شجرة التفاح
شجرة التفاح
بقلم :د.طارق البكري
في بيتنا القديم حديقة واسعة واسعة ، في وسطها شجرة كبيرة، عتيقة عتيقة، شاخت مع مضي السنين .. أحبـبتها منذ الصغر، كان لي معها قصص وحكايا على مدى الفصول ومراحل الطفولة والشباب ..
كان أبي يقول إنّ أمّه ، رحمها الله ، غرستها
شتلة صغيرة منذ زمن بـعيد، لا يدري متى بالتحديد فقد كان طفلاً، وهي تحمل في قلبه
ذكريات غالية عزيزة .
لذا ظلّ يرعاها ويهتم بها كأنّها فرد من أسرتنا ، يقوم بتنظيف الأرض من الأوراق الساقطة منها ، بالرغم من وجود جنايني مهمته رعاية زهور وأشجار الحديقة الكبيرة.. يعتبر أوراقها الساقطة شيئاً غالياً .
في موسم التفاح كنا نفرح كثيراً عندما يقوم أبي بنفسه بقطف ثمارها ويقدّمها لنا ، باعتبارها أحلى وأغلى هديّة سنويّة مستمرّة من أمّه، يرحمها الله .
كنّا نشعر وكأنّ هناك عيداً اسمه: "عيد التفاح" ..
كنا نترقب الموعد يوماً بعد يوم لنرى تلك الفرحة الغامرة التي يعيشها أبي وهو يراقب الشجرة تزهر وتثمر .. وتخرج خيراتها ، "هدية الأم" ، جدتنا الغالية ..
كان أبي يمنعنا من الاقتراب منها ، حتى بعد أن ينتهيَ الموسم ، ولم يكن يسمح لنا باللعب في ظل الشجرة كيلا نتسلقها ونكسر أغصانها ..
لقد كان يحمل لها في قلبه حباً وفياً ، أصدق من روايات الوفاء والحب التي نسمع عنها الكثير الكثير .. من شدّة حرصه على الشجرة؛ بنى حولها سوراً خشبياً مرتفعاً فلا يمكن الوصول إليها إلا عبر بوابة صغيرة، ولها قفل ومفتاح واحد، مكانه الدائم في خزانة أبي ...
مع الأيام كبرنا وكبر أبي وشاخت الشجرة..
أصبح منظرها لا يتوافق مع مشهد الحديقة العام...
موقعها يتنافر مع موقع الأشجار الأخرى التي تحيط بالحديقة ، وتشكل سوراً طبيعيا.ً كنت أعرف أنّ إعدام الشجرة كان مستحيلاً؛ اخترت أهون الحلول، عرضت على أبي أن ننقلها بعناية إلى مكان مناسب في أحد الأركان، وبذلك تبقى في الحديقة، ولا تسبب تشويهاً للمنظر ..
احمرّ وجه أبي غيظاً ... انتفض في مجلسه غاضباً .. قال كلمة الفصل :
" لن تنتقل الشجرة من مكانها ما دمت حياً " .
احترمنا إرادة أبي ... لم يجرؤ أحد من إخوتي على اجتثاثها رغم ما تسببه لنا من إزعاج .
عند وفاة أبي لم يوص أحداً بالشجرة التي أحب وأخلص لها طوال عمره، لقد كان بإمكانه أن يوصيَ بها لكنّه عرف مقدار المعاناة التي تحمّلها من أجلها ، لتبقى ذكرى جميلة من أمّه ... فإن كانت ملزمة في حق نفسه ؛ فإنها ليست بالضرورة ملزمة في حق أولاده ..
أغلق عينيه بصمت ... لم يطلب من أحد منا المحافظة على الشجرة في مكانها..
والآن ، وبعد سنوات طويلة ، لا تزال الشجرة في مكانها، جفّت عروقها وأغصانها... لا تثمر .. لا ورق فيها إلا ما ندر .. لولا اخضرار بسيط فيها لأعلنّا موتها منذ زمن بعيد ...
وفي يوم ، اجتمعت زوجتي وأولادي ... ثم خرجوا ليعلنوا قراراً بالإجماع: "لا للشجرة لا نريدها لقد أصبح شكلها مخيفاً ومزعجاً " .
صاحوا جميعاً :
"إنّها عجوز لا فائدة منها " .
لم أغضب .. لم أرفع صوتي .. بل تمتمت بهدوء، مكرراً ما قاله أبي قبل سنين طويلة :
" لن تنزع هذه الشجرة من مكانها ما دمت حياً " .
اللهم ارحم أبي وجدتي.