غضبت نهلة.. رضيت نهلة
غضبت نهلة.. رضيت نهلة
بقلم :نازك الطنطاوي
كانت الساعة تدقُّ معلنة الحادية عشرة ليلاً، عندما فُتح الباب بهدوء، وإذا هو يرى زوجته في انتظاره، والشَّررُ يتطاير من عينيها.
ألقى السلام عليها، ولكنها لم تجب، فابتسم ابتسامة صفراء، ثم اتّجه نحو غرفته ليغيّر ملابسه، فلحقت به، وقالت له بصوت مليء بالغضب والحزن معاً:
- لماذا كل هذا التأخُّر؟ ألا تعلم أنّ لك زوجة تنتظرك؟.. وبيتاً أنت مسؤول عنه؟..
حاول تهدئة أعصابها بحلو الكلام، إلا أنه لقي صدّاً منيعاً.. وقالت له والدموع تملأ مِحْجَريها:
- لم أعد أستطيع تحمُّلَ غيابك المستمرّ عن البيت، فأنا لست جارية تأتي إليها في أيّ وقت تشاء. إنني زوجة، ولي حقوق عليك، لا يجوز أن تنساها أو تتناساها.
ثم أسرعت إلى حقيبة سفرها. ووضعت فيها بعض ملابسها.. ثم اتّجهت نحو الباب.
أسرع خلفها، حاول جاهداً منعها من الخروج في هذه الساعة المتأخرة من الليل.. ولكنها كانت مصمّمة أن تتركه وشأنه، وتعود إلى بيت أهلها.
استقلّت سيارتها الصغيرة، وأخذت تنهب الأرض مسرعة، وبعد فترة كانت تتسلّق السّلالم بصعوبة، ثم صبّت جام غضبها على جرس الباب.
استيقظت الأمُّ مذعورة من نومها، فهي لم تتعوّد أن يطرق بابها أحد في هذه السّاعة من الليل، وأسرعت نحو الباب وإذا هي تسمع صوت ابنتها تناديها:
- افتحي الباب يا أمي أرجوك!.
فتحت الأمُّ الباب بسرعة وذُعْر، فما الذي أتى بابنتها في هذا الوقت المتأخّر؟..
نظرت نهلة إلى والدتها، ثم ارتمت على صدرها، وأخذت تجهش في البكاء وتقول:
- لم أستطع الانتظار حتى الصّباح.. لأنّي كرهتُه وكرهت العيش معه!
فتحت الأمُّ فمها من الدهشة وقالت لابنتها:
- ماذا تقولين يا نهلة؟ ومن الذي كرهتِه؟
- سمير يا ماما لم يعد يحبُّني.. طول الوقت خارج البيت مع أصحابه أو مسافر، لقد كرهت غيابه المستمر عن البيت.. الوحدة تقتلني يا أمي..
اقتربت الأمُّ من نهلة، وأخذت تمسح دموعها بمنديل نظيف زهريّ اللون ثم قالت:
- لا يا ابنتي.. زوجك رجل طيّب ويحبُّك أيضاً، وأنت بكلامك هذا تهوّلين المشكلة..
قاطعتْها نهلة بصوت مرتجف:
- لا يا أمّي لا... أنا قررت الانفصال عنه ولن أعود إليه..
ربّتت الأمُّ على كتف ابنتها وقالت لها:
- اذهبي الآن إلى غرفتك ونامي واستريحي، فأنت متعبة... وفي الصباح نتابع الحديث.
دخلت نهلة إلى غرفتها، وارتمت على السّرير تبكي بحرقة، نادبةً حظّها العاثر مع زوج لا يقدر الحياة الزوجيّة.
في الصّباح استيقظت (نهلة) على صوت أمّها وهي تتحدث مع سمير على الهاتف، وفهمت الأمُّ كلَّ شيء من صهرها... وبعد قليل ذهبت إلى غرفة نهلة وقالت:
- سمير على الهاتف.. يريد التحدُّث إليك.
صرخت نهلة في وجه أمّها:
- لا أريد أن أتحدّث إليه.
رجعت الأمُّ إلى سمّاعة الهاتف، وطلبت من سمير أن ينتظر عدّة أيام أخرى، ثم يتّصل، لعلّ نهلة تكون قد هدأت ثورتها.
أغلقت الأمُّ سمّاعة الهاتف، ثم اتّجهت نحو غرفة ابنتها، فرأتها ترتجف، وهي تجهش في بكاء مرير يقطّع الأكباد:
- اهدئي يا بنتي وكلّميني.. فأنا مصغية إليك..
وبعد أن هدأت نهلة وسكت عنها البكاء، قالت في لهجة حزينة:
- تذكرين يا أمّي كم كنّا أنا وسمير نحب بعضنا البعض، لقد قضينا أجمل أيّام حياتنا عندما كنّا ندرس معاً في نفس الجامعة، وبعد الزّواج قررت ترك الدّراسة للتفرّغ لسمير ولبيتي، أمّا هو، فقد أنهى دراسته الجامعيّة، وهاهو ذا يعمل الآن مدرّساً للغة الإنكليزيّة.
نظرت الأم إلى ابنتها وقالت:
- وما المشكلة إذن؟.. كلُّ رجل يجب أن يعمل لكي يوفّر لأسرته الحياة الكريمة.
ردت عليها نهلة:
- أتمنَّى يا أمّي لو كان موظَّفاً فقط، ولكنه يقضي طول الوقت في تدريس الطلاب بعد المدرسة حتى الساعة الخامسة مساءً.. وليت الأمر قد توقَّف عند هذا الحدّ، ولكنّه تعاقد مع إحدى المؤسسات، وصار يعمل مترجماً لديها.. أي أنّه لا يوجد عنده فرصة للرّاحة، ولا يعود إلى البيت إلا في ساعة متأخّرة.. وأنا قد سئمت العيش بمفردي في هذا البيت الوسيع.. إني لم أعد أراه إلا عند النوم، لأنّه يأتي مُنْهَكَ القُوى، لا يقوى على التحدث معي، فيُخْلد مباشرة إلى النّوم..
وسكتتْ (نهلةُ) هنيهةً ثمّ تابعت تقول:
- تصوَّري يا أمّي.. منذ زمن طويل لم نسهر مع بعضنا البعض، ولم نتحدّث كما يفعل سائر الأزواج..
كانت الأمُّ تسمع كلام ابنتها، وقلبُها يقطر دماً، حزناً عليها وعلى شبابها الذي بدأ يذبل.. ولكن.. ما الذي تستطيع أن تفعله حتى تعيد الابتسامة والنّضارة إلى وجه وحيدتها التي خرجت بها من هذه الدّنيا؟
وأخيراً قالت لابنتها:
- أرجوك يا ابنتي، فكّري كثيراً قبل أن تقرّري شيئاً.. واعلمي يا نهلة أنّك أنت السّبب في ترك زوجك للبيت.
- أنا يا ماما؟..
ردّت عليها الأمُّ:
- أتذكرين عندما كنت تقولين لزوجك.. إنّ جميع صديقاتك قد تزوّجن من رجال أغنياء، ويملكن كلَّ شيء يحتجْنَ إليه؟ أتذكرين عندما كان سمير مدرّساً فقط، كيف كنت تتذمّرين دوماً من راتبه الضعيف، وتشعرينه بأنّ أزواج صديقاتك أفضل منه، لأنّهم أغنياء وهو فقير؟ أتذكرين..
قاطعتْها نهلة في خجل:
- أنا طلبت منه أن يحسّن من وضعه، لا أن يترك بيته باستمرار.
- وماذا ترينه يفعل؟ هاهو ذا يعمل ليل نهار من أجلك، إرضاء لك.. ولكنّك لا ترضين.. لا يعجبك شيء.. لا يعجبك إذا لم يعمل عملاً إضافياً واكتفى براتبه، ولا يعجبك إذا هو عمل إرضاء لك..
شعرت الأمُّ بأنّها كانت قاسية على ابنتها في هذا الكلام، فاحتضنت صغيرتها وقالت لها:
- أبوك يا نهلة كان دائماً غائباً عن البيت، ولكن ليس من أجل العمل، بل كان يقضي معظم وقته وهو جالس في القهوة مع بعض زملائه، ولا يعود إلا في وقت متأخّر، فاحمدي ربَّك - يا ابنتي - فزوجُك يشقى ويعمل ليوفر لك عيشة هنيئة تنعمين بها..
راجعي نفسك يا بنتي قبل أن تتخذي أيَّ قرار قد تندمين عليه.
مضى على غياب نهلة عن بيتها خمسة أيام، كانت بالنسبة لسمير، كأنّها خمسة أعوام، فلم يعد يطيق العودة إلى بيته، لأنّ البيت من غير نهلة ليس بيتاً.. وأخذ يفكّر في الأيّام الحلوة التي قضياها معاً، وكيف أنّهما تعاهدا على أن يقضيا العمر سويّةً دون أن يفترقا.. وشعر بضميره يؤنّبه على ترك زوجته وحدَها باستمرار، وهو غائب عن البيت، فقرَّر بينه وبين نفسه أن يتفرّغ لزوجته وبيته وقال في نفسه: يكفيني العمل في المدرسة والمكتب، وبهذا سوف يكون لديّ وقت للجلوس في البيت مع نهلة.
أمّا نهلة، فعندما سمعت كلام أمّها، أخذت تفكّر فيه مراتٍ ومراتٍ. وأخيراً قالت في نفسها: إنّ أميّ على صواب.. فأنا السّبب في غياب سمير عن البيت، وسوف أعمل جهدي لكي أجعل سميراً سعيداً.. وأشعره بأني لست متضايقة من عيشته البسيطة..
ثم انطلقت نحو أمّها التي كانت تعدُّ طعام الغداء، وعيناها تشعان بالسعادة والرضا، وعلى شفتيها ابتسامة حلوة وقالت:
- ألم يتّصل سمير اليوم يا ماما؟..