لا غربة بعد

لا غربة بعد

فاطمة صالح

غمره التعب إلى حد الحزن ، رأى أنه لن يرفع بعد يداً ولن يحرك جفناً ، استسلم تماماً كما تمنى منذ زمن ، وتنفس رائحة الخلاص الموجعة التي لن يصفها لأحد ، إنه اكتشاف خاص جليل ، لا يليق به سوى الصمت .

أحس بكفها على جبهته جافة وحنوناً .. تمنى أن يرفع كفه ليضعها فوق تلك الكف ، تمنى أن يقول لها : كانت لك يدان طريتان .. من زمان .. زمان ، قبل زمان الخيام .

لم يستطع .. لايريد ، عزيمة الاستسلام أضحت أقوى ؟ كيف؟

يسمع أنينها لا تُعوِل ولا تصرخ ، تئن كما فعلت يوم هدم البيت : يوم دخلت بين غبار الحجارة وغبار البارود لتخلّص مزقة من تلك الهدية : منديل رخيص أحب أن يراه يحتضن شيئاً من شعرها الأثيث .. كان لونه مناسبا .

إنه ، مغمضَ العينين ، يرى كيف ترسم الدمعة الصامتة خطوط وجهها ، يرى كيف تخفي بكفها ارتجافة شفتيها ، كيف تذهب عيناها بعيداً نحو الأفق الذي لا تجد فيه جديداً ينعش منذ ربع قرن ، يرى كيف تشمخ ولا تدع أحداً يرثي لها .

إنه ، مفتوحَ الأذنين ، يسمع إلحاحها حائراً : قل لا إله إلا الله ، قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . إنه يقولها ، يردد مفرداتها بهناءة منذ أدار ظهره للدنيا واختار الصمت لغة .

تريده أن يحرك لسانه بتلك الكلمات الشجية الهنيئة التي تصعد وتهبط مع أنفاسه ، تدغدغها النبضة بعنفوانها المحبب إلى رئته ، لترسلها الرئة بكل أمانة إلى الشرايين ، فتنطلق مع دمه الوفي وتتغلغل بين الخلايا لترسم حوافها برقة غامرة ، فيحس أنه يغتسل ويتطهر.. يتعطر لينفلت خفيفاً بلاجسد ، وتعود الكلمات الخالدات مع الدم الوفي لتتدفق مع الأوردة إلى القلب من جديد ، فينبض بها من جديد ، ويدفعها محبوراً مبهوراً إلى الشرايين  لترسم حدود كل خلية ، وتسمع منها البوح بالحب المتجدد .

إنه يرددها ، وهي لا تريد أن تسمع ، اليوم لا تريد أن تسمع ! وهي التي اعتادت أن تسمع كلمات قلبه ، وترى كلمات عينيه من قبل الكلام .

يسمع الآن نداءها الحازم : يا أولاد !

ثمة همهمات وحوارات ...هو ذا كبيرهم .. مأواه أقرب لقد أحضر ولديه وما أحب وقع قدميهما .

هل سيبكون فرحا أم حزناً حين يتأكدون أنه وجد أخيراً أمتاراً يستقر فيها لا يزحزحه منها شيء إلا نفخة الصور : لا الصواريخ ولا القرارات ولا المؤتمرات ولا الخوف المخيم على الأنفاس واللقيمات ، سيسامحونه ، سيقولون ، وسيسمعهم : " كم اشتهى أن يكون له بيت ، وأن يكون البيت في الوطن ، كم رفض البيت دون وطن ، قال: البيوت البعيدة تنسيكم الأوطان الحزينة "

*  *  *

وإذا كنت منهكاً إلى حد الحزن ، غريباً إلى حد الموت ، فهل يحتاج فعل البكاء جهداً كثيراً ؟

تحدرت دمعات على الصدغين الجافين ، تعرجت في خطوط مألوفة ، حررت بملوحتها الدافئة اللذيذة نفثة سعادة شجية ومنعشة من صدره المهاجر طول العمر ، واكتشف راضياً هناءة النهاية في معركة استمرت إلى درجة أن نتائجها لم تعد تهم أحداً .