غريب...

نعماء محمد المجذوب

غريب...

قصة: نعماء محمد المجذوب

لن يستطيع أحد أن يبلغ قاع وحشتي حين أدفن مشاعري، ولم يعلم أحد أن الحيرة تسكنني وأنا أراه في حارتنا، أجري خلف صوته وهو يقترب، وأدع كل ما يشغلني ويسعدني، لأقف عند عتبة الباب أتأمله، وترهقني التساؤلات، وهي تتداعى في أعماقي، أحاول أن أستشف عالماً ضبابياً في زمن بعيد قبل ولادتي.

يطالعني وجهه المجعد، وعيناه التائهتان في ذهول، وشرود، أهمس لنفسي:

ما هي أنقرة التي يشير إليها؟

ما الذي بتر ساقه وجعله يستبدل بها عكازاً؟

ما اللغة التي يحدثني بها، وهو يقيس بيده أطوالاُ متفاوتة؟

أترجم ما يقول بشفافية أسكنها، وبحزن عميق أستسلم لهدهدة كلامه.

كان الغريب المبتور الساق يتجول من حارة إلى أخرى، لم يكن من غاية لوجوده في بلدنا سوى أن يسمعنا بين يوم وآخر استغاثته من خلال كلمات يرددها، وهو يسير في الحارات: (الله أكبر، لا إله إلا الله).. يهزني نداؤه الإيماني بسياط الدهشة، لأجري إلى الباب، وبيدي شيء من الطعام.

كنت أراه في زمن طفولتي ولم أسبر معنى الحياة... منظره يوحي إلي بالغربة، أدقق نظري بمعطفه العسكري الداكن، طرأت عليه تغيرات من طول العهد، ويضم طرفيه بزر ذهبي، وبقبعته المتهدلة من حوافها خصلات شعره البنية، وبشحوب وجهه، وبعينيه ترحلان إلى البعيد.

"أنقرة"، كلمة يرددها أمامي كثيراً، أفتش في معجم ألفاظي فلا أجدها، يشير بيده إلى موقعها، وحين يقيس أبعاداً متفاوتة الارتفاع، يبتسم، يضحك، تبرق عيناه،.. أفهم، له أولاد، بنون وبنات، متفاوتون في أعمارهم... قد يذكر أسماءهم، يبكي، الدموع تسيل على خديه، تبلل لحيته، يجففها بطرف كم معطفه.

أهز برأسي:

- لك أولاد في أنقرة البعيدة، أليس كذلك؟

بحيرة أتساءل:

لماذا لا يرحل إليهم؟

لماذا يقبع في بلدنا بصمت؟

يضيق صدري بتساؤلاتي عندما أرى أثر البكاء في عينيه المتوهجتين باحمرار، أشعر بالألم يشتته، أتصوره أبي، وأنا بعيدة عن أبي، كيف أقضي أيامي بعده؟... لشدّ ما تؤلمني حياة هذا الغريب التي وشمها العذاب، ولو أنه يأتي إلى حارتنا، وغيرها من الحارات بصورة شحاذ يستجدي الطعام.

أتساءل:

هل كان حين ينظر إليّ يستجدي الحنين والشوق إلى بناته في صورتي، فتذرف عيناه الدموع؟

قالوا في الحارة:

- إن رجوع الغريب إلى بلاده صعب جداً، على أنه يجول بين السكان حين يهاجمه الجوع، وتنتابه الوحشة، والاستئناس بالناس.

كنت أرغب أن أراه، في نفسي رقة لا تتحمل مشهد قسوة الزمن والغربة، أتأثر، قد أعجز عن إخفاء دموعي، فأبكي، وأنا أتصور بناته تدخلن حياة المعاناة غير النهائية بفراق أبيهم... لا أشك بتألمهن، وانقطاع الأمل في رجوعه... شاخ، وهو ساكن في ذكرياته تحتضنه كأنها ستشفيه من عذابه، وتغسل روحه بدموعه.

لم يغير معطفه المهترئ، ولم تكتحل عيناه بآخر، ولم يعتن بشعر رأسه، يضمه كيفما اتفق تحت قبعته المخملية.

هل يفعل ذلك حزناً، أم حداداً على عمره، وفراق من يحب؟

أراه ميتاً، وليس بميت.

وددت لو أكتشف مأواه،.. أين يعيش؟ كيف؟ من يعطف عليه؟ هل ثمة شخص يؤنسه في غربته؟... وتنزلق عيناي إلى منتصف كم بنطاله المعقود فوق ركبته.. لماذا يحافظ على الزر الذهبي المزركش، والوسام ذي النجوم الزاهية فوق كتف معطفه؟.. هل يريد أن يعلمنا بما كان، ومن كان؟

منظره يثير في خيالي أجواء تتسع مع الوقت، فيها معارك، غبار، قعقعة سيوف ورماح، وهدير المدافع.. أجساد تداس، ورؤوس تتدحرج، وسيقان تبتر... أتصوره وقد بترت ساقه، ثم يفاجأ برحيل الجيش، وتداهمه الوحدة، والبكاء العنيف، ويجرجر خلفه مأساة حياته بحزن شديد مبللة بالدموع.

أتساءل:

هل يجفّ دمع هذا الغريب بعد أن صار غصناً يابساً، ملقى بإهمال على قارعة الحياة؟

تهيأ لي أن الجنود وجدوا طريقهم للهرب بعد إصابة قائدهم، ثم طوع حزنه لذكرياته، وغرق في إيمانه، كما أبصر من خلال ترديده لـ (الله أكبر، لا إله إلا الله)، يقاوم بها إحساسه المكابر بالهزيمة، والاختناق.

ويستوقفني وجهه الذي شوهه ألم البعاد، وذل الانكسار، وحافظ على نظراته الطيبة، وابتسامته الوديعة حين يراني، وهو يتذكر بناته... لم تتحول إلى تقطيبة بين عينيه، أو تكشيرة رعيبة.. كان مستسلماً للغربة والوحشة، والذكريات، ويظل ينظر إلى البعيد بحب لا محدود، من خلال روحه الصافية.

ألتقط من الجيران بعض المعلومات حوله، وألملم صورها المبعثرة، وأصوغها شريطاً منوعاً، وأتساءل:

هل الأيام المترعة بالألم مجدية؟

هل السنوات المتتابعة التي يعيشها الغريب ذاهبة إلى لا شيء؟

هل يضيع عمر الإنسان هكذا سدى؟

هل يحق لهذا الغريب أن يصادر عمر إنسان آخر ليبدأ حياة جديدة؟

كيف يتحرر من عبودية الماضي، ويقصيه من حياته؟

تساؤلات تحيرني وأنا أرى الدموع تمتلئ بها عيناه، وبأسى أقول:

- لا فائدة من معاناته، أولاده لن يأتوا إليه، ولا هو يعود إليهم فيشفى من العذاب.. ويبقى يحبهم، ويحبونه، وعمره في الغربة، وعذابه الذي يوهنه، وإيمانه بالله، يدعوه إلى الصبر، وتبقى شفتاه تردد (الله أكبر، لا إله إلا الله)، يفرغ فيها همه.

بذهول أهمس:

حتماً ستقضي عليه الوحشة.

لو كان أولاده (بنون وبنات) بقربه لافتدوه بأعمارهم.

آه.. ما أجمل أن يعود إليهم.

أتذكر ساقه المبتورة، فتنظر نفسي إلى نفسي بعتب، ولوم حين أرهقها بالتفكير.

كانت حياة هذا الغريب أشبه بالعدم، رجل ملتاع دوماً، تجرحه نداوة النسيم، وتنسكب دموعه لمجرد سماعه أغاني الحنين، كل شيء يتداعى في روحه، ماعدا صرح حزنه الهائل الذي يترسخ في زمن الغربة... كان يتلاشى ببطء، وكيانه يتهالك، ليصير كهفاً خاوياً، مسكوناً بالألم...

بودي أن يتحرر من عذابه الطويل.. ربما انبثقت هذه الفكرة في ذهني حين أخرج من مخبئه صورة، وقدمها إليّ بيد مرتعشة، لم أتناولها، فقط أرسلت نظري إليها برغبة أشبه بشهوة لا مجال لردها، كانت صورة له مع أفراد أسرته، من زمن بعيد،.. وكأنني أسمع ضحكاتهم، وأرى البهجة تعمهم... عجبت من قسوة الزمان، بل من قسوة البشر المتمثلة فيها.. قرأت أفكاره، تمنيت أن أواسيه بعقد صداقة له مع أبي وعمي الشيخ عبد الله كي يخففا من معاناته.

كبحت جماح خيالي، شعرت أنه ليس بمقدوري أن أفعل أي شيء، وليس أمام هذا الغريب سوى أن يتسلى بجراحاته، هذا ما رددته لنفسي دائماً، حتى صرت أرتعب لفراق أبي حين يسافر إلى بلد ما، ما كان يرعبني، ويقلقني ألاّ يعود إلينا، وأظن أن سفره موت له، قبل أن يموت.

أتساءل:

لم كانت هذه الأفكار تلبسني وأنا لم أزل في العاشرة من عمري، وكأنني بها قد بلغت المئة بما ينتابني من هواجس وعذاب؟ هل يبقى هكذا مهملاً؟

استحوذت عليّ فكرة إخبار أبي بما أحس، لمداراة شئونه، ربما أنهى مهزلة الألم في نفس هذا الغريب التي طالت.. تراجعتُ.. ثم أسئلة محيرة لا نهاية لها تتوارد في ذهني.

أين يسكن؟

لم تخلت عنه قافلة الجنود؟

ما المبرر للتخلي؟

هل التفكير الشديد بحالته، وتصور بناته أمر مستنكر؟

ما الغاية من وجوده معنا؟

ما دور الحرب في حياته؟

ألا يمكن أن يكون للاستعمار منطق لا أفهمه؟

هل جئت للحياة بعد موت مرحلة، وولادة أخرى؟

هل أفكر بأمر هذا الغريب وحدي، وأحمل الألم وحدي؟

لم أر من يذكره.. أخشى أن أسأل فيستهزأ بي، ثم أشعر بالخجل والإحراج.

صار إحساسي بمن حولي غريباً، كغربة هذا الرجل، كنت أصاب بالدهشة حين يمر في الحيّ، ولا يعيره أحد اهتماماً، كأنه في عالم، والبلد في عالم آخر.. لم تعد الألوان البهيجة، ولا اللعب مع أترابي تعني لي شيئاً، أتمنى أن يقص عليّ أبي قصص البطولة، والبعاد، والهجران.. أن يحكي لي عن أنقرة، وما تعني لهذا الغريب.

ضحكت من نفسي ضحكة من عرك الحياة، وجرّب كل شيء، وأنا أكتشف سخافة الأشياء، حين أتصور أبي يصفعني بكلماته، ويتأفف من أسئلتي، فألوذ بشجر حديقة البيت، أحكي لقطتي قصتي، أسترجع لحظات هنية، وأراها ترمش بعينيها، وتتمسح بي، تشاركني بلغتها، أفهمها، وتفهمني، أسألها:

هل بالإمكان أن ينتظر هذا الغريب، ويرحمه القدر باللقاء ببناته في إحدى دورات الزمن، وتشحذه الحياة ثانية؟

ماءت برقة، ثم صمتت.

كان الغريب يحاول أن يبدو صامداً، ويعتقد أنه نجح في ذلك، ولكن أعماقه كانت هشة، ينخرها إحساس قوي بموت الأمل في العودة، وهو يتحسس ما بقي من رجله، يتنهد بعمق، كأنه يريد زفر روحه، والتنعم مع أسرته بالحياة الأبدية الخالدة.. كان يتعب وهو يتوكأ على عكازه، ويترك عباراته الغامضة معلقة، وينسحب وصدى ندائه المحبب يتردد في جنبات الحارة.

سألت قطتي:

- أهذا ما تبقى للغريب من صلة مع الناس؟

تمسحت بي، رمشت بعينيها:

- أظن ذلك يكفي.. هو إنسان يلوذ بإيمانه.

- هل ينفد صبره، ويستغيث؟

قوّست ظهرها، هربت.

- بمن يستغيث؟ أجيبي.

ماءت برقة:

- على الأرجح، إنك تهذين.

قلت بضيق:

- يا إلهي، إذاً أنا أهذي.. اقتربي مني كي لا أفتقدك.

اقتربت.. ثم ربضت بجانبي كالنمر.

في أحد الأيام انطلقنا برحلة إلى  آثار في ضواحي المدينة، سيراً على الأقدام، كنا ندور في فلك السعادة والبهجة، ونثرثر من غير هوادة.. وبينما نحن منهكون، ونفوسنا تزغرد بالحبور، وعيوننا تلامس أزهار الربيع، وتعبق أرواحنا بانتعاش، وتظللنا الأغصان الخضر، تجاوزنا مدخل بناء واسع الردهة، توقفت لحظات، أسمع صوت الغريب يناجي بعذوبة وابتهال، انتابتني دهشة، تراجعت خطوات، تسللت نظراتي عبر تفاريج الباب.. هو الغريب بعينه، وهذا مأواه.. الباب المغلق أقام حاجزاً بيننا.. المكان خال إلا من حشية مهترئة، شاهدته متدثراً بمعطفه، مادّاً رجله، وعكازه مستلق بجانبه.. تجلت البهجة في نفسي مع الهلع والألم، أرسلت صوتي إليه قائلة:

- السلام عليك يا عم.

تنبّه من سكونه:

- وعليك السلام.

أدخل سلامي السرور إلى نفسه، اكتشفت بأنه عاجز عن العيش بعيداً عن أولاده، كان في هذه الردهة وكأنه في قبر، تؤنسه ذكرياته، وصموده على الصبر، ومناجاته.. تحولتُ إلى إنسان آخر، يبلله منظر طفلة مع أبيها، وأنا أشعر بحرمان هذا الغريب من بلده، وأحبائه.

ضحكت وأنا أحدث نفسي:

- هل بإمكاني أن أعوضه عن بناته؟.. شيء مستحيل.. ومؤلم حقاً.

نظرت إليه وكأنني أعتذر له.. لكني أحسست أنه بعيد في ذهنه إلى أنقرة، فأكتفي بوجودي، بالهالة التي يحيطها.

تغيّر حالي، صرت مولعة بإلقاء الأسئلة على والدي، وأثناء تحاور الأفكار، أتساءل:

هل كنت أجد في الثرثرة مع أبي نوعاً من التوضيح، والهرب من صقيع الغموض؟

تموجت مشاعري، صار الحزن لحال الغريب، والفرح بقربي من أبي يلتبسان عليّ لدرجة يصعب عليّ فصلهما.

في يوم من أيام الشتاء هبت عاصفة غضبى، هشمت.. ضربت الأماكن والأغصان بحبات الثلج القاسية، لم ينج من غضبها شيء.. استمرت أياماً، كانت مشاعري ترتعش كورق الشجر، تتناثر فزعة.. هدأت العاصفة، وتوقف نداء الغريب.

لم أعد أراه يأتي إلى حارتنا، بألم تساءلت:

- كيف كان يدبر حاله وسط هذه العاصفة، والسيول الجارفة، وهو يقبع في الردهة المنخفضة؟

صرت أعجز عن التفكير، سكنتني الحيرة، وأنا أتصوره يتخبط أمام سياطها، وسيلها لا يرحمه.. قد يداهمه في مكانه، ويغمره، حتى صرت أبالغ في استحضار هذه الصورة، وكأنني أعاقب المجتمع على إهماله.

سرتُ متدثرة لأتفقد هذا الصديق، ولأطل عليه من خلال قضبان الباب، بيدي شيء من طعام، وفاكهة من شجر حديقة البيت، فوجئت بالمكان خالياً، صامتاً، ساكناً من مناجاته، وتسبيحه، إلا من الحشية الغرقى بماء السيل، والإناء الفارغ دحرجته الريح، وعكازه لم يبرح مكانه.

صرخت في أعماقي:

أين هو؟

المكان ساكن لا يدفئ جسداً، ولا روحاً.. كانت كفّ تلامس كتفي، استدرت..

- يا إلهي! من أبي؟

- ماذا تفعلين هنا؟

- أتفقد الغريب، هل تعلم عنه شيئاً؟

- أجل نعلم الكثير.

- ماذا حلّ به؟

- أصيب بأضرار يا ابنتي، فمات..

- لماذا لم تتفقدوه وتنقذوه من معاناته؟

- كان يرفض بإباء أي معونة.

- كان وحيداً.

- ولكن يعيش مع ذكرياته، فتجعله مفعماً بالحيوية.

- أجل، ومنعماً بالحزن.. ستبقى ذكراه في نفسي أيضاً..

بعد برهة صمت، قال أبي:

- ترك الغريب وصية.

- ما هي؟

- أن يدفن مع بندقيته.. دفناه في حفرة هيأها لنفسه خلف البناء، وبجانبه بندقيته، وصورة لبناته يضمها في حضن كفّه.

بتأثر قلت:

- إذن مات الغريب، وهجر المكان الآمن.

- قبره كان أكثر أمناً.