ابتسامة غامضة

عصام أبو فرحه

[email protected]

أتراها تبتسم إعجاباً بي ؟  أم سخريةً من أكمام ثوبي الممزقة ؟

سؤال صارت الاجابة عليه شغل محمد الشاغل , لم يشغله الانتداب البريطاني وهيمنته على مقدرات البلاد ورقاب العباد , ولم يكن مستمعاً لأخبار العصابات اليهودية التي تسيطر على الأرض , ولم يكترث باخبار الثورة التي هبت رياحها في كل مكان من ارض فلسطين , فتلك أمورٌ لها أصحابها وهو ليس منهم , فبشرته الناعمة , وجبهته الناصعة البياض غير المحترقة بشمس الظهيرة , وشاربه المرسوم بدقة وأناة , وذقنه دائم اللمعان , وقامته الممشوقة , ومشيته التي لا تخلو من التبختر والخيلاء , كلها دلائل وشواهد على أيام عز ودلال , فقد ظل ست عشرة سنة من عمره وحيدأ لوالديه , راحته طقوس عبادة لأمه , وطلباته أوامر على رقبة والده , بلغ العشرين من عمره ولم تعرف يده أي شكل من أشكال العمل , ورغم ما حملت السنوات الأربع الأخيرة من مستجدات على ألاسرة , الا انه بقي على نهجه , يعيش بطريقته , وينظر الى كل أمر بمنظاره الخاص ,  فقد انجبت أمه أربعة أولاد في أربع سنوات متتالية , شحٌ في موارد الاسرة وازدياد في تعداد افرادها  , ما عاد محمد يحظى بما مضى , فهاهو ثوبه ( القمباز ) الوحيد الذي يملكه بدأ بالتهالك رويداً رويدا , قامته الآخذة في الطول بدأت بسحب ذيل ثوبه معها الى الاعلى حتى انكشف نصف ساقه , وأخذ طول ذراعيه ينقص من طول أكمامه  فغدت نصف أكمام , وقد نال الهرم من ذلك النصف حتى غدت ثقوبه ( غربالا ) , لم ينل الوهن الذي أصاب الثوب من مشيته الواثقة ومن اهتمامه بذقنه وشاربيه , فالثوب لا يهم لأن ( القالب غالب ) , والفقر الذي ألم بالاسرة ليس هو المسؤول عنه , الوطن له رب يحميه , وللثورة  أكتاف تحملها  ,  وحدها  ( فاطمة ) هي من تسكن النفس , وابتسامتها الغامضة هي فقط ما يثير الاهتمام والحاجة الى كثير من التحليل والتعليل .

يمشي خلفها أثناء مسيرتها اليومية الى الحقل , تنظر اليه خلفها وتبتسم , ثم تشيح بوجهها عنه , يدنو منها ويطرح السلام فلا تجيب الا بابتسامة عريضة , يسبقها ويمشي امامها ناظراً الى الخلف بين حين وحين فتضع كفها على فمها لتخفي ابتسامتها التي تتسع  لتصل الى حد الضحك بصوت مرتفع , كان محمد يشعر بالسعادة والغبطة أحيانا عند احساسه باعجابها , وفي احيان اخرى يحس بغمامة سوداء تعطي اللون الاسود لكل ما هو موجود , وذلك حين يحس انها تضحك ساخرةً من أكمام ثوبه .

يخاطب نفسه مبتهجاً : انت واهم , انها تعرفك جيدا وتعرف من هو محمد , تلك هي اخلاقها , لا تجد سبيلا للتعبير عن اعجابها الا بالابتسامة . يا له من رسول جميل رقيق .

يتجهم وجهه قاطباً فيقول : ولكنها ليست ابتسامة , لولا الحياء لدوت أصوات ضحكاتها رعداً ,

لا بد ان منظر ذراعي النحيف الخارج من الثوب كعود قصب هو ما يثير الضحك .

كيف السبيل لمعرفة ما يدور في خلدها ؟

كيف أعرف ان كانت تبتسم إعجاباً بي ؟ أم سخريةً من أكمام ثوبي الممزقة ؟

الحل عند ابنة العم لطيفة , نعم لطيفة ومن غير لطيفة ؟

انها ابنة عمي وصديقتها القريبة منها , غدا ستنتهي حيرتي , وان غدا لناظره قريب .

وكم تمنى لو ان شمس ذلك الغد لم تشرق , وكم تمنى كبت انفاس لطيفة وهي تسوق له اخبار الشؤم , وكم تمنى لو ظلت الحيرة تشغل باله ففيها على الأقل بعض الامل .

هزت لطيفة رأسها وقالت : نعم يا ابن العم هذا ما قالته فاطمة , فلزاماً عليك ان تصحو من احلامك وأن تتخلص من أوهامك .

أهكذا قالتها ؟ بذلك الوضوح ؟ بتلك الجرأة ؟

أتضحك ساخرةً من ثوبي  ؟؟؟ فهل ثوب ابيها أحسن حالاً ؟؟

خرج محمد مثخناً بجرح عميق , وجهته المدينة ,

لن أعود الا بثوب وحذاء تتحدث عنهما القرية والقرى المجاورة , سأعمل في أي عمل متوفر , سأجمع المال وأعود قريبا , وانتظريني يا بلد .

في صباح يوم جميل من أيام الحصاد , عاد محمد الى القرية يلبس ( قمبازاً ) من الحرير ويغطي رأسه ( بحطة روزا وعقال ) فاخر , ينتعل سباطاً صنع من الجلد الطبيعي , وكانت تلك الغنائم هي كل ما عاد به من رحلته ,  وكعادته مشى في القرية مختالاً , ينظر في الازقة فلا يجد احداً , يطرق السمع خلف ابواب البيوت فلا يسمع همسا , استذكر أن شهر أيار شارف على الانتهاء , وأن موسم حصاد القمح قد حان , فعرف ان الناس كل الناس في السهول , انها فرصته لعرض نفسه بحلته الجديدة أمام الجميع , راح يمشي وسط السهول كأمير اقطاعي جاء يتفقد أملاكه , يلقي التحية على فلان , ويسأل آخر عن المواسم والغلال ,  يكاد ان يرتفع عن الارض حينما يغم شكله على احد فيسأله : هل انت محمد ؟؟؟

مشى ومشى حتى انتهت به قدماه الى حيث فاطمة واهلها يحصدون , القى عليهم التحية وقال :

جئت القرية في اجازة  , فوددت رؤية الناس والاطمئنان على موسم حصادهم ,

كان يتحدث ويرمق فاطمة بنظرات شموخ وعزة وانتصار , نظرت اليه فاطمة بحيرة وذهول

ولم تبتسم كعادتها  .

قال محدثاً نفسه : تلك هي نظرات الاعجاب , ويلي من تلك العيون ما اجملها ,

عادت فاطمة الى منجلها بعد لحظات صمت وتبادل نظرات لا يدري احد ما تخفي ورائها , وسرعان ما صاحت بعلو صوتها , التفت الجميع الى مصدرالصوت , حيث وقفت فاطمة  مكشوفة الذراع بعد ان علق المنجل بكم ثوبها فمزقه من حده الى حده , أصابها الذهول وصبغ الحياء وجنتيها بلون  وردي , وراحت تداري ذراعها بكفها , أحس محمد بأن عيون الحصادين تحولت الى ذئاب متوحشة تتأهب لأفتراس ذلك اللحم الشهي  , فما كان منه الا ان تقدم نحوها وتناول المنجل من يدها , فشق أكمام ثوبه وانتزعهما من مكانهما  وقال لها البسي هذه الاكمام وغطي ذراعيك , تناولت الأكمام  ولبستها على عجل , نظرت اليه طويلاً وابتسمت , ودعها ولا تزال ابتسامتها تعلو وجهها , أحس بدقات قلبه ترقص على انغام تلك الابتسامة .

عندما ابتعد نظر الى ذراعيه المكشوفتين كبقايا هيكل عظمي , فتوقف متسائلاً :

أتراها ابتسمت إعجاباً بي ؟  أم سخريةً من أكمام ثوبي الممزقة ؟

انتهت