وتبدأ من جديد

وتبدأ من جديد

بقلم : عبير الطتطاوي

غرفة مليئة بالألعاب مما يحبه القلب وتشتهيه العين ،أسرّة للنوم مغطاة بالملاءات الملونةوالوسائد المزركشة،والدببة الناعمة .

      حديقة كبيرة فيها المراجيح والألعاب التي يذهب الناس إليها ليفرحوا بها قلوب صغارهم بينما هي موجودة في بيته وعلى ملمس يده ولكنه ممنوع منها محروم من اللّعب فيها ،والسبب أن ّالأمّ مشغولة بصديقاتها وجاراتهاولا تملك الوقت الكافي لترتيب الألعاب بعد نثرها على الأرض،أو تنظيف الحديقة بما فيها من ألعاب بعد لعب الصغار فيها،وإطاحة العصير والحلويات عليها وهي تدعو بالسوء دائماًعلى زوجها المهمل البخيل،على حد زعمها،الذي لا يرضى أن يحضر خادمة تبيت يومياًعندها بل يكتفي بخادمة أسبوعية       وحجته في ذلك أنه يخشى على الصغار من مساوىء بيات الخدم في البيوت..

      سمع الصغير ذو السنوات السبع صوت هرج ومرج خارج غرفته،وعلم من التجربة أنّ أمّه تستقبل جاراتها على فنجان القهوة اليومي ،ولكنها اليوم جمعت عدداً كبيراًمن الصديقات والجارات لأنّ زوجها مسافر وهي تريد أن تسلّي وقتها!

    تسلل الصغير بحذر إلى المطبخ،ورأى صندوق حلويات كبيراً على الطاولة ،تلفّت يمنة ويسرة وإلى الخلف ،    ثمّ مدّ يده نحو الصندوق يريد فتحه وأخذ قطعة منه،ولكنه سمع صوتا"ينادي ويصرخ عند باب المطبخ :

ـ إيّاك أن تمد يدك وإلا كسرتها .

   تلفّت خلفه  فوجد أمّه مقطبّة الجبين واقفة كالساحرة التي تعرض في التلفاز على الصغار ،قال والخوف قد عقد لسانه البريء:

ـ أريد كعكة واحدة يا أمّي .

     قالت وهي تنتر الصندوق من يديه الصغيرتين :

ـ بعد أن يأكل الضيوف وأولادهم تأكل أنت يا أكول.

    قال بحزن :

ـ في كل مرة تقولين ذلك وحين يذهب الضيوف لا يبقى من الكعك ولا حتى فتفوتة واحدة .

    هجمت عليه كالغول تريد أن تخرس لسانه بيدها :

ـ فضحتني الله يفضحك أنت وأباك.

    لاذ الولد بالفرار باكياًإلى غرفته فوجد أخته (سعاد) بنت السنوات العشر على الأرض تبكي وتندب       حظها العاثر ،سألته أخته التي سحبت نفسها من بين دموعها :

ـ ما بك؟

    قال بعصبية :

ـ منذ سنة و أنا أرى صناديق الكعك يأكلها أصدقائي في بيتنا مع أمّهاتهم وأنا محبوس في الغرفة .

    قالت له (سعاد):

ـ ولم لا تطلب من والدي أن يحضرها لك ؟

    أجاب (زياد):

ـ أتّصل به يومياًوأطلب منه وعندما يعود ليلاً أكون نائماًوعندما أكون يقظاً في انتظاره ،يقول لي     ـ يا ولد تاخر الوقت ،غدا ًغداً.

ولم يأت هذا الغد إلى الآن ..وأنت لم تبكين؟

    وهنا انفجرت (سعاد) وهي تشرح مأساتها بدموعها :

ـ منذ أسبوع طلبت منّي المعلمة أشغالاً يدوية ،وكلّما طلبت من أمّي تقول لي :

ـ الله لا يوفق أباك أوصيته عليها ولم يحضرها .

هذا ووالدي في عمله أمّا هي فمن سوق إلى سوق .

     وبعد ساعات طوال على هذين الصغيرين اليتيمين في ظل والدين أحدهما في العمل الذي أكله وأكل جلّ   وقته ،والأخرى غارقة في اللّذّات التي أذهلتها عن أغلى الناس عليها .

    ولمّا هدأت الضجّة خرج الصغيران وقد نهش الجوع جسديهما الصغيرين ،ودخلا إلى المطبخ فوجدا أمهما     قد وقفت تغسل الصحون والكاسات وعقلها وتفكيرها كله في هذا العمل الهام جداًبالنسبة إليها ،صرخ الصغيران :

ـ جوعانين .

أجابت الامّ بعصبية :

ـ طيّب طيّب الثلاجة فيها خبز وجبن وعصير يا الله يا سعاد اعملي لك ولأخيك سندويشات .

   قال (زياد) معترضاً:

ـ ولكنّني أريد كعكا".

   وأسرع نحو صندوق الحلويات ولكنّه صدم حين رآه فارغا"فصرخ بأسى :

ـ أين الكعك ؟

    قالت الأمّ بصوت عال :

ـ الله يقطع الكعك والحلويات ،كلا السندويشات في المطبخ وإلى النوم بسرعة .

   ونزعت عنها مريول المطبخ وغادرت تستريح في الغرفة المجاورة ..وبينما هي ترخي جفنيها على عينيها سمعت (زياداً) يقول :                                 

ـ عندما أتزوج سأحبّ زوجتي جداً وسآخذها إلى كل محلات الحلويات ولن أترك لأمّي ولا قطعة كعك واحدة وسأرميها في دار العجزة ،وأنت؟

      قالت( سعاد ) بعد برهة من التفكير العميق :

ـ أمّا أنا فسأتزوج حتّى لا أعيش مع والدتي ووالدي خاصّة الذي سأرميه في دار العجزة لأنّه يحضر أحلى الهدايا لأولاد رفاقه ،أمّا نحن فلا،لأنّه لا يعرف مقاساتنا ولا الألعاب التي نحبّها .

    صعقت الأمّ من هذا الكلام ولم تعد تدري ما تفعل ؟أمسكت بحزام جلدي كان على مقربة منها وتمنّت

لو أنّه كان حزاماً ناسفاً تدمّر به البيت والأطفال ونفسها ،وهجمت على الصغيرين وانهالت عليهما ضرباً باليمين والشمال حتّى كلّت يمينها وتعبت يسارها وتهاوت على الأرض مطروحة ،تملأ الدموع مآقيها والأحزان تأكل قلبها ،وصوتها يدعو بالسوء على الوالد والأولاد والحظ العاثر ..

     بينما هرب الصغيران من بين يديها وقد ترك الحزام على الجسدين الصغيرين خطوطاً حمراء مؤلمة.

     في الصباح استيقظت فوجدت نفسها كما نامت على الأرض في المطبخ وقد تكسّر جسدها وتعب ، سمعت صوت الباب وقد صفقه الولدان خلفهما صباحاً و هما خارجان إلى المدرسة ..

    أمسكت بالهاتف تريد أن تجمع جاراتها لتناقش معهنّ أمر ولديها ،إلّا أنّ الجميع مشغولات صباحاً إمّا بتحضير الأولاد ليذهبوا إلى المدارس أو بالعمل لتحضير الغداء مبكّراً لهم ليأكلوا فور عودتهم من المدارس ، ومنهنّ من لا يهمّها الموضوع أصلاً فوجدت لها عذراً تتهرّب فيه من الحضور إليها ،بينما هي لا تعرف موعد   خروج الصغار إلى المدرسة ولم يكن أكلهم يوماً همّها ،فهي وقتها ملك الجارات والصديقات أمّا الزّوج والأولاد فهم كماليات تزخرف بها حياتها ،وكانت دائماً تتباهى أمام النّسوة بأنّ أولادها لا يخرجون معها عند صديقاتها بل وعندما يأتيها ضيوف فهما محبوسان في الغرفة أدباً وأخلاقاً.

    صرخ في عقلها الباطن صوت زياد (جوعان )  (الكعك) بينما تمثّل أمام ناظريها منظر (سعاد) محرجة معاقبة لتقصيرها،وقفز إلى ذاكرتها حنو والدتها عليها وعطف والدها نحوها،حتى إنّها تودّ لو أن ّوالديها لم يتوفيا لجلست تحت أقدامهما ما بقي من العمر بقية ،قالت في نفسها:

(أنا أمّ مهملة لا تملك سوى لسان سليط ويد قاسية،ووجه يضحك مع الجميع ويعبس مع الصغار وكأنّهما     ووالدهما أعداء لا أحباب ... لابدّ من قرار حاسم ،لن أدع لولديّ السبيل لرميي و رمي والدهما في دار العجزة ..

    وبعد ساعة من الدوام الرسمي للمدرسة.. قرعت أمّ زياد باب صفّ (سعاد) واستأذنت المعلمة قائلة:

ـ السّلام عليكم .. أنا أمّ سعاد وقد نسيت سعاد اليوم أن تحضر معها أدوات الأشغال اليدوية وقد أحضرتها   لها .

ثمّ استأذنت بالإنصراف ..أمّا سعاد فقد أصابها الذهول من هذا الموقف الرائع .

بينما كانت أمّ زياد تقرع باب صفّ زياد وتقول للمعلمة :

ـ السّلام عليكم ،أنا أمّ زياد وقد مضى على حفلة ميلاده أشهر ولم نحتفل به بين رفاقه لذا رجاءً تفضّلي

منّي هذا الصندوق من الحلويات ليأكلها زياد مع رفاقه .

   وألقت الصندوق على الطاولة وأسرعت بالخروج من قبل أن تفضحها دموعها .

     ضجّ الصّف بالهرج والمرح ولكنّ المعلّمة هدّأت الصّف وقالت للتلاميذ:

ـ غنّوا لزياد أغنية الميلاد .

    إلّا أنّ زياداً قال بحب:

ـ بل غنّوا لأمّي .

سمعت أمّ زياد التّي كانت خلف الباب تريد معرفة ردّ فعل ولدها .

فعزمت على تمزيق صفحة الماضي ... وقرّرت أن تبدأ من جديد ..