يحدث في بلد الواق واق

يَحْدُثُ في بِلادِ (الواق .. الواق)!..

بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف

الليل يُرخي أجنحتَه على البلدة الصغيرة الهادئة، الغافية على سفح (جبل الرمّان) الشاهق!.. والظلام يخيّم على فضاء المكان الذي نجلس فيه، فيتغلغل في كل زواياه، سوى ما يبدّده الضوء الخافت المشعّ عن قنديلٍ عتيقٍ يتدلّى، من سقف الغرفة المنخفض المشيَّد بالخشب والطين وصفائح التوتياء المعدنية!..

الليل يُرخي أجنحتَه على البلدة الصغيرة الهادئة، الغافية على سفح (جبل الرمّان) الشاهق!.. والظلام يخيّم على فضاء المكان الذي نجلس فيه، فيتغلغل في كل زواياه، سوى ما يبدّده الضوء الخافت المشعّ عن قنديلٍ عتيقٍ يتدلّى، من سقف الغرفة المنخفض المشيَّد بالخشب والطين وصفائح التوتياء المعدنية!..

رشف محدِّثي المفتّش (سلطان) رشفةً من كوب الشاي الدافئ، ثم نظر إليَّ محدِّثاً، بكلماتٍ لا تجد صعوبةً في اختراق سحابة البخار المنبعث عن إبريق الشاي الساخن، فوق مدفئةٍ منتصبةٍ بيني وبينه، تلتهم نارها قطع الحطب الكبيرة المقذوفة في داخلها، فينتشر الدفء في أرجاء الغرفة الطينية الضيّقة!..

كان محدِّثي عضواً في إحدى لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في بلاد (الواق .. الواق)، وفي إحدى جولاته التفتيشية داخل أحد المصانع هناك، عثر على رسالةٍ في المكتب الرئيسيّ للمصنع، موجَّهةٍ من أحد الموظّفين المهندسين .. إلى إدارته!..

يقول محدِّثي: إنه دُهِش لما تضمنّته الرسالة الطويلة من حالةٍ إنسانية، يمكن أن تحصل في كثيرٍ من بلدان العالَم .. ولِما احتوته من مفارقاتٍ تستحق الدراسة والتأمّل!.. فقد كان المهندس -كاتب الرسالة- على ما يبدو، من أقرب المقرَّبين إلى إدارة المصنع، لما كان يبذله من جهودٍ استثنائيةٍ في عمله، ولِما يتمتّع به من حرصٍ وإخلاصٍ للمؤسّسة التي يعمل فيها!..

يتابع محدِّثي المفتش (سلطان)، الذي أخرج من محفظته مجموعة أوراقٍ وأخذ يقلّبها قائلاً :

استمع يا صاحبي إلى هذه المقاطع المترجَمَة عن لغة (الواق .. الواق)، مما ورد في خطاب ذلك الشخص المهندس صاحب الرسالة الموجّهة إلى إدارة المصنع الذي يعمل فيه :

[.. لم أكن أقصد إزعاجكم أيها السادة، لكن ما قمتم به مؤخراً نكأ في نفسي جراحاً، وأصابني بصدمةٍ لم أستطع التخفيف من ذيولها إلا بالكتابة إليكم، فقد آلمني أن تقوموا بسنّ القوانين وإصدار القرارات التي تفصّلونها على مقاساتكم!.. وإنّ ما قمتم به من تنظيمٍ لعملية الزيادات في رواتب الموظّفين لديكم .. قد لا يكون عليه غبار، لكن أن تنفّذوا قانونكم بمزاجيةٍ ومحسوبيةٍ، على أنفسكم وأخِلاّئكم وحسب .. فهذا لَعَمري مما يستحق المناقشة، بل الاحتجاج!..

تعلمون -يا سادة- أنكم مؤتمَنون على مال الأمّة، وأنكم أقل الناس عملاً وبذلاً للجهد في هذه المؤسّسة، وأنني أحد الذين يبذلون جهداً يعادل مجموع جهود خمسةٍ منكم، ولا أرغب أن أذكّركم بعباراتكم البرّاقة، وكلماتكم الجذّابة حين وقّعتم عقد العمل معي، ويكفي أنّ بعضكم كان يلقبني بالجنديّ المجهول، أي الذي يعمل ويعمل من غير حساب، ويبذل الجهد الكبير لإنجاح أعماله!.. ومع ذلك لم يسبق لأحدكم أن وجّه إليّ كلمة شكرٍ واحدة، في أية مناسبةٍ من مناسبات النجاح أو الإنجاز، بل كان معظمكم ينسب الإنجاز إلى نفسه، مستغلاً حالة (الجنديّ المجهول) الصامت المذكورة!..

كنت صامتاً طوال سنواتٍ، على أساس أنّ حالنا كلنا واحدة، تجمعنا ونصبر عليها معاً في خدمة المؤسّسة والوطن، لكن عندما اطّلعت على قانونكم الأخير، ثم على خطوات تفصيل مضمونه وفق مقاساتكم وأمزجتكم .. أخذت أفكّر بالأمر مليّاً، لما يشكّله ذلك من فضيحةٍ مجلجلةٍ، تكشف زيف دعاويكم العراض، عن حقوق الإنسان، والمساواة، والعدل، والرخاء، والنـزاهة، والتكافل، والحياة الكريمة!..

لقد قمتم يا سادة -حسب قانونكم- بتصنيف الناس العاملين في المؤسّسة، إلى فئاتٍ حسب الحروف الأبجدية الثلاثة الأولى للغة (الواق .. الواق)، واقتسمتم -بناءً على ذلك- العلاوات والأموال وأنتم لا تستحقّونها، وحجبتم ذلك عن الذين يستحقونها من العاملين، بمن فيهم الجنديّ المجهول، الذي كنتم تصمّون أذنيه بهذا اللقب الكبير، إلى أن وجد نفسه مع أمثاله من العاملين المجدّين -بفضل نزاهتكم- خارج كل حروف الأبجدية!..

تعلمون -يا سادة- أنّ ما يبقى لي من راتبي شهرياً، بعد حذف قيمة إيجار البيت الذي أسكنه، هو مبلغ (181) حِيلة (الحِيلة هي وحدة النقد الرسمية المتداولة في بلاد الواق .. الواق)، أصرفها -شهرياً- بالشكل التالي:

(50 حِيلة)، للكهرباء والمياه والهاتف، و(30 حِيلة) قيمة أجور مواصلات يصرفها ابني البكر وابنتاي الكبرى والصغرى للذهاب إلى المدرسة والعودة منها، و(30 حِيلة) قيمة محروقاتٍ وغاز، و(15 حِيلة) قيمة القسط المدرسيّ الشهريّ لابني الأصغر، و(10 حِيَل) متوسّط مصروفات أدوية ومواد صيدلانية، و(15 حِيلة) مجموع المصروف الشهري الذي يحمله الأولاد الأربعة معهم إلى المدرسة، و(11 حِيلة) قيمة منظّفات وصابون وجريدة يومية محلية واحدة .. وهكذا يكون مجموع ما أصرفه شهرياً هو: (161 حِيلة)، فيكون مجموع ما يبقى لديّ شهرياً لصرفه على بقية الأمور المعاشية الأساسية الكثيرة، بما فيها الطعام والشراب: (20 حِيلة) فقط!.. ماذا أفعل بهذه الحِيَل العشرين؟!.. لا خِيار لدي، أصرف منها (7.5 حِيلة) ثمن خبزٍ لشهرٍ كامل، و(12.5 حِيلة) ثمن عشرة أطباقٍ من بيض الدجاج الرديء، نلتهمها على مدار الشهر، بواقع عشر بيضاتٍ يومياً لكل أفراد الأسرة، وعددهم ستة (الوالدان والابنان والابنتان)!.. وكما تلاحظون، فلا قوت لنا إلا هذا اللون الواحد من الطعام (البيض) منذ سنوات، وبهذا المقدار وحسب!..

كنت -يا سادة- أتحمّل ضيق الحال لسببين رئيسين، أولهما: أحاديثكم التي لم تكن تنقطع عن التضحية في سبيل المؤسّسة والوطن، وثانيهما: عدم وفرة المال والموارد لدى المؤسّسة، كما كنتم تزعمون!.. لكن بعد أن حصل كل منكم مع بعض أخلاّئكم على علاواتٍ وزياداتٍ كبيرةٍ لراتبه الشهريّ .. سقطت ذرائعكم ومبرّراتكم، وانكشفت نواياكم ومقاصدكم، واكتشفت كم أنا طيّب القلب عندما كنت أصدّقكم، وأتحمّل مع أسرتي الجوع والبرد وضيق الحال، بكل أخلاقٍ وطنيةٍ .. ورياضيةٍ .. فحرمتُ أسرتي من مختلف أنواع الحاجات الأساسية، ومن ألوان الطعام، وحتى من الخضار من مثل: البندورة والخيار والبصل .. وما شابهها من الكماليات المكلِفة!.. وكنت حين أفاجَأ بمصروفٍ إضافي، أعمل على تأجيله، إلى أن أصبحتُ مع أسرتي نعيش بين ركامٍ من قطع الأثاث الخَرِبة المعطّلة عن العمل .. فإذا ما توقّفت الثلاجة عن العمل في الشتاء مثلاً، نؤجّل إصلاحها إلى الصيف، وحين تتعطّل الغسّالة في الصيف، نؤجّل إصلاحها إلى الشتاء!.. ثم يأتي الصيف ويعقبه الشتاء من غير أن نقدرَ على إصلاحهما .. وهكذا ..!.. وأما عن مصروفات الأولاد من أثمان الكتب والدفاتر والورق والقرطاسية والأقلام و.. فحدّثوا ولا حرج، وأما عن الأعياد ومصروفاتها .. وأما عن الملبس ومصروفاته .. وأما عن .. وعن .. فالحديث يطول .. ويطول، والقائمة -كما تعلمون- طويلة!.. وباختصارٍ شديدٍ -أيها السادة-، عندما يدهمنا مصروف مفاجئ من ذلك الذي ذكرت، نوفّره من بند الكهرباء مثلاً أو من المياه أو الهاتف .. وكم قُطِعَت عنا كل هذه الأمور، لأننا لم نتمكّن من دفع فواتيرها!..

أنتم تعلمون -يا سادة- أننا لو رغبنا بالعيش كما يعيش البشر، فإنّ لكل بيتٍ حاجاته الأساسية الكثيرة، لكن توفير الحد الأدنى منها، لا يكفيه ضِعفا الراتب الذي أتقاضاه من مؤسّستكم، فكيف رَضِيَت نفوسكم وضمائركم بسنّ قانونٍ مفصّلٍ على مقاساتكم، ومقاسات من تنطبق عليهم مزاجيّتكم وحسب؟!..

لن أطلب منكم الكثير -أيها السادة-، فأنا أتوجّه إليكم بهذا الخطاب، ولا يهمّني -حين تقرؤونه- هل ستكون في فم كلٍ منكم تفاحة أو ثمرة موزٍ أو حبّة كستناء .. ولا يهمّني إن كان أحدكم -وهو يطالع خطابي هذا- جالساً على أريكته الحريريّة، يلفّ ساقه اليسرى على اليمنى أم يلفّ ساقه اليمنى على اليسرى .. ولا إن كان مسترخياً على كرسيّه الهزّاز، يستمع إلى شريطٍ رومانسيٍ مسجَّل .. أو إن كان يحلم أحلام اليقظة وهو يقود سيارته (الأوتوماتيك) الفارهة .. أو إن كان منشغلاً بإحصاء نقوده التي قبضها بموجب القانون الأخير .. كل ذلك لا يهمّني!.. الذي يهمّني وحسب، في هذه الأيام الحاسمة والظروف الصعبة، هو أن تتكرّموا باتخاذ قرارٍ طارئٍ، لتوفير ستين بيضة دجاجٍ لأسرتي كل شهر، بمعدّل بيضتين يومياً!.. فقد فاتني أن أخبركم في بداية رسالتي هذه، أنّ الدجاجتَيْن اللتين كانتا تعيشان معنا في البيت، وتوفّران لنا بيضتين يومياً، لنضيفهما إلى ما نشتريه من بيض السوق .. قد فارقتا الحياة منذ يومين جوعاً!..

أنتم -أيها السادة- ستة أشخاص، وليس صعباً على كلٍ منكم أن يوفّر لنا عشر بيضاتٍ في الشهر، تتناوبون على ذلك، كل منكم يوفّر لنا بيضتين اثنتين كل ستة أيام، فهل هذا كثير عليكم؟!..

ما شجّعني أن أطلب منكم طلبي الملحّ هذا .. سببان، الأول: أنّ ثمن البيضة الواحدة زهيد، لا يتعدى خمس فضائح (الحِيلة تساوي مئة فضيحة، في التعامل النقدي لبلاد الواق .. الواق)، وأعتقد أنه بعد القفزة الأخيرة في مخصّصاتكم وعلاواتكم -التي وفرّتموها لأنفسكم ومقرَّبيكم حسب القانون الجديد الذي وضعتموه بأيديكم- قد أصبح لديكم فائض من القطع النقدية من فئتي: الحِيلة والفضيحة، فأصبحتم تملكون من الحِيَل والفضائح الكثير!.. أما السبب الثاني: فهو أنكم لم تكفّوا عن البَيْض علينا طوال سنوات العمل معاً، فقد كنتم تبيضون علينا وطنيةً وديمقراطيةً ومساواةً وعدلاً وحقوقَ إنسانٍ وشهامةً وتكافلاً و.. ومَن يبض علينا كل هذه المبادئ .. فلا بدّ أنه لن يعجز عن أن يبيضَ لنا بيضتين كل ستة أيام!..

كنتم -يا سادة- تبيضون (علينا) طوال سنواتٍ خَلَت، فهل تعجزون عن أن تبيضوا (لنا) الآن، لتعويضنا كل يومٍ بيضتي الدجاجتين الراحلتين؟!.. وهل من المعقول أن يعجزَ الذي يبيض عدالةً ونزاهةً وأمانةً كل ساعةٍ .. عن أن يبيضَ بيضة دجاجٍ واحدة فقط كل ثلاثة أيام؟!.. فهل تتكرّمون وتُلَبّون هذا الطلب المتواضع؟!..]. ا.هـ

تثاءب محدِّثي المفتش (سلطان) .. ثم رشف رشفته الأخيرة الباردة من كوب الشاي الذي بيده اليمنى، وسألني محاولاً السيطرة على قشعريرةٍ تخترق جسده :

برأيك يا صاحبي العزيز (فهد)، هل استخدَمَتْ إدارة المصنع أسلحة تدميرٍ شاملٍ أم لا؟!.. ماذا أسجّل في تقريري إلى لجنة التفتيش؟!..