المطلقة
المطلقة
بقلم : غرناطة الطنطاوي
- ماذا تقول يابني؟ المطلقة.. تريد هذه المطلقة زوجة لك.. يا سبحان الله!.. من بين العشرات من الفتيات وقع اختيارك عليها..
كان خالد يبحلق في
وجه أمه بنظرات زائغة، بينما كانت أصابع يديه تتحرك بعصبية.. يفرك بعضها بعضاً،
يفكر بطريقة ذكية يقنع بها والدته، بأن يتزوج حسناء.. ابنة الجيران التي عادت إلى
أهلها مطلقة، مكسورة الخاطر، مهيضة الجناح، بلا ذنب جنته، سوى أنّ زوجها كان نزقاً
عصبيّ المزاج.. يريد زوجته بلا شخصية، ترى بعينيه، وتسمع بأذنيه..
طلباته أوامر لا تناقش.. كلمة (أنت طالق) يتغنَّى بها صباح مساء..
كانت هذه الكلمة كالسيف المصلت على رقبة حسناء.. مما دفع هذه المسكينة أن تكون عبدة لزوجها، خوفاً من الطلاق الذي يهدّدها به.. ولكن ذلّها لزوجها، وخضوعها له، لم يجنّبها هذا المصير المؤلم..
فتح خالد فمه ليتكلم، وما كاد يفعل، حتى صرخت أمّه في وجهه:
- ستدافع عنها، وتغضبني؟.. أمن أوّلها تعلمت الدفاع عنها والوقوف في وجه أمّك؟
اندفع خالد نحو أمّه مكبّاً على يديها يقبّلهما، واضعاً رأسه في حجرها، كما كان يفعل وهو صغير.
أخذت سورة الغضب التي انتابت أمه تتلاشى رويداً رويداً.. وبدأت تمسح بيديها رأس ابنها، وتعبث بشعره كطفل صغير:
- يا بني، أريدك سعيداً مع زوجتك، لاشيء ينغّص عليك سعادتك.
سكتت لحظة، ثم تابعت تقول:
- إعجابك بها جعلك تندفع إليها دون تروٍّ وتمحيص.. غداً وأنت معها في أوج سعادتك.. قد تتذكر زوجها الأول.. وكيف كان يغازلها ويلاعبها.. وهي مستجيبة له سعيدة معه.. فتأكل الغيرة قلبك، وتمزّق فؤادك فتنفر منها دون إرادتك..
وسكتت من جديد لتستجمع قواها وتقول:
- وقد تطلّقها أيضاً.. نعم.. سوف تطلقها.. ستطلّقها.. هل فهمت؟
نظرت إليه في لين، ثم استأنفت تقول:
- إذا قالت لك أحبك أن تكون هكذا.. أو تلبس هذا.. أو تتصرف بشكل معين.. فسوف تظن أنها تريدك أن تكون كزوجها الأول، وهي لا تقصد هذا، فتظلمها وهي البريئة.
دُهش خالد من كلام أمّه، وذكائها.. مع أنها طيبة إلى حد السذاجة، إلاّ أنّ المنطق الذي تتكلم به معقول ومقنع.
ولكن هناك حيثيّات لابدّ منها..
فالغيرة التي تحدثني عنها أمّي سأشعر بها.. لابدّ من ذلك في أول الأمر.. ولكن.. مع مرور الزمن، سوف أتأقلم مع الواقع، سأتغلب على هذه الغيرة الحمقاء بإذن الله، فالحب الذي سوف يكتنفنا نحن الاثنين، سيخفف الكثير من المعاناة.. ويقرّب المسافات بيننا.. ويجعل الطريق ممهداً للحياة السعيدة.
هزّ خالد رأسه مقتنعاً بما وصل إليه من حل معقول، وحاول إقناع أمّه به بشتى الأساليب، ولكن لا حياة لمن تنادي.. حتى عجز منطقه، وكلَّ لسانه، أو كاد.. عندها قاطعته أمّه بعصبية:
- لنترك هذا الكلام جانباً، وقل لي: لماذا طلقها زوجها إذا كانت على خلق كما تقول؟
حينئذ تذكر خالد أخته شيماء، الرزينة الهادئة المطيعة التي لها فم يأكل، وليس لها فم يتكلم، ومع ذلك، هي في خصام دائم مع زوجها.
كم من مرة تدخّل حكم من أهله، وحكم من أهلها لفضّ الخلاف بينهما، ولصرف زوج أخته عن تصرفاته الصبيانية، وحماقاته ولكنه لا يلبث أن يعود سيرته الأولى..
إذاً.. أخته على شفا جُرُف هار، وسوف تنهار حياتها الزوجية في يوم من الأيام، بلا ذنب اقترفته.
راودته هذه الفكرة وهو يحاول دفعها عن لسانه، شفقة بأخته الحبيبة، وأمّه المعذّبة، ولكنه رأى أنّ هذه الفكرة وتر يستطيع أن يعزف عليه كيف يشاء، لإقناع والدته بصواب رأيه، فليعزف اللحن الذي يرقّق قلب الأم، وليضرب الحديد وهو حام..
أمسك كفَّ والدته بكلتي يديه، وضمها إلى صدره في حبّ، وقال، كأنه يريد أن يغيّر مجرى الحديث:
- أمي لماذا كانت أختي شيماء حزينة مهمومة ليلة أمس؟ كم حزّ في نفسي مرآها وهي تبكي بصمت كئيب!
قطّبت والدته وجهها، وسرحت في حزن عميق، ثم تنهدت تنهّدة مقهورة، ندّت عن قلب جريح، وقالت بصوت كالفحيح:
- إنه زوجها.. سامحه الله.. ينكّد عليها سعادتها كلّ لحظة.. إنها تعيسة. تعيسة جداً يا ولدي، مع أنها طيبة القلب، باعتراف الجميع.
أحسّت الأمّ بشيء غامض من تغيير مجرى الحديث، فحدجت ولدها بنظرة صارمة، وقالت:
- ولكن.. كنا نتكلم عن حسناء.. فما الذي ترمي إليه بسؤالك هذا عن أختك؟
أدرك خالد أن سهمه أصاب، عندما ضرب على الوتر الحساس من قلب أمه، فقال في رقّة:
- يا أمي ماذا لو حصل الطلاق –لا قدّر الله- بين أختي وزوجها؟.. فالخصام الدائم بينهما سيقطع هذه الشعرة التي تصل أحدهما بالآخر.
صاحت الأم:
- لا سمح الله، فال الله ولا فالك..
وتابع خالد حديثه بالرقة ذاتها:
- يا أمي.. أنا أمقت هذا المصير المؤلم لأختي.. فهي حبيبتي وأختي، وأنت تعرفين ذلك، ولكن لنفرض هذا الفرض.. وهذا ليس بالمستحيل، كيف تستقبلين فكرة (بنتك مطلقة)؟
أترضين أن ينظر الناس إليها نظرة ازدراء واحتقار؟..
ألا تتمنين حينئذ أن يتقدم لخطبة ابنتك شاب طيب القلب، يعوضها عن تعاستها مع زوجها الأول؟ أم تبقى حبيسة البيت والهموم، حتى تموت كمداً كما يحصل لبعض المطلقات؟
انهمرت الدموع من مقلتي الأم بحرارة، كأنها تتوقع هذا المصير لابنتها ذات ليلة، وترى الموت أهون منه..
شعرت بحزن يقطّع نياط قلبها.. ورأت أن كلام ابنها معقول جداً.. والذي ينطبق على ابنتها، ينطبق على بنات الناس، فهل على رأس ابنتها ريشة؟.. وإذا تقبّلت هي واقع حسناء، فسيتقبل الناس واقع ابنتها إن حصل لها ما حصل لحسناء، لا سمح الله ولا قدّر..
نظرت الأم إلى ابنها نظرة باسمة، وأمسكت أذنه مداعبة:
- عرفت يا شقي كيف تقنعني.. وتحبّب إليَّ حسناءك هذه.. غداً إن شاء الله أذهب لأخطب لك حسناء..
ازدادت ابتسامتها اتساعاً، وهي تقول بحنان:
- وعليك يا بني أن تعوضها عن أيامها الخوالي.. فهي امرأة مكسورة الجناح.. لقد عانت كثيراً من طليقها، فأنا أعرفها جيداً.. وأعرف والدتها التي كانت تخبرني عن ابنتها وحياتها التعيسة مع زوجها أولاً بأول.. فهي مسكينة لا حول لها ولا قوة.. ولكن الشيطان -الله يخزيه- جسّم لي طلاق حسناء على أنه جريمة هي السبب فيه.
مبارك يا بني، وإن شاء الله زواج موفّق..
أهوى خالد على يدي أمه مقبلاً إياهما، وعلى خدّيها، يلتقط منهما دموعاً هي خليط بين الحزن والفرح.