السـّـاعة المنبّهة

السـّـاعة المنبّهة

بقلم :د.طارق البكري 

تقلصت كل الرؤى والأحلام على وقع رنين المنبه المزعج، الذي لا يريد أن يهدأ ولا أن يخرس...

 فاتح فمه مثل حيوان مفترس يصيح بفريسته، أنا.

تسارعت الأفكار المبهمة على وسادة صفراء مضطربة كجسد يحتضر...

نبشت صيحات السّاعة المنبّهة، المسندة إلى طاولة جانبية بالقرب من سريري، حطام رأسي، شكّلت منه فسيفساءً عملاقة لا تنتمي إلى دنيا الفن بشيء، تشذّ حتى عن السّريالية في عالم  من اللامعقول، يحجب دهشة النظرة الأولى..

ضربة واحدة، سريعة خاطفة، كانت كافية لتحلّق السّاعة نحو الجدار الصلب، فتسقط متفتّتة مبقورة البطن، بارزة الأمعاء، تلفظ بقايا  العقارب المؤذية، ويتناهى إلى الأسماع أنين الجرس المزعج... وكان الصمت إعلاناً عن موت السّاعة المنبّهة، لتصبح من الآن  فصاعداً جثّة هامدة  لا حياة فيها..

هو تمرّد، ثورة، اعتراض، سمّه ما شئت.. هذه حياتي لي أنا وحدي.. متى شاركتني فيها السّاعة حتى تحدد لي خياراتي؟.. تتحكم بأنفاسي.. بأوقاتي.. لا أريد بعد اليوم وقتاً، أريد العيش خارج الوقت.. خارج الزمن..

أكره الساعات..

 نعم، أكره كل أنواع الساعات الرخيصة منها والباهظة الثمن، لم أنسج معها في أيّ أيام حياتي علاقة تناغم وتفاهم، حتّى إنّي لم أحمل في معصمي  ساعة إلا اضطراراً؛ بعد أن كبرت وشاب نصف شعري وباتت طبيعة عملي تلزمني بذلك.

منذ طفولتي والسّاعة تشكل هاجساً لي..

كانت توقظني من أحلامي الصغيرة وتقذفني في الشوارع الضيقة، نحو المدرسة،  التي كانت عقارب ساعاتها تمضي مثل السلحفاة المسنّة... لم تكن السّاعة تتحرك بسهولة...

عندما كبرت اعتقدت أني تخلصت من هواجسي وجنوني، لكن ظلّت السّاعة ذلك الوحش الذي ينقضّ على كل شيء جميل أحبّه،  وكلّ اللحظات الرائعة التي أعيشها، فيما كانت تسير ببطء فظيع في كل أمر أودّ أن أنتهي منه بسرعة..

اليوم، فجأة، ودون سابق إنذار؛ أعلنت تمردي على كل العقارب، الصغيرة منها والكبيرة... لا أدري كيف جاءتني الجرأة.. لم أكن يوما بهذه الشجاعة.

سأحطّم كلّ ساعات المنزل.. لا، بل كل ساعات الدنيا، أريد أن أحيا هكذا  من دون زمن، أنام عندما أريد، أصحو عندما أحب، أخرج إلى عملي وقتما أشاء، آكل وأشرب وأعيش بتلقائية بالغة..

 بصراحة.. لقد أعلنت إفلاس الزمن...

 أنا لا أريد الالتزام بحركات العقارب وسكناتها، كأنني رهينها...

أسير بين دقّاتها ورنّاتها...

أدور ـ مثلها ـ في حلقة فارغة...

أعيش بين أرقامها وعقاربها، كمن يحيا في جحر العقارب والأفاعي.. فهل يعقل أن أعيش بين العقارب؟ مستحيل ! هل أنا مجنون إلى هذا الحد؟

مجرد التفكير بالسّاعة ودقّاتها يولّد في سريرتي شيئاً من الرعب المجنّح. تكتكاتها ورنّاتها مثل قصف الصواريخ وأزيز المدافع..

 حتى أجمل السّاعات  تبدو لي دميمة قبيحة، لا أجد لها وصفا في الطبيعة...

هناك عداوة مزمنة بيني وبين الزمن، لم أتغلب يوما على هذه العقدة..

لكن هل سيسمحون لي بذلك؟

هل يقبل أحد بهذا التمرد؟ سأطرد من عملي دون شك... لن يلتزم أحد معي بموعد للقاء.. فأنا متمرد ضد الزمن..

وهل سيسكت عليّ الزمن؟

سيفضحني أمام المكان واللامكان.. سيقودني حتماً في طرقات لا زمن فيها.. ربما أعرى.. أجوع.. أتشرّد !

لا بأس.. سأواصل الاعتراض حتى يرضخ لي الزمن ويستسلم.. لن أتنازل عن آخر ثورة لي.. حتى هذه الأحلام لن يسمحوا لي بها؟!

 

******

فجأة...امتدت يد أمي بحنان.. أيقظتني من سبات عميق وأحلام فاتنة...

 قالت بحب :

" هيا يا ولدي لقد طلع الفجر.. انهض للصّلاة قبل طلوع الشمس من مرقدها".

نهضت مسرعاً.. رمقت السّاعة التي لا تزال في مكانها مسنّدة ـ هناك ـ على طاولة جانبيّة، أسرعت إلى الوضوء وكتفي لا يزال يشعر بتربيت  يد أمي.. الأجمل بكثير من رنين الساعة المنبهة