غرفة من خشب
غرفة من خشب
بقلم : محمد الحسناوي
في الصباح الباكر من مطلع العام الدراسي انطلقت سيارة (باص: بولمان) تقصد العاصمة دمشق. الوقت منتصف فصل الخريف. الضباب يندي سطح الشوارع، ويحجب أعالي الأبنية. الشمس لم تشرق بعد. ثلاثة من ركاب السيارة مصممون على متابعة الطريق إلى عاصمة عربية أخرى بعد الوصول إلى دمشق. الثلاثة متقاربو السنّ قد ناهزوا الأربعين. اثنان جلسا معاً وسط السيارة هما: حامد وعبدالرحمن موظفان. أمّا الثالث فهو نجار واسمه فيصل. لم يكن فيهم شيء غير عادي يلفت النظر. أناقة في اللباس الشتوي. حركات هادئة متزنة. جلسة طبيعية، لا يتبادلون الكلام إلاّ لماماً. الكلام يدور غالباً بين المدرسين، لأنَّ الثالث جلس أمامهما على الناحية اليمنى، وهما في الناحية اليسرى. لو أتيح لتكنولوجيا متقدمة أن ترصد الموجات اللاسلكية التي كانت تتحاور في أدمغة الثلاثة لسجلت البرقيات التالية:
- كيف ترى الطقس.
- غائماً، منذراً بالمطر.
- إنه الخريف، لا غرابة!
- الوضع طبيعي، أليس كذلك؟
- نعم.
- الأمانة مع فيصل؟
- أي أمانة؟! تقصد الأوراق. نعم معي!
- احتفظ بها جيداً.
- اطمئنوا. أنها في مكان أمين.
- أقصد تفقدها بين حين وآخر.
- أكرر. اطمئنوا. أنتم افتحوا كتبكم، وأنا أفتح علبة سجائري.
- انظر إليه يمارس التدخين كأبرع المدمنين.
حامد متوسط الطول. لم يتكرش بعد. شعره خرنوبي. حنطي اللون. عيناه كستناويتان. أنفه يتميز ببعض البروز من غير إسراف. حاجباه مقوسان بلطف على جبهة عريضة تختزن هموماً غير منظورة. بين الحين والآخر تهرب مقلتاه الساهمتان في خواطر سانحة أو أحلام عابرة، كأنها مقل إنسان ينشد النوم. إنه كثير السهر، كثير التفكير والأحلام أيضاً. في مثل هذه الرحلة الطويلة لا بُدَّ له أن ينام ولو قليلاً. تحت معطفه الأرقط الداكن يرتدي بزة مرقطة أيضاً، اشتراها جاهزة من أحد تجار السوق السوداء (تجار الشنطة). لكل من المعطف والبزة قصة خاصة. عمر المعطف اثنا عشر عاماً، اشتراه في العام الأول لتعيينه في وظيفته الحالية - التعليم. هو المعطف الوحيد الذي اشتراه في حياته جديداً. أمّا البزة ولونها أميل إلى الخضرة المشربة بالسواد، فهي أفضل بزة جاءت مناسبة لقوامه: الكتفان، الأكمام، الخصر. كل شيء، كل شيء سوى فتحتي البنطال عند القدمين. إنهما أوسع من المعتاد. باختصار إنها آخر زي (موضة). الأستاذ حامد محافظ ضد الأزياء المستوردة. لو كان بوسعه أن يخترع لشعبه أزياء وطنية غير البزة الأوروبية لفعل (لعل الأيام تسمح بذلك). حاول أن يضيق فتحتي البنطال لدى خياط من طلابه.
- هل تقبل نصيحتي يا أستاذ. البزة لا عيب فيها. إن أي تعديل عليها سوف يقتلها.
عضّ على شفتيه. قرّرَ أن يبلع نظرات طلابه وتعليقاتهم الماكرة في سبيل أن تبقى البزة حية سليمة.
قبل أن يحتل مقعده طوى معطفه بعناية. مدَّده برفق على الرف البلاستيكي الأنيق فوق رأسه. سجّل في ذاكرته المتعبة أن يتذكر المعطف قبل مغادرته السيارة في المحطة الأخيرة: (ثمانون ليرة سورية ثمنه يوم شرائه. وهو الآن على قِدَمه يساوي أضعاف هذا السعر. من أين لي أن أشتري معطفاً ثانياً؟ هذا شيء، وشيء آخر اسمه المودة والوفاء). بوسعك أن تتخيل قصصاً مماثلة عن قطع اللباس التي تغطي هيكل الأستاذ حامد: القميص الأبيض المضلّع. ربطة العنق الزرقاء الغامقة. الجوارب البنية. الحذاء الأسود ذي التحدب القليل في مقدمته. اسمح لي أن أحدثك عن ربطة عنقه وحسب! لن أحدثك عن كرهه لربطات العنق لشبهها بالمشانق، أو لتقليدها العادات الأجنبية. بل سأحدثك عن مصدر اقتنائها. إنها هدية من عديله المشاغب أبي علي. ليس بينه وبين هذا العديل ودّ كبير. ومع ذلك تلطف هذا الرجل - بعد عودته من ألمانيا بسيارة مستعملة - وخصّه بالربطة - لم يشأ أن يرفضها. يكفي أنها صفحة جديدة واعدة في علاقات قديمة متردية. حامد يتحاشى المعارك الجانبية. خصومات الأقارب. غيرة الجيران، حساسية الزملاء. زوجته صغرى إخوتها. سعيدة معه وهو سعيد معها. رُزِقَ منها ثلاثة أولاد: مجاهد في الخامسة عشرة، ميساء في العاشرة، حذيفة في الرابعة. أسرة أليفة ودود. لها علاقات واشجة ممتدة في مدينة حلب حيث أهل الزوجة: الأعمام والأخوال والأصهار، وفي مدينة أمّ النوافير وجبل الزاوية ومعرتمصرين وكفر تخاريم وغيرها حيث أقارب الزوج. هذا ما يراه الناس في الأستاذ حامد. أمّا هو فيرى هذه الأمور مظاهر كمالية اجتماعية تتفاوت في الأهمية. يؤديها ضريبة إجبارية. بوده ولو يتفرغ لما هو أهم وأطيب. للمطالعة، للتأليف، للتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي، لإسعاد الناس: بدءاً من إيقاظ وعيهم على حقائق الأشياء وخفايا الواقع، وانتهاء بتحملهم لمسؤولياتهم بأنفسهم. ولهذا السبب الأخير ركب هذه السيارة صباح هذا اليوم الخميس البارد، تاركاً أسرته ومدرسته رفوف مكتبته الخاصة، مورطاً نفسه في مغامرة، لا يخفف من خطورتها إلاّ ما تنطوي عليه من أهمية، تهدف إلى تحريك عجلة التاريخ إلى الأمام بمقدار مسنن واحد في الأقل.
عبدالرحمن وفيصل شريكان آخران في المغامرة. ولكل منهما شؤونه الخاصة، وقصصه الصغيرة.
عبدالرحمن قريب الشبه من حامد في عمله وحياته الاجتماعية، حتى البيتين اللذين يسكنانهما تقاسمهما زوجتاهما في الملكية. لكن عبدالرحمن أطول قليلاً من حامد. عبدالرحمن أسمر اللون، شعره أسود أميل إلى التجعيد، يحمل ملامح السحنة المصرية: وجه بيضوي. أنف أقنى. عينان سوداوان. ابتسامة عذبة. جده جاء مع حملة إبراهيم باشا على سورية، واستوطن شمال حلب. أمه وأبوه على قيد الحياة. له عدد كبير من الإخوة والأخوات والأبناء. لعله أشد اهتماماً بصلاته الاجتماعية لا سيما تعلقه بأولاده الذكور والإناث على حدّ سواء: يسرّه أن يقعدهم في حضنه، وأن يطعمهم بيده واحداً واحداً، ولو كانت أمهم حاضرة لا يشغلها شاغل. يوصف بين معارفه بأنه عاطفي، مغرم بالمثل العليا. سريع الغضب، سريع الرضى، وكل من غضبه ورضاه لا حدود لهما. اعترف لصديقه حامد بأنه يستفز بائع اللبن أو العنب ليتشاجر معه. هكذا هواية! لا يخطر في باله أن في السيارة عيناً تراقبهم، لكن إذا لفت نظره إلى أمر مريب استفظعه، ورتب عليه أموراً مبالغاً فيها. عمل قبل انتقاله إلى حرفة التعليم في بعض إدارات الدولة، فكسب عدداً أكبر من الأصدقاء والأعداء. هو لا يرى في الناس أوساطاً غير الأعداء والأصدقاء. ويبدو أن الناس لم يروا فيه غير ذلك. من أصدق أصدقائه النجار فيصل الذي يشاركه هذه الرحلة، وهما على صلة حميمة منذ عهد الطفولة، لم يفترقا إلاّ بمقدار ما انشغل عبدالرحمن بالدراسة الجامعية، وانشغل فيصل بالخدمة العسكرية. انهما من بلدة (أم الزيتون) الصغيرة. تلك البلدة الحدودية التي أنجبت كبار المهربين، وعدداً غير قليل من ربائب السلطة وعملائها وسماسرتها.
انعطفت السيارة انعطافاً شديداً. تمايل الركاب على بعضهم. تحسس فيصل حزمة الأوراق في وسطه. إنه رجل يميل إلى القصر. شعره يضرب إلى الشقرة. ممتلئ الجسم. خفيف الحركة. عيناه عسليتان. أخذ الشيب المبكر يغزو شعر رأسه وحاجبيه الكثيفين. لعله الهم الذي ركبه مبكراً. أبوه متوفى. خلّف له أماً ومجموعة من الإخوة ليس هو أكبرهم. وهو مع ذلك يحمل مسؤوليتهم جميعاً. يضاف إلى ذلك خال ساذج، له زوجة وأولاد لا يكاد يستطيع إعالتهم. فيصل هو بمثابة أب لهؤلاء وأمّ. وعليه وحده خدمتهم وإسعادهم، هم وزوجاتهم وأولادهم وكل من يلوذ بهم. أخوه الأكبر متزوج. تسلّط عليه مشعوذ، يزعم أنه يقلب التراب ذهباً. سلبه مالاً وطعاماً وهدايا كثيرة. أوهمه بأنه مسحور، وأنه منحوس، لأن جماله أوقع فتاة بهواه. وأن هذه الفتاة تكتب له السحر عند السحرة، وأنها لن تتركه حتى يتزوجها أو تصيبه بالجنون. جنّ الرجل أخيراً وخرب بيته. ماذا يعمل فيصل؟! الزوجة تريد رجلاً سليم العقل. الأولاد يريدون طعاماً ولباساً وأقلاماً ودفاتر وأباً أيضاً. أهل الزوجة يطالبون بطلاقها. وعلى الرغم من كل ذلك يجد فيصل وقتاً ليسهم في إدارة عجلة التاريخ ولو بمقدار مسنن واحد. إذا رأيته يعمل في منجرته تكسو وجهه وجسمه نشارة الخشب، لم يخطر ببالك أن مثل هذا النجار يحمل كل هذه الهموم، وأنّه يعطي للتاريخ وحركة التاريخ أدنى أهمية. تقول: (الجنون فنون).
بعد عبور السيارة مدخل مدينة حلب استرعى انتباه فيصل رتل من سيارات الشحن تحمل الأخشاب. تلمظت شفتاه على الخشب لكثرته ونظافته. منجرته خالية من الخشب الذي لا يستطيع الحصول عليه إلاّ من السوق السوداء. زاد في غيظه أن هذه الأطنان الخشبية لم تكن متجهة إلى مدينة حلب كالعادة، بل هي خارجة منها. إلى أين؟ أشار عبدالرحمن بجمع يده أن انتظروا. بعد مسافة أشار عبدالرحمن إلى منعطف على اليسار تسير عليه مجموعة أخرى من سيارات الشحن المحملة بالأخشاب. همس حامد ما الخبر؟!.
أجاب عبدالرحمن همساً: هنا مؤسسة أميركية تعمل في إنشاء مزارع نموذجية.
فتح حامد عينيه الناعستين. أرسل برقيات صامتة:
- هل تخلو المشروعات الأميركية من أغراض أخرى؟ وهل هذه الأغراض خاصة بطرف واحد أم بالطرفين؟!
لاحت على الأفق البعيد بيوت خشبية مكعبة حيث تقام المزارع النموذجية. الجرارات تروح وتغدو تثير الأرض الحمراء مثل الصراصير الصيفية التي يُصِمّ أزيزها الآذان. كانت الشمس تراود الأفق باستحياء.
وصلت سيارة (البولمان) إلى مدينة حماة. أرض الشوارع مبتلة بأمطار سحابة كثيفة عابرة. بدأت الشمس تشرق من خلال السحب. في ذلك الوقت كان الطلاب يتوجهون إلى مدارسهم. ضغط عبدالرحمن يد جاره حامد الذي كان نائماً. غمز له بعينه أن ينظر إلى الطلاب. لفت نظرهما وفرةُ الطالبات المحجبات حجاباً متناسقاً مع لباس الفتوة العسكري الذي يرتدينه. لم يتكلما. تحاورا بصمت:
- أرأيت إلى حركة التاريخ، أين وصلت في هذه المدينة؟
- نعم. لقد نشط الوعي، وانسجم الحجاب مع اللباس العسكري.
- ألا يبعث هذا على السرور؟!
- جداً.
استأنف حامد نومه. استأنف عبدالرحمن القراءة في كتابه. استل فيصل سجارة، وشرع يتعامل معها مثل المدخنين المحترفين.
بعد مدينة الرستن شاهد عبدالرحمن تلالاً من أكياس القمح مرتبة بأشكال هرمية تحت واقيات من الإسمت والصفيح. ضغط كف جاره. تطلع حامد عبر النافذة. وقع بصره على تلال القمح. ابتسم. أجابه عبدالرحمن وفيصل بابتسامه.
تحاوروا صامتين:
- ألا ترى ما أكثر الخير في بلادنا؟
- أراه في الأكياس المعدة للسفر إلى الخارج. لا أراه في رغيف الخبز المفقود. وإذا وجدنا كان (لبخة).
- تقصد سيء النضج.
- وأقصد سيء الأصل. من طحين مستورد مقمّل.
- على كل حال نحن لا نراه إلاّ مخبوزاً!.
- ألم تر فيه مسماراً ولا ذبابة ولا خيط قنب؟!.
كانت الشمس مشرقة في سماء حمص الصافية لما مرت السيارة بجوار معمل السكر. هذه المرة أشار حامد لجاره عبدالرحمن أن ينظر إلى سيارة شحن ملائ بالشوندر السكري.
- لم أرَ في حياتي تجمعاً لسيارات الشوندر كما أراه الآن.
- يشاع أن المعمل معطل بسبب الحاجة إلى قطع غيار من أوروبة.
- ويشاع أن العمال مضربون لقلة الأجور، وطول الدوام، مضافاً إليه ما يسمى بالدوام التطوعي الذي تبتكره لهم نقاباتهم المزورة بمناسبة وغير مناسبة.
- كل ما يشاع له أصل من الصحة. دليل ذلك كثرة معامل السكر في البلد، وقلة الإنتاج، وارتفاع الأسعار، ونشاط السوق السوداء.
- آخر نكتة: يشاع أن الدولة تستورد السكر الأحمر لمصانعها بدلاً من الشوندر.
- وماذا تفعل بالشوندر وبالفلاحين؟!
- إلى الجحيم.
في عيني حامد تحولت حبات الشوندر المكدسة إلى رؤوس بشرية مائلة على بعضها، عيونها تبكي بغزارة. كتل الشمندر البشري تتابع مرورها أمام الركاب، وقطرات الماء تتساقط من مآقيها وحوافي سياراتها.
وضع فيصل يده على المكان الذي تكمن تحته رزمة الأوراق المشدودة على بطنه ما بين الحزام والسرة. تأكد بأنها ما تزال في مكانها الأمين.
حلم بأن هذه الأوراق تحمل علاجاً لتسريح العمال ولأزمة السكر والإسكان ولاحتكار المواد الأولية.. سكر.. قمح.. حديد. هذا ما يريده معظم المواطنين. أما هو فيريد من رزمة الأوراق هذه أن تكون قد خططت لمستقبل ابنته خولة. (مثل ماذا؟). (أن تتعلم في المدرسة حبّ اللّه والرسول أولاً. وألاّ يتحرش بها المراهقون في الطريق، ولا مدربو الفتوة وزعران اتحاد الطلبة وشبيبة الثورة). (هل هذا كل ما يريد؟) (لا. طبعاً. إنه يريد أشياء كثيرة، يمكن اختصارها بالإطاحة بهذه الحكومة المستبدة، وإتاحة المجال لحكومة تعبّر عن إرادة هذا الشعب الطيب المؤمن، ومن ثم تحل العقد الأخرى كلها) (كيف يطاح بهذه الحكومة ؟) (ربما تجيب هذه الأوراق؟).
- أليس كذلك أستاذ؟
- كيف علمت أنني أحد الذين حرروا الأوراق؟!
- أنا أخوك. (ابتسم فيصل).
أطلت مشارف دمشق. كانت الشمس ساطعة جداً. أوراق الأشجار استدارت على الأرض حول الجذع مصفرة. استيقظ حامد. استعاد حيويته ونشاطه. يبدو أن معظم الركاب قد أيقظهم اقترابهم من هدفهم. شرعوا يرتبون أمتعتهم.
العاصمة دمشق لم تعد تعني في نفس حامد تلك المناهل العلمية التي اسمها الجامعة، ولا تلك الجنات المزدانة بالياسمين والزنبق وجداول بردى التي اسمها البيوت العربية، ولا متاحف الماضي الباهرة التي اسمها الجامع الأموي والمكتبة الظاهرية وقصر العظم. إنها اليوم غزالة مقتولة تنهش لحمها الطري مخالب غريبة. وتفقأ عينيها الكحلاوين أصابع غريبة: حواجز عسكرية. دبابات. رجال مدججون بالسلاح على أبواب دمشق وفي شوارعها وأمام مؤسساتها المدنية وغير المدنية. (ماذا جرى؟) (لا شيء. مجرد حكم عسكري منذ سنوات عدة) (من أجل من هذا العسكر؟ أمن أجل اليهود الذين أعطيتموهم الجولان، ووضعتم بينكم وبينهم القوات الدولية؟ أم من أجل العامل والفلاح؟!).
تلاقت نظرات حامد وعبدالرحمن وفيصل. لم يكونوا بحاجة للكلام.
- هل تحدثت رزمة الأوراق المخفية عن هذه الأمور؟!
- طبعاً!
- بل إنها جعلتها في أول سلّم الأولويات.
هنا طلب الأستاذ حامد أن يخاطب السادة القراء مباشرة، قال:
- هذه الأوراق التي نتكلم عليها، إنها باختصار »خطة عامة لتغيير الأوضاع في هذا القطر« تقول هذه الخطة فيما تقول: إن واقع البلاد فاسد، وإن النظام الحاكم يتحمل مسؤولية أكبر في هذا الفساد، لإمساكه وحده بزمام المقاليد كلها، وسيره على خطة تزيد الفساد فساداً في مختلف المجالات. لا بُدَّ من برنامج عمل يسير في محورين: الأول وضع مخطط تغيير شامل يُحبط مخطط النظام، ويضع البديل المنشود. الثاني تعبئة الشعب كله وراء هذا المخطط لتبنيه أولاً، ولوضعه موضع التنفيذ ثانياً، ولو اقتضى الأمر مواجهة النظام المتغطرس مواجهة شعبية. إن الأفكار التي وردت في هذه الخطة تكاد تكون قاسماً مشتركاً لكل برامج المنظمات والأحزاب الشعبية. أمّا الجديد فهو التفكير الجدي في تغيير النظام، والاستعداد لمقاومته إذا ركب رأسه، ولجأ إلى تصعيد قمعه وبطشه. مثل هذا البرنامج يظل حبراً على وراق ما لم تنهض منظمة شعبية لإذاعته والتقدم لتنفيذه، وما عبدالرحمن وفيصل وحامد إلاّ عينة من هذه المنظمة التي طورت وسائلها وأساليب عملها، وبلغت من النضج مستوى أتاح لها وضع مثل هذه الخطة. أمّا نقلها إلى خارج القطر بعد إقرارها في مؤسسات الداخل - فلأهداف عدة، منها تعميمها على الجاليات والنخبة الفكرية والأدمغة التي اضطرت للهجرة، وهي ذات شأن في الموافقة عليها.
أومأ عبدالرحمن لرفيقيه بأن التذاكر حجزت، وأن السيارة على وشك التحرك. انتبه حامد إلى أنه تحدث إلى القراء عن الأوراق أكثر من اللازم، فختم حديثه قائلاً:
- نحن الآن متوجهون إلى الحدود. ادعوا اللّه لنا بالنجاة.
لم يكن لدى الرجال الثلاثة تصور كامل لعملية العبور بالأوراق، كل الذي لديهم أن يتوزعوا بينهم المهمات والأدوار. حامد في المقدمة للاستطلاع. فيصل في المؤخرة للتنفيذ. عبدالرحمن صلة الوصل بينهما. وهم في الوقت نفسه شركاء في المشورة والتداول. وإذا انسدت الأبواب فإن فيصلاً مستعد للعودة وحده مع الأوراق، على حين يتابع الآخران سفرهما، كأن شيئاً لم يكن. وكل منهم هيأ نفسه لجواب مسبق عن سبب سفره.
لأول مرة يصغي الرجال الثلاثة إلى صوت المذياع الذي يبث أغنيات مسلية. إن الذي استحوذ على اهتمامهم أغنية (إرادة الشعب):
وقالتْ لي الريح بين الجبال وفوق التـلال وتحـت الشجــرْ
إذا مـــا طمحــت إلى غايـةٍ ركبتَ المنى ونسيتَ الحذرْ
تساءلوا:
- هل مرّ الشاعر بتجربة خطرة مثلنا؟
- هل يتحدث الشاعر عنّا؟
- كم سمعت هذه الأغنية من قبل، لكنني ما تذوقتها مثل هذه المرة؟!
أخيراً وصلت السيارة إلى منطقة الحدود.
لا شيء يختلف بين ما هو داخل الحدود وما هو خارجها، لا الأرض ولا السماء ولا السكان، لكن الحدود تعني الحدود: أسلاك شائكة ممتدة في الأفق، حيث يعجز النظر عن رؤية نهايتها. طريق واحد للعبور محصور بالأسلاك وبجدران إسمنتية. يجبر كل من يدب على الأرض على أن يعبر منه: الإنسان والحيوان والسيارات والعربات والدراجات النارية والهوائية. لو كان بالإمكان حصر أشعة الشمس والنسيم والأطيار لحصرت.
قبل دخول السيارة إلى مبنى الجمارك وقسم الجوازات توقفت عند غرفة خشبية مكعبة، تبيّن أنها لأجهزة الأمن. بابها مواجه لباب السيارة العابرة. هنا يسلّم السائق أو مساعده قائمة بأسماء الركاب للمفرزة الأمنية المؤلفة من ثلاثة رجال بلباس مدني (ضابط ومساعدين«، حيث يُستدعَى كل راكب على حدة، لفحص أوراقه وسؤاله عن سبب سفره ولتفتيش جيوبه وأمتعته إذا لزم الأمر. في الوقت نفسه يجري تفتيش للسيارة وهي خالية من الركاب.
أدرك الرجال الثلاثة أن ساعة الصفر قد حانت: حياة أو موت، نجاة أو اعتقال. بعد الاعتقال: التحقيق والتعذيب والضغط باعتقال الزوجة والأولاد، وانكشاف التنظيم، أو الموت تحت التعذيب.
وقف التاريخ في العراء بشخصه المهيب يرصد هذه اللحظات: غرفة خشبية مكعبة لوّحتها الشمس، قبع فيها ثلاثة رجال يمثلون السلطة، وهناك ثلاثة رجال آخرين يمثلون الشعب.
القابعون داخل الغرفة يشعرون بقوة لا حدود لها: الدولة بكل سلطاتها ومؤسساتها تدعمهم، لا سيما أجهزة الأمن والمخابرات وسرايا الدفاع والوحدات الخاصة. (أنت معتقل) يعني: (أنت معتقل) (إخرس يا كلب. من أنت حتى تردَّ عليَّ؟ اشحطه).
- أنتِ يا حلوة. لماذا تسافرين؟
- ....
- ألم يعجبك كل شباب البلد حتى تسافري؟
- هل خبّأتِ شيئاً تحت تنورتك؟
- ارفعي لأتأكد.
هذا إذاً هو سبب تجمع الثلاثة في الغرفة.
اصطف الركاب رتلاً أحادياً: الرجال والنساء والأطفال. وجوه مصفرة، أيدٍ راجفة. نظرات زائغة. ابتسامات وعبارات مصطنعة حول الطقس وطول السفر. لا شيء عن الغرفة المكعبة ولا عن الانتظار الممل. أمّا المسافرون الثلاثة فكان كل منهم يستجمع قواه للسيطرة على حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة.
لم يكن بوسع الثلاثة المسافرين اللجوء إلى القوة إذا انكشف أمرهم، فالقوة لا دور لها في هذا المكان، ولا في هذا التوقيت. الحرص كل الحرص على تمرير الأوراق بهدوء. كذلك لم يكن بالإمكان اللجوء إلى الرشوة، لأن الرشوة تحتاج إلى مبلغ ضخم وإلى وسيط مأمون وإلى مكان خلويّ، وليس واحد من هذه الأمور متوفراً. (إذا مرَّ الأمر بسلام فبها وإلاّ فما العمل؟!).
من الواضح للمسافرين الثلاثة أن صفاتهم الشخصية وحدها لا تنفع إذا وقع المكروه، كما أن مواقعهم الاجتماعية - مدرسين ونجاراً - لا تجدي أيضاً، بل إن كل مالهم من أقارب وأرحام وأصدقاء لا دور لها في هذه المواجهة؛ على العكس إن هذه الصلات الاجتماعية والنقابية والسياسية سوف تكون وبالاً، سوف تؤخذ الزوجة والأولاد رهائن للضغط وقت التحقيق والتعذيب، وسوف ينكشف التنظيم، وتشن حملات الاعتقال والتصفية والمحاكمات الميدانية أو الصورية، وسوف تُلَفَّقُ التهم ويُنفر الجيران والأصدقاء والرأي العام.. تخيل حامد أول ما تخيل كيف تصادر مكتبته الخاصة التي لا يملك من الدنيا سواها، وقد جمع فيها نوادر المخطوطات ونفائس الكتب، كما تخيل حزن أمه وأبيه المسنين بعد اعتقاله؛ أمّا عبدالرحمن فقد هاله تخيل شماتة الأعداء: ضحكاتهم العريضة الصفراء، سخرياتهم المرة: (كل شيء يهون إلاّ شماتة هؤلاء الحقراء) شدّ عبدالرحمن قبضته، كاد يلوّح بها في الفضاء، لكنه امتنع وضبط أعصابه: (لا مكان هنا للانفعالات والعواطف الهوجاء). النجار فيصل تأمل حال الأسر التي في رقبته: التشرد. الجوع. الانقطاع: (لا يمكن. لا يمكن أن يحصل هذا. ولا يمكن أن أتخلى عن المهمة).
قفزت إلى مخيلة حامد ذكرى اعتقاله عام ،1967 ولم توجه إليه أي تهمة، وتذكر زيارة زوجته وولده مجاهد له في السجن: (هل تتكرر المأساة. كنت أحس سكاكين تعمل في أحشائي آنذاك، ولا تهمة محددة. أما الآن فكل الجرائم جاهزة، ثم هل يسمح للأهل بزيارتي. وهل سأبقى على قيد الحياة؟! المشنقة مهيئة تنتظر إن نجوت من قضبان الحديد المحماة، ومن الصحن الطائر ومن الكرسي الكهربائي و... و...).
أحد الركاب قذف عقب سيجارته إلى الأرض داس عليه بشدة. تخيل حامد أعقاب السجائر التي سوف تطفأ على الأجزاء الحساسة من جسمه وأعضائه: (لا، لا. لن يكون) كاد يصرخ بأعلى صوته. لكنه عاد فضبط أعصابه.
تعمد المسافرون الثلاثة أن يركزوا اهتمامهم على الدخول والخروج سالمين. في أعماق اللاشعور كان الأمل الكبير يبتسم، ويدغدغ أعماقهم. مرور الأوراق يعني تحرك عجلة التاريخ بمقدار مسنن واحد، ويعني أن الوعي والتصميم على التغيير قد انتشرا، وأن العقول والسواعد قد بدأت تعمل عملاً موحداً صوب هدف موحد. أهل الداخل والخارج جسد واحد، هدف واحد. أليس التغلب على مفرزة الأمن هذه نصراً على السلطة نفسها. يضاف إلى الانتصارات الصغيرة التي تتجمع، وتشكل انتصاراً كبيراً؟
تسريح العمال سوف ينتهي وفقدان المواد الأولية سيزول، والنفوذ الأجنبي يبطل. سوف يتوفر الحليب للأطفال، والخبز للأفواه، والنور للعيون كل العيون. المستقبل رهن بحركة التاريخ، وحركة التاريخ رهن بإرادة من له إرادة. فلنكن أصحاب إرادة. يا ناس، يا هو.. هوناً. هوناً. كل شيء إلاّ الخروج عن الوضع الطبيعي.
لطول الانتظار تبعثر رتل المسافرين الأحادي. أتيحت الفرصة للمسافرين الثلاثة أن يتداولوا في الموقف. قرروا الدخول قبل النداء على أسمائهم. دخل حامد.
- اسمك؟
- حامد عبدالواحد.
- هل معك أغراض في السيارة؟
- لا.
- أفرغْ جيوب معطفك هنا.. لماذا تريد السفر؟
- للبحث عن كتب ومصادر للرسالة الجامعية.
- أنت مثقف! بتفهم هه؟ (كشر. أسنان صفر. لسان غليظ جاف أسود مثل لسان الثور. تحركت كفه اليمنى تحت أشعة الشمس الواهية. التمعت خواتم ذهبية)
- إذهب. إبعث غيرك.
خرج حامد. شرح الموقف لزميليه. دخل عبدالرحمن وخرج. ناوله فيصل كيساً ورقياً مجعداً مطوياً. وضعه عبدالرحمن تحت إبطه. دخل فيصل وخرج مبتسماً. أشعل سيجارة. انتحى بعبدالرحمن ناحية. استلم منه الكيس الورقي. وبلمح البصر اختفى الكيس تحت قميصه بين السرة والحزام.
فجأة تلبدت السماء بغيوم كثيفة. اندفعت عاصفة خريفية شديدة من الجنوب. صفرت. طارت أوراق الأشجار وأكياس النايلون الفارغة. فرقعت قطع الخشب والصفيح. تطايرت واقيات الأكواخ والأكشاك. ترنحت الغرفة الخشبية المكعبة. سقط جدارها الخلفي لـمَّـا صاح الضابط في وجه أحد الركاب، وضرب بقبضته النحاسية الجدار مهدداً متوعداً. سقط مطر نظيف جداً.