجر.
وقبل أن يكمل الجد حديثه، سمع قهقهة عالية صدرت عن قائد الدوريّة:
- عجوز وتكذب؟.. ألم تعلم بأنّ الكذبَ حرام؟
ثم نَخَزَه بعقب بندقيّته وهو يصرخ:
- تكلّمْ بسرعة.. من أيّ مجموعة أنت؟ وما الذي كنت تنوي فعْله في هذا الليل؟
حاول العجوز التكلّم، إلا أنّ أحد الجنود بادره بصفعة على وجهه قائلاً:
- اخرس يا كلب، ولا تتكلم قبل أن يكمل الرقيب حديثه.. أفهمت؟..
شاهد أحمد الدم ينبثق من فم جدّه من أثر الصفعة.. فحاول أن يتقدم ليحمي جدّه، إلا أنّ جندياً متوحّشاً أمسكه بكلتا يديه، فيما كان الثاني يركله على بطنه..
تقدَّم الرقيب من الفتى الصغير، ممسكاً بمقدّمة شعره وقال:
- تزعمان أنّكما لستما من المخرّبين..
ثم وجَّه صفعة قوية قاسية إلى وجه الفتى، كادت تفقده وعيه..
أسرع الجد نحو حفيده، وحاول الإمساك به، وتخليصه من أيدي الجبناء الذين لم تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً، ولكن أحمد شرع يصرخ ويطلب من جدّه الابتعاد عنهم، خوفاً من أن تناله أيديهم الغاشمة بسوء:
- ابتعدْ يا جدْي أرجوك.. ابتعد عنّي يا جدّي..
ولكنَّ الجدَّ العجوز يأبى الابتعاد، ويحاول بكلِّ جهده تخليص حفيده من الجنود..
شاهد الرقيب إصراره وتشبُّثه بالفتى، فركله ببسطاره الثّقيل بكل ما أوتي من قوّة، فراح العجوز يتدحرج على الأرض، والدماء تسيل من وجهه، فيما كانت خيوط الفجر قد بدأت تتسرَّب من الأفق. أمّا أحمد فقد انهالوا عليه ضرباً وتعذيباً وهو يصرخ فيهم:
- سنقتلكم يا كلاب.. سنطهّر البلد منكم..
جلس العجوز على الأرض والدموع تنهمر من عينيه:
- اتركوه يا قتلة.. يا مجرمون، شلَّ اللهُ أيديَكم..
كان يصرخ بكلّ قوّته، ولكنْ لا أحدَ يسمعه، فاتّجه إلى السّماء، ورفع يديه، داعياً الله أن يخلص حفيده من أيدي الجبناء.. ثم أخذ يتمتم:
- برداً وسلاماً عليك يا أحمد..
وبعد هنيهة أشار الرقيب للجنود بأن يتركوا الفتى، بعد أن فقد وعيه من شدّة الأذى الذي نزل به، وقبل أن ينصرف، وجّه إلى الجدّ وحفيده أبشع الشتائم وأحقر الكلمات، ثمّ رفسَ أحمدَ برجله وانصرف..
أسرع الجدُّ المسكين نحو حفيده، وضمَّه إلى صدره ضمّاً عنيفاً، والدموعُ تغطّي لحيته الطاهرة:
- نجّه يا ربّ، فلم يبق لي في هذه الدنيا سواه، بعد أن استشهد أبواه وتركاه لي.. اللهمّ ارحمه.
بعد قليل عادت الرُّوح إلى صاحبها، فتحرَّك جسم الصبي، بعدما انتقلت الحرارة إليه من جسم جدّه..
فتح عينيه بصعوبة، وشاهد الجدُّ صغيره وهو ما يزال على قيد الحياة، فرفع يديه إلى السّماء شاكراً الله تعالى على لطفه وابتلائه..
مدّ أحمد يده، يتلمّس مَنْ حَوْلَه، فلمستْ يدَ جدّه.. فتح عينيه والابتسامةُ تعلو شفتيه اليابستين وهو يقول:
- هل حان موعد أذان الفجر يا جدّي؟..