الطريق

الطريق

بقلم : نعيم الغول

الحاجز كان أنبوبا معدنيا مطليا باللون الأسود يتمدد بتحد لا معنى له في عرض الطريق.

من بعيد  لاحت بنايات المدينة حاملة شحوب الفجر الرمادي البارد الآخذ في التقدم . من الكوخ الكامن عند طرف الحاجز خرج رجل. اقترب ببطء وهو يخرج من انفه خيطا طويلا من الدخان. كان يعتمر قبعة حارس، ويلبس زيا موحدا لا ادري إن كان لشرطة أم لشركة متعددة الجنسيات أو لمصنع فأنا كثيرا ما تختلط لدي  أزياء هؤلاء الحرس . لم يكن شابا على أية حال، وكان يسعل بشدة.

سأل:

-   " هل معك سلاح ؟"

-    لا . لا أحتاجه"

-         ديناميت ؟"

-    لا . لا أحتاجه."

-         " مهدة ؟"

-         نعم

-        " أين ؟

-         في السيارة "

-   أين في السيارة ؟

-    في الصندوق الخلفي"

-         افتحه !

فتحته وأنزلت المهدة أرضا . فتش فعثر على شاكوش وإزميل وقاطعة أسلاك ومسطرين.. فأنزلها أيضا. سأل

-   لماذا تحمل هذه الأشياء ؟

-         أنا بنّاء.

 فتشني جيدا . ثم عاد وفتش السيارة تفتيشا  دقيقا . وحين لم يجد أدوات أخرى ابتسم بوحشية وقال : توكل!

لم أفكر كثيرا في إجابة على سؤال ألح علي قليلا: لماذا لم يسأل عن سبب مروري من هذا الطريق؟ لا بد انه يعرف أن الطريق الرئيسي مغلق بسبب الانهيارات كما تقول الاشارة المزروعة قبل خمسمئة متر من هذا الموقع.

سرت بالسيارة ما يقارب الكيلو متر حتى بدأ الطريق يتغير؛ فقد اختفى الإسفلت ،وصار ترابيا يختلط بالحصى، ثم بدأ يضيق شيئا فشيئا ،ثم أصبح ممرا  بالكاد يتسع لسيارتين صغيرتين . كان هناك سياج معدني على يسار الطريق . كان ارتفاعه يزيد على أربعة أمتار، وكان محاذيا له ويسير معه. إلى يسار السياج كان هناك منحدر شديد الوعورة.

 اهتزت السيارة فجأة، وعلا صوت جلبة من أحد الإطارات. نزلت فوجدته مفتوقا و تحته حجر حاد. أبدلته بالإطار الاحتياطي. سرت بضعة أمتار. اهتزت السيارة ،وخرج صوت جلبة من الأمام ومن الخلف. نزلت فإذا بعجلتين قد فتقتا.

 أوقفت السيارة إلى أقصى يمين الطريق. كنت اكره ما يفعله بعض السائقين من ترك السيارة في منتصف الطريق إذا تعطلت.  تناولت لفافة الأوراق الزرقاء الطويلة من على المقعد الخلفي، وسرت على قدمي فوق الحصى الذي بدأ يتزايد مع تقدمي. كان قد اصبح مدببا اكثر فأخذت أسير ببطء وحذر خشية أن يثقب حذائي . ضاق الطريق اكثر ولم يعد ممكنا حتى لسيارة واحدة السير فيه . مشيت عدة مئات من الأمتار .ازداد الطريق ضيقا.  شخص واحد فقط كان يستطيع السير فيه. انعطفت معه يمينا فوجدت صخرة كبيرة تسده . شمرت عن ساعدي وانحنيت عليها.  أزحتها بما يسمح بمروري . واصلت سيري.  بعد عدة عشرات من الأمتار انتصبت صخرة اكبر قليلا. عالجتها و أزحتها ومشيت. بعد عشرة أمتار اصطدمت بصخرة ثالثة ثم رابعة ثم عاشرة .

كنت قد بدأت الهث. سيل من العرق انساب من أعلى ظهري إلى أسفله . جلست قليلا ثم قمت، وبدأت أحرك الصخرة. وحانت مني التفاتة إلى أعلاها . آثار سائل أحمر جف حديثا  . "ذاك دمي" قلت وأنا أتذكر كيف ارتطم رأسي بنتوء في الصخرة وأنا أجاهدها. أزحتها بغيظ  وبجهد فانزاحت فمررت . كان التعب قد بلغ مني مبلغه.  عيناي تبحثان عن مستقر ومعهما دوار في رأسي. لكني واصلت. أكان خيالا ما رأيت وأنا انحني على الصخرة؟

   الصخرة التي أزحتها  وخلفتها ورائي مرت بي مسرعة، وأخذت مكانا لها خلف صخور أخرى إلى الأمام. نفضت الخاطر، وقلت لنفسي " تعبان والتعبان قد يرى( الديك أرنبا )؛  واصل. واصل . معك "أمانة" يجب أن توصلها إلى أصحابها."

لكن الصخرة التي انحنيت عليها جعلتني اقف متأملا ؛  كان فيها شق كذاك الذي في الصخرة التي أزحتها بعد الصخرة التي تحمل دمي . هل هذه مصادفة ؟ أوه . لا أنا تعبان. والتعبان قد يرى الديك اكثر من أرنب ! أزحتها بعد لهاث، وزرع أرجل في الأرض ،وحبس أنفاس، ودفع ، وبعض البكاء، والكثير من الدعاء أن يساعدني الله. التقطت أنفاسي وبدأت بالسير نحو الثانية عشرة أو ربما الثالثة عشرة ؟

قالت عيناي :"انظر . انظر !"

 نظرت فإذا الصخرة التي أزحتها للتو تنطلق وتصطف خلف طابور  صخور  يخيل الي أنه لا ينتهي .

سقطت على الأرض وقد انقسمت إلى اثنين: أنا مع عيني، وأنا مع عقلي . ونظرت لاهثا إلى الصخور وقد اصطفت بنظام محكم، ومسافات تكاد  محسوبة: حجم كل صخرة يكبر قليلا عما قبلها و بين الصخرة والصخرة عشر خطوات . قفز بصري من صخرة إلى أخرى حتى استقر على صخرة ضخمة جدا تربض بجمود على صدر المكان. كانت بعيدة ويظهر جزء منها فيما اختفى الجزء الآخر وراء منعطف .  ترى هل هناك صخور أخرى وهل هي اكبر من هذه؟

لم يشغلني السؤال  بل شغلني كيفية مواصلة السير، والوصول إلى المدينة وإيصال المخططات. اقتربت من المنحدر وتابعته حتى استقرت عيناي على أسفله حيث وادي سحيق . تعرجاته كانت تتلوى حتى التصقت بطريق يبدو من البعيد، تتحرك فيه سيارات صغيرة ،وشاحنات كبيرة و حافلات. كان شارعا كبيرا واسعا كأنه شق ليسير عليه كل البشر. كان كل شيء ينساب عليه بحرية.

 من أي  أتت كل هذه العربات إذا كانت الطريق مغلقة؟ لو لم تكن تلك اليافطة موضوعة، وتشير إلى أن  الطريق مغلق ،وان هذه الطريق هي البديل لكنت الآن أسير عليها لأسلم المخططات الهندسية لبناء الحي القديم المتداعي في طرف المدينة . أهله ينتظرون بلهفة. ينتظرون ان تتغير أحوالهم كما حدث مع  الأحياء من حولهم. (لا بد أن تفعل شيئا وتصل . وهناك توقف أية سيارة.  على طريقة "الأوتوستوب" يعني . من المؤكد أن السيارات المارة هناك تتوقف لتقلَّ  كل من يشير بإصبعه.)

كان علي كي اصل إليه إما أن اهبط المنحدر وأسير مع الوادي وإما السير إلى الأمام.

رميت ببصري إلى جيش الصخور الذي كان لا يزال مصطفا في وضع استعداد للمصارعة.

الطريق -  الشريط . لم يكن  ليتسع لكلينا. كان  المنعطف يخفي اكثر مما يبدي.  لا مندوحة إذن من  هبوط المنحدر حيث يمكن دائما رؤية الشارع الرئيسي الكبير والاهتداء به.  

ولكن ماذا ستفعل بالسياج المعدني؟

سؤال وجيه . سأعود إلى الحارس . وسأحاول إقناعه بان يعطيني المهدة والشاكوش والإزميل والقاطعة. لا بد من إقناعه . سأحاول إقناعه  . نعم،  يحسن محاولة إقناعه أولا. محاولة  إقناعه أولا ضرورية. ليس من الحكمة قتله دون محاولة.