في الحافلة
في الحافلة
|
بقلم: محمد الحسناوي |
القطة إذا تعرضت لخطر تحمل جراءها بأسنانها،
وتنقلها إلى مكان أمين. تمسك الواحد منها في عنقه، وهي تشخر وتنخر. قد تصعد به إلى
مرتفعات خطرة، وقد تهوي هي وإياه في منزلقات ومهاوٍ أخطر، وقد تموت بعض هذه
الجراء نتيجة لذلك. مثل هذا حدث للمدرس حامد، فقد نقل أسرته منذ سنوات من وطنه إلى
عاصمة عربية مجاورة، ثم اضطر إلى أن ينقلها بعد سنوات إلى عاصمة أخرى، حيث توفيت
زوجته الغالية، ووسدها بيديه التراب.
ها هو ذا الآن ينقل أسرته الجديدة من هذه العاصمة (أ) إلى العاصمة الأخرى (ب)، ومعه بالإضافة إلى الزوجة سخلتان »مزنة« و»هبة«.
الانتقال هذه المرة زيارة لأهل الزوجة المغتربين أيضاً، ومن يدري فقد تتحول غربتهم إلى استيطان. من حُرِمَ وطنه فإن أرض اللّه كلها تصير وطناً له.
للزوج حامد ولدان شابان يدرسان في العاصمة (أ)، وابنة متزوجة في عاصمة ثالثة؛ أمّا الزوجة فلها أب وأخ ممنوعان من مغادرة البلاد، وأمّ وثلاثة إخوة يقيمون في العاصمة (ب)، وأخوان في كل من (كندا) و(أمريكا). أمّا بقية الأخوات المتزوجات، فإحداهن في فرنسة، والثانية في عاصمة عربية رابعة، والخامسة والسادسة في قطر عربي. هل هي المدنية الحديثة التي سهلت الاتصال والانتقال؟ على العكس - قال حامد لنفسه - إنها السياسة التي مزقت الأمة إلى أقطار، ثم فرقت أعضاء الأسرة الواحدة تحت كل نجم. والد الزوجة وأخوها الأكبر لا يستطيعان الخروج إلى حيث الأم والأولاد، ولا بقية أفراد الأسرة يستطيعون زيارة الوالد.
في الحافلة التي تقل أسرة حامد توجد أسرتان أخريان ومجموعة مسافرين على شاكلة حامد وأسرته المرتحلة. إنها ظاهرة - فكر حامد - تنتظم قطاعاً كبيراً من أبناء وطنه، بل تكاد تشمل عدداً من أبناء الأقطار العربية الأخرى. لولا الحدود والإجراءات الأمنية في كل عبور لهانت المشكلة. كان الرحالة »ابن بطوطة« في الماضي يعبر العالم الإسلامي من مغربه إلى مشرقه بلا جواز سفر. كان أهل الشمال يهاجرون ويستوطنون في الجنوب. وطن واحد. أمة واحدة. أمّا اليوم.. عض حامد على شفته السفلى. نظر يميناً ويساراً. لم يكن هناك غرباء. مع ذلك بلع ريقاً مرّاً.
شدّ على حضنه ابنته »هبة« بنت السنتين، كمن يخاف أن تختطف منه. بطّأت الحافلة من سرعتها، فتمايل الركاب في مقاعدهم غير المريحة. انعطفت عن الطريق العام. اشرأبَّ الركاب ينظرون في النوافذ: »هذه حفر أحدثها القصف الجوّي«. »هذه سيارة محروقة«.
بينما كانت الحافلة تخب في الطريق الترابي متجنبة مواضع القصف كان حامد يسترجع ذكريات الحرب: أربعة شهور من الحصار الاقتصادي: لا غذاء ولا دواء. أعقبتها أربعون يوماً من القصف الجوي المستمر: نيران تهوي من السماء، ونيران تنبع من نوافير، وبراكين من الأرض. طائرات. صواريخ. طائرات. صواريخ. شيء لا يصدق.
قبل وقوع العدوان بيومين خرج حامد وأسرته من العاصمة إلى الريف على مسافة مئتي كيلومتر تحسباً للأخطار. قنابل ذرية. قنابل كيماوي مزدوج. نزل ضيفاً على أحد إخوانه في الليلة الأولى، ظنَّ الأمر مؤقتاً، ولما كثر الضيوف انتقل إلى بيت أخ آخر في الليلة الثانية، ثم اضطر إلى المغادرة إلى بيت استأجره في الليلة الثالثة. بعد منتصف الليل استيقظ هو زوجته على أصوات القصف الجوّي للعاصمة. أصوات دويّ هائل وانفجارات. تتناهى من بعيد. أفق السماء الليلي فوق العاصمة نهار أرجواني. خربت العاصمة عن آخرها بالتأكيد - فكر حامد - الجسور. المصانع. المساكن. المدارس. الجامعات. المكتبات العامة. المساجد. الأطفال. النساء. تحسس أطفاله وأبناءه: مجاهد. يمان. مزنة. هبة. كلهم سالمون، لكن ما الجدوى إذا مات الناس، كل الناس الطيبين؟! تخيل الكارثة. لم يستطع التخيل. وضع يده اليمنى على صدغه. كأن جيشاً من النمل الخفي يجري في أوصال الشعر. ماء بارد. الليلة باردة. النجوم تنظر من بعيد، كأنها عيون فقأها الرَّصاص.
في الضحى تحسس الأخبار، العاصمة لم تدمر. انقطع الماء والكهرباء عنها. سكان العاصمة ينزحون إلى الأرياف. على كل حال نحن في الريف. لكن لا ماء ولا كهرباء أيضاً. لا بأس. النهر قريب. مصباح النفط يكفي في الريف. ما بقي من الغاز يكفي للطبخ والخبز وإلاّ فالأشجار اليابسة كثيرة. لكن إلى متى؟! طالت أيّام القصف. يخف نهاراً ويشتد ليلاً. كان حامد وأسرته يسمعون أصداء القصف من بعيد، وأخبارها في أجهزة المذياع. ثم صاروا يسمعونها تقترب منهم شيئاً فشيئاً. فجأة بعد منتصف الليل صار القصف فوقهم. يا لطيف! صاح الزوجان. بكى الأطفال شهق الشابان.
- إنهم يضربون أهدافاً قريبة منا. لا تخافوا. (قال الأب مطمئناً).
- ماذا يوجد قربنا؟ (صاحت الزوجة مستنكرة خائفة).
- لا أدري. ربما كانت هنا قواعد صاروخية متحركة (قال الأب).
- نعم شاهدت البارحة قاعدة بجوارنا (قال الشاب الأكبر).
مع الأيام صار القطر كله مستهدفاً: رجال البادية، حيواناتها أيضاً. ومع الأيام تآلف الناس مع الخطر، مع قلة الماء، وشح البنزين وغياب الغاز والكهرباء. لما تساوى الريف والمدينة، وطالت أيام القصف عاد الناس إلى العاصمة، حيث بيوتهم وأسرّتهم.يموتون فيها أو يحيون. عاد حامد وأسرته أيضاً. لم يعد يتأخر خارج البيت. منذ أول المساء يدخل ولا يخرج. الزوجة الشابة ترتعد ساعة القصف الذي لا يكاد يقف حتى يستأنف. الزوج يذكر اللّه. الطفلتان تتساءلان بنظرات زائغة. يحاول الأب التفسير. بنته التي في سنتها الرابعة من عمرها لا تفهم. لا تستوعب. يحملها على يديه إلى النافذة. يرفعها إلى أعلى كيما ترى الشهب النارية الصاعدة والهابطة، تخترق الظلام الدامس في الأفق القريب والبعيد. شبكة ضوئية عجيبة وضوضاء راعدة أعجب. تتسلى الطفلة. الأم تصرخ من ركنها القصيّ: »هات البنت. لا تقتربوا من زجاج النافذة يتطاير عليكم«. تسقط قذيفة ضخمة في مكان مجاور. ترتج الأرض والسماء من هولها. تزغرد الطلقات، وتزمجر المدفعية من كل ناحية:
نار. نار. نار. بو. بو. بو. بم. وش وش ش ش.
الطفلتان لا تفهمان ما يحدث تماماً، لكنهما تخمنان الخطر من الضجيج الصارخ في الخارج، ومن ملامح الأبوين والأخوين المضطربين. الذعر في وجه الأم وحده كافٍ ليرعب الطفلتين الذاهلتين. الكلمة الوحيدة التي حفظتاها »بوش«. ولعلهما استوعبتاها أكثر من الكبار. إنه لفظ يذكر مع الظلام والعطش والقصف والدوي الهائل المخيف. إنه يذكر مع احمرار السماء وابيضاض الأرض. يذكر في ساعات الرعب، وفي لحظات الغضب والانتقام. إنه الشيطان بعينه. شعر أشقر. عينان زرقاوان. أسنان وأظافر سود. هكذا فهمته الطفلتان.
فطنت »مزنة« إلى احتضان أبيها لأختها الصغرى . غارت منها. تركت النافذة المطلة على المشاهد المتبدلة. دفعت أختها تريد القعود مكانها في الحضن. تأوهت »هبة«: »أذنه!« قالت مشتكية بشفة ملتوية إلى الأسفل. ضم حامد البنت الثانية إلى حضنه، لملم أطراف سترته البنية الشتوية الوحيدة المخصصة للمناسبات غير العادية. ندم لأنه يلبسها في السفر، ويعرضها للغبار ولأحذية الطفلتين. سعد باحتضانهما معاً على الرغم من ضيق المقعد وارتجاج الحافلة. التفت إلى زوجته مبتسماً، كأنما يقول لها: انتهى القصف وزال الخطر. شغل عن ابتسامتها الجوابية. تذكر أن وقف إطلاق النار لم يزل غير نهائي بعد. بوسع المعتدين أن يستأنفوه في أيّ لحظة، ولأيِّ حجة تافهة. هل يمكن أن يستأنفوه، ونحن على طريق السفر؟ نحن الآن في المكان الذي قصفوه منذ أسابيع، وقتلوا العشرات من السائقين والعابرين، وأحرقوا ودمروا عشرات السيارات المدنية الكبيرة والصغيرة. ما المانع من المعاودة؟!.
- قلت لك يا أمّ مزنة أجّلي السفر (رفع صوته).
- قلت لك يا أبا مجاهد عجّل السفر (جحظت عيناها).
هكذا تخيّل شجاراً سوف يحدث فيما لو وقع عدوان مفاجئ. على كل حال: الولدان الشابان في العاصمة سالمان. البنت المتزوجة في عاصمة عربية بعيدة تبقى سالمة. سوف تبقى منا بقية إذا ذهبنا. يا لطيف!! حمد اللّه. ابتسم لزوجته. ابتسمت له زوجته. هذا هو المسموح به في سيارة عامة. ثم هو أكبر المسافرين سناً. لا يليق به أكثر من الابتسام. »ابتسم«: قال لنفسه. »ابتسمت«: أجاب نفسه. ما زالت الطفلتان في حضنه تستمتعان. ضاق ذرعاً بحملهما، لكنه على الرغم من ذلك سعيد. كل الآباء يحبون أبناءهم، لكنه يشعر أن حبه لهما أكبر. هل للتقدم في السن علاقة في زيادة المحبة للأطفال، أو للجمال، أو لشبه الطفلتين لأختيه. في ملامح »مزنة« يرى صورة أخته »صبيحة« التي توفيت بسرطان الدم بعد أن تزوجت، وأنجبت عدداً من البنين والبنات. الشعر الخرنوبي الميال إلى الشقرة الذهبية في ضوء الشمس. الابتسامة العذبة تشرق في العينين قبل الشفتين. في ملامح »هبة« يرى صورة أخته الصغرى »مديحة« التي استوطنت »بيروت« مع زوجها وأولادها، وما أدراك ما بيروت! الشعر الخرنوبي الميال إلى السواد.
لا يدري حامد بالضبط ما الذي جعله يتخيل نفسه هرّة. ألانه يحتضن الأطفال، أم لأنه يهاجر بأسرته كثيراً؟! تذكر قصة غريبة حكاها له أيام الدراسة الجامعية زميله صالح. قال: إن جاري الساكن معي في إحدى غرف المسجد خسر عدداً من طيور الحمام. تسلَّط عليها قط أشقر. ذو عينين زرقاوين. يقنص الطيور ويأكلها واحداً بعد واحد. يكمن للطير في مكان جانبي، ثم يفاجئه بأسنانه ومخالبه الحادة، فيقضي عليه. ما العمل؟ جاري لا يريد إزهاق روح القط، فيرتكب إثماً، ولا يريد أن يخسر بقية طيوره. كان يريد أن ينفس عن قلبه بالانتقام. أخيراً وجد الحل. كمن هو للقط. ألقى القبض عليه. غمس أصابع يدي القط ورجله بالغراء المصبوب في كرات نصفية من قشر الجوز. جفّ الغراء. إذا مشى القط سمعت قرقعة الجوز في يديه ورجليه. لم يعد يستطيع استخدام مخالبه في التسلق أو الجري أو الصيد. إذا ركض وراء الحمام على سطح السقيفة جلجلت الصفيحة المعدنية تحت وقع الكرات الخشبية. أحست الحمامات بالقرقعة. طارت. امتلأ قلب القط غيظاً وجوعاً. امتلأ قلب الجار أمناً وتشفياً.
هذا شأن القط المعتدي، أمّا حامد فإنه معتدى عليه، مشرد من وطنه. قتل واعتقل الكثير من إخوانه وأصحابه، وهو نفسه قلق لا يكاد يستقر طويلاً في مكان. وبودّه لو يستطيع أن يضع الغِراء والحديد في أيدي المعتدين وفي قلوبهم، أولئك آكلي لحوم البشرية، لحوم النساء والأطفال الأبرياء.
خفق شيء مثل الحمام في صدر حامد. تفتحت حواسه كلها. من خلال النافذة التي على يمينه أبصر تربة الأرض الحمراء. أبصر أيضاً شجيرات متفرقة من شجر الصنوبر. إنها ملامح من أرض الوطن. أليست امتداداً جغرافياً لبلاده؟ اثنتا عشرة سنة لم يرَ فيها بلاده. لم يرَ نهر العاصي، ولا سهل الغاب، ولا بساتين جسر الشغور. اللقلق الأبيض بسيقانه الطويلة يتجول على ضفاف النهر الضحلة - النيلوفر بزهره الأصفر الفاقع وأوراقه الخضر الداكنة الرحراحة يسبح على السطح، ويضمخ النسيم بعبيره الزكي النفاذ. الأطفال بأثوابهم الزاهية يتدحرجون على المرج السندسي في »عيد النيروز«. الخيول بفرسانها تشق الهواء والغبار في سباق »بازار الفرجة«. حامد وزوجته وولداه الشابان لا بُدَّ أنّهم يتذكرون الوطن والأهل. لا بُدَّ أنهم يحملون في مخيلتهم بقايا صور. الطفلتان »مزنة« و»هبة« لا تتذكران شيئاً من ذلك. لقد ولدتا في الغربة. أين »صبيحة« لترى شبيهتها »مزنة« فتبوسها وتبوسها من خدها وشعرها، وترفعها هكذا في الهواء. أين »مديحة« لترى شبيهتها »هبة« لتضعها على كتفها، وتجري بها في أرض الدار الواسعة: حبيبتي »هبة«. روحي »هبة«. بنت أخي الغالية »هبة«. حامد كان يشعر أن أولاده محبوبون، لهم حظوة غلاوة خاصة لدى أهله أمه وإخوته. الطفلتان لا تذكران شيئاً من ذلك. ماذا تعرفان عن أحضان الجد والجدة والعمات وعن القبلات وهدايا الأعياد والمناسبات؟ ماذا تعرفان عن عنب الدار »السباعي«، وعن بستان الخالة أم حسن، وعن ليالي الصيف المقمرة في حقول الكرز والتين والعنب والفستق الحلبي؟!.
نار. نار. نار. بو. بو. بم. وش. وششش. بوش