هدية مباركة
بقلم: نعماء محمد المجذوب
كان الطرق على الباب متسارعاً، فتحته، ألقت برأسها المثقل بالهموم فوق كتفي، كطفلة، مفجوعة، ونشيجها يشتدّ مع دموعها التي تنهمر بغزارة، وصوتها مخنوق لم تستطع إفلاته من حلقها... جذبتها إلى الداخل، شعرت بحاجتها إلى العطف، بصوت متقطع، يلفه الحزن، سألتني:
- هل أحضرت لك شيئاً؟.. ربما أكون ناسية، ذكريني.
هززت برأسي نفياً، وقلت:
- لا، لا أذكر، بل لم يحصل.
- تذكري جيداً.. أساور من ذهب، ونقود، وما شابه ذلك.
باستغراب قلت:
- أتمزحين؟ ليس لي علم بأي شيء من هذا القبيل.
ثم أخذتني الذكرى إلى يوم أمس، لم تتح لي الفرصة لأخبرها، عندما أتتني ابنة خالها تطلب الأمانة التي أودعتها عندي فاطمة، فلم يكن لدي ما سألت.
كان تعرفي بفاطمة في مسجد قباء..... لفت نظري تطلعاتها المتفحصة للوجوه، والأمكنة، كأنها تستشف منها ملامح بعيدة، تغوص في أعماقها.
بشيء من الفضول سألتها:
- هل تبحثين عن شيء؟
- فقط فرحة، ومتلهفة.
كانت البهجة تبدو في وجهها، وقطرات من الدموع تتساقط من عينيها.
- هل من المدينة أنت، أم أتيت لتعتمري؟
- أنا من هنا، ولست من هنا.
- ألغز هذا؟
- أكثر من لغز... حكايتي طويلة، وذكرى عميقة منذ طفولتي.
أحسست بتحيرها، في صدرها أمور مكتومة، تريد أن تنفضها، دعوتها لزيارتي، وأنا أقول:
- نحن غريبتان، أنا من الشام، وأنت؟
- من المدينة، ومن دمشق.
دهشت من قولها، وقلت:
- أيمكن أن يكون الإنسان من مكانين متباعدين في آن واحد؟
- هي الحقيقة، صدقيني.
في جلسة هادئة، أخذت تسرد علي شيئاً من حكايتها، منذ غادرت المدينة المنورة مع أمها، ولم تتجاوز الرابعة من عمرها.
تنهدت، وهي تحدثني قائلة:
- كانت المدينة يجتاحها قحط شديد، جفت منه الضروع، وهلك جم غفير من الناس، فرأى أميرها أن يرحل من يستطيع إلى بلاد الشام.
كان القطار ينساب فوق ضفتي سكة الحديد، يشحن الفارين من البلاء، والموت المتربص بهم، كان من بينهم أمي، تحتضنني، تعللني باليسير من الطعام، وبحكايات مبهجة عن الشام وأهلها، ومن حين إلى آخر تصاب بإغماءة، تفيق منها على صوتي، أصرخ من الجوع، والعطش، لكن الطعام قد نفد، الطريق طويلة، وأمي ذات حياء.
ثم يحط القطار في دمشق، والركاب يترامون سراعاً في كل اتجاه، ويلجأ الكثير إلى سوق الحميدية، ويتبعثرون فيه، يحتمون بسقفه من حر الهاجرة، ويهرع أهل الخير يزودونهم بالطعام، ويغيثون الملهوفين.
قلت:
- يبدو أن أهل دمشق كانوا على علم بالظروف القاسية التي تمر بها المدينة، وما جاورها.
- أجل، كانوا قد علموا مسبقاً بالأمر.
تابعت، فقالت:
- كانت أمي ملفوفة بعباءتها، وقد أنهكها الجوع، والتعب، فتهالكت فوق الرصيف... التصقت بها أهزها، وأصرخ، وأبكي بمرارة.... ثم تغيب الأنوار، وتهدأ الدروب، وأنا أتشبث بها في عواء، ولهب.
وجدتها تغطي وجهها بكفيها، وتستعيد عيناها نشاطهما بالبكاء، لمجرد الذكرى، قلت أهدئها:
- جففي دموعك.. وتابعي.
قالت:
- ما أكرم القدر، وما أكثر المخلصين لله!.. شاهدني أحدهم، حملني بين ذراعيه بحنان، وألقى علي أسئلة مقتضبة.
- ما اسمك يا صغيرة؟
- فاطمة.
- وما اسم أمك؟
- مريم.
- وأبوك؟
تحيرت، كان أبي قد توفي أثناء القحط والمجاعة، تلعثمت، وقلت:
- خالي حمد الحمد، بيته في قباء
اقترب من أمي، وجدها لا حراك بها، قد فارقت الحياة، احتفظ بالمعلومات، وجرى بي، عند مدخل بيته، نادى بصوت مرتفع:
- فريحة، تعالي وافرحي.
هرولت زوجته، وهي تجفف يديها بأطراف ثوبها، وبلهفة تسأل:
- ما بك يا محمود؟
- جئتك بهدية مباركة من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- يا إلهي، طفلة صغيرة كالقمر.
ضمتني إلى صدرها بحنان دافق، أطعمتني، كستني، هيأت لي ما يلزم، وحكت لي حكاية تهدهدني بها كي أنام. واحتفظت بالمعلومات في خزينة البيت.
- شيء جميل جداً.
- ما كان لفريحة من طفل يؤنس وحدتها، ويزيل وحشتها، وقد يئست من الإنجاب.. وتتم المعجزة، وتحمل المرة تلو المرة، ويكون لي إخوة ثلاثة، وفي كل مرة تزداد تعلقاً بي، وحباً، ورعاية، وتنظر إلي هبة مباركة من السماء، من مدينة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.
هكذا ترعرت بين أم حنون، وأب عطوف، في بيت واسع، وثراء وشجر مثمر، وطيور تغرد فوق الأغصان، وحمام يطلق هديله الرقيق في الأجواء، وبركة في وسط الحوش تحيط بها أصص الأزهار، كل ما في البيت كان جميلاً، مؤنساً، رحباً، وكانت السيدة فريحة تعاملني كأولادها تماماً، وأنا أعتاد هذا الجو الأليف، ومع مرور السنين، يرسخ في ذهني أن فريحة أمي، ومحمود أبي.
وتنفجر فاطمة بالبكاء حين تمر بها ذكرى نزلت عليها كالصاعقة، سألتها بارتباك:
- هل من شيء آخر؟... ما ذكرته كان جميلاً حقاً، لم يفاضلوا أطفالهم عليك، في المعاملة، والنشأة، والتعلم، ولم يكن صراع بينكم.. عائلة تحمل معاني الإنسانية، والتقوى والورع، بالإضافة إلى النظرة المتميزة، يرون فيك فألا حسناً، وهدية مباركة.
بحزن، ونبرات متهدجة قالت:
- نعم، نشلتني هذه العائلة الكريمة من الضياع، والتشرد، عشت عندها تعطيني، ولا تمنع عني، وعلمتني أمور ديني، ثم..
- ثم ماذا بعد هذا النعيم؟
- بدأ عذابي وصحوت على الحقيقة، حين أخبرتني التي كنت أناديها بأمي، بمنتهى الرقة، والتأني عن حقيقة أصلي، كانت صرخة مدوية في صدري مزقت مشاعري، وشتتتها.
قلت بسرعة:
- طوت السيدة فريحة السر كل هذه السنوات؟
- إلى أن أصبحت في سن الشباب، ووجهتني نحو الحجاب ممن كنت أعتقد به أباً.
لم يخطئوا عندما أعلموني بحقيقة جذوري الكائنة في المدينة المنورة، ولكنها كانت صدمة، استدعتني بإلحاح للبحث الدائب.
تابعت بتأثر بالغ:
- الحقيقة أربكتني، وتضاربت الهواجس في نفسي، وكأنني في سفينة تؤرجحها الريح، لا تقر على قرار.
صرت أبحث في الوجوه عن وجه من المدينة، لأسأل عن خالي حمد الحمد، ثم أرتد خائبة، وأتساءل بحيرة: إلى متى وأنا في هذا الصراع النفسي؟
تزوجت، وأنجبت، وبقي الحنين يشدني إلى المدينة المنورة، وتتعثر زيارتي لها، إلى أن رأف بي القدر، ويسر لي ما أريد.
هيجت المدينة مشاعري، وألهبت عواطفي، تحثني للوصول إلى هدفي المقصود في لقاء الأهل، لا ألوي على شيء غيره، كان في صدري ثراء عاطفي، ينمو مع العمر والسنين نحو جذوري.
قلت:
- قد تخطاه الزمن، نتيجة لدفعة الحياة مع أولادك، والأحداث المتلاحقة.
- ولكن صدري يشي بتمسكي به، وحلمي بلقاء الأقرباء، فتتكاثر أحلامي في اليقظة، وتثار بي الرغبة للانضمام إليهم، وأنسج فيها خيوط حلمي كمراهقة، فلم أستطع أن أتعامل مع الواقع إلا باعتباره صدى الحياة الغامضة على وجداني.
- يبدو أن معرفتك للحقيقة أضرتك، أكثر مما أفادتك.
قالت مؤكدة:
- إن الإنسان سيظل دائماً في حاجة إلى التعبير عن ذاته، من خلال جذوره المتأصلة، والتنفيس عن آماله، وآلامه الخاصة.
تنهدت وهي تتابع قولها:
- كان حلمي الكبير، والجميل أن ألتقي أهلي، وكان يتردد في خاطري ذكريات أرددها في حنان، وود، رغم أن أسرة السيد محمود، كان لها الأثر في حياتي، وسلوكي، وكانت السيدة فريحة نموذجاً في الورع والتقوى.
كنت أنفرد بعد هذا النبأ بنفسي أياماً طويلة، أنبش من الذاكرة خيال أمي، وأناجيه، وفي سوق الحميدية أتأمل حركات الناس، ووجوههم، وأسأل عن خالي علََّ، وعسى أن يعرفه أحد.... فكرت في السفر إلى المدينة، وأكد نيتي رؤيا رأيتها، فحزمت أمري مع مجموعة ذاهبة للعمرة، وأنا آمل أن أجد في المدينة ترجمة لأشواقي.
وبعد بحث وسؤال، تعرفت على خالي حمد، كان رجلاً مسناً، استقر مع أسرته في حارة قرب مسجد قباء، ورحب بي بلهفة فائقة، وذكر لي رعايته لي بعد موت أبي، ونطق باسم أمي بتأثر، وبصوت بالغ الحنان، بينما حاول بعض الأهل تناسي تلك الحقيقة، وتجاهلها.
قلت بألم:
- أتصور شعورك الحزين، ووجع نفسك.
- كان مجيئي مفاجأة دون دعوة، وإن كان ذلك أمراً غريباً. وكنت أتوقع أن أحظى بسنوات من السعادة في المدينة، ألتقط خلالها أنفاسي من ضغط الشعور بالوحشة، والغربة، منذ علمت بالنبأ، وبسرعة فائقة، ولكن الأمر تحول إلى سلوك عدائي، وأدى إلى نوع غير متوقع من الأذى، وتحوَّل الأهل الصديق إلى عدو، وأرادوا أن يتخلصوا مني، ومن ثم أمضي لحال سبيلي.
أردت أن أعبر عن نشأتي في بيت العز، والكرم، والتقى، وأفيد مما عندي، ولكنهم تذمروا مني، واعتبروه تطفلاً، وتدخلاً، ومن ثم استمر الصراع المحتدم بين التقاليد، والعادات، وفوت علي أن أنعم بفترة من الراحة، وأصابني الإنهاك مما تحملت من جور اتهامهم لي، وأخذتني الدهشة من افترائهم، وبكل أسف كنت أعيش وسطهم في ظلام مشاعري.
صمتت برهة، ثم قالت:
- كنت أنتظر شروق الأمل، ولكن الأمل خيب ظني، صرت أطير بأجنحة كخفاش ليلي، منذ أن علمت ضياع أملي.
سألتها:
- ما موقف خالك؟
- كان يبسط علي حمايته من أقوال الزور، ويرد عني الأذى ما استطاع، حتى اعتلت صحته.
- أتيت إلى المدينة حاملة معك نداوة الغوطة الدمشقية، ورائحتها في عروقك، وفوجئت في بيت الأهل بالمشاعر الجافة... أشفق عليك من هذه المعاملة التي أشعرتك بالغربة معهم، رغم أواصر القربى، فجذوركم واحدة، كأصل نخيل المدينة، انضممتِ إليهم لتبدّدي غربتك، ووحشتك.
قالت بتأثر:
- الوحشة تأكل روحي، وأنا بينهم.
برأفة قلت:
- بددّيها بحبك، وبالكلمة الطيبة.
- أفعل، والله أفعل دائماً ذلك، أريد أن أشدهم إلى ذكريات موغلة في البعد، لأكبر من خمسة وثلاثين عاماً.
- ولكن الظروف تغيرت يا فاطمة، وتآكلت الذكريات، وبقيت متجددة، راسخة في أعماقك، ذكرياتك تخصك وحدك، وتتساقط من أرواحهم، تغيرت حياة الناس، وماتت أشجار، وبزغت براعم، بقي خالك المسن، سيهوي هو الآخر كشجرة عجوز.
- أتيت جاهدة للتكيف معهم، ولكن أشعر بأن جذوري تنبذني، وتتخلى عني.
تأوهت بمزيج من الحزن، والفرح حين تصورت أن في الشام من يشدها بحبه، وحنانه، العائلة التي رعتها، وأولادها في انتظارها.
قلت:
- لم التعلق بما صار وهماً، أو سراباً؟
بأسف قالت:
- هل أندم على مجيئي إلى هنا؟.. لست أدري، أخشى أن يغشى الندم جوانحي، ويملأ الأسى قلبي.
بهدوء قلت:
- الاتهام كان كخطوة أولى في الضغط عليك لترحلي.
بضيق قالت:
- أبعد لمّ الشمل يحصل الشقاق والفرقة؟... كنت كالفراش تنخدع بحسن النار، فإذا البؤس ينالني منهم، لم أكن أعلم أن الوحش يسكن في داخلهم.
كان الافتراء عبئاً ثقيلاً على نفس فاطمة، أتتني وهي في حاجة إلى من يواسيها، ويخفف عنها، أوشكت أن تتحطم، كيف يعرف الناس براءتها، ولم تحسب لما زوّروا، ولا خطر على بالها.
كان منظرها يوحي بالضائقة الشديدة في روحها، من كيدهم، ومكرهم، فكنت أسرّي عنها، وأونسها بكلماتي، وأطمئنها، ومن حين إلى آخر تضرب بكفيها، وتصرخ:
- أيمكن أن أكون كما قالوا؟ أيمكن أن أخون العائلة، وأنكر فضل تربيتهم علي؟ إن هذا أمر يثقلني، ويهدّ نفسي.
بقيت ألسنتهم تواصل التهم دون هوادة، حتى جعلتها تدخل في قفص الاتهام رغماً عنها، وتتبارى في الدفاع عن نفسها، ضد الافتراء الذي هوى فوقها، ليس لها سلاح إلا الحب، والشوق زرعتهما الغربة. والحنين وذكريات الطفولة البعيدة، ثم تفيق على الحقيقة المفزعة، عند هؤلاء الأهل الذين يفتقدون أقل موازين العدالة، في الوقت الذي تقبل عليهم بأجمل معاني الحب، والاشتياق.
أرادت أن تنقل إليهم حضارة الشام، فكانت كمن ألقى الحجارة في بركة ماء آسن، وسمع لغط الضفادع المذعورة.
قالت لي:
- أول ما جئتهم، كانت الفرحة بادية على وجوههم.
قلت وأنا أضحك:
- اعذريهم، فقد ملّوا الفرحة.
-- لم أختر الحياة على هذه الأرض، أو في هذا البيت الذي جرحني، بعد أن كنت أعشقه، وأحلم بالذوبان بين أهله، ولكن كان نصيبي منهم العذاب المثقل بالشجن، كان شجناً عذباً، وموجعاً في آن واحد.
قلت:
- انسي ما كنت ترغبين في معرفته، وعيشي على الذكرى، على جنتك المقهورة.
قالت، والدمع في عينيها:
- كأني وقعت من أعلى الجبل، إلى أسفل الوادي.
- إذا نظرت بعين الإنصاف عذرتهم، ذكراك مهدورة في نفوسهم، من يوم رحيلك مع أمك، ولم يصل نبأ يشدهم إليك.
كانت هذه الزيارة للأهل، علامة فارقة بين الماضي والحاضر من جهة، والمستقبل من جهة أخرى، تركت آثاراً مؤلمة في نفس فاطمة، وسيكون لها آثارها في قلوب من ينتظرونها بلهفة، أدارت فكرة في رأسها، ثم وصلت إلى السؤال:
- ماذا أقول لهم، وأنا آتيهم مرتدية رداء الألم، والخيبة؟.. وقد ألصق بي تهمة دون دليل يثبتها؟
ستبقى لحظة مضيئة في الذاكرة لا تبرحها، أشدها ألماً، فقد أمها، ماتت فوق الرصيف، ملفوفة بعباءتها.
حاولت أن تتمرد على الحقيقة، وتقف وقفات طويلة مع نفسها، والحاجة التي اضطرتها لكبت مشاعرها، وتقنع نفسها، بأن الأهل هم الذين ربّوا، وتعبوا، وأنفقوا.
قلت لها:
- إياك أن تنهريهم، لتقفيهم عن الافتراء المزعج، دعيهم لشأنهم، وتحملي قليلاً، لن يستمروا باتهامهم، إلا إذا نهرتهم.
وأردفت قائلة:
- اهدئي يا فاطمة، وتوجهي بقلبك إلى الله سبحانه، إن هؤلاء لا يستحقون أن تتعبي نفسك من أجلهم، زوري النبي صلى الله عليه وسلم، وتجردي من هذه الأحزان التي علقت بك، ولا تنشغلي بمن شغلت قلبك بهم أكثر من عمرك، وما وجدت غير الصد، وجهي اهتمامك إلى ربك وحده، خالية من كل شيء، وتزودي من مدينة رسول الله بالعبادة، سيفرج الله عنك كل ضيق... الدنيا فانية، وصلتك بربك هي الباقية.
سألت نفسها:
- ماذا دهاني؟ أجئت لأزور الرسول صلى الله عليه وسلم، أم لأسأل عن الأهل؟...
بل لأزور وأسأل معاً.
اتجهت نحو المسجد الحرام، وفي نفسها ود حبيب، وشوق كبير إلى الحبيب المصطفى، فالله سبحانه، رحيم بها، شفوق، عطوف عليها، عالم بمعاناتها.
ذهبت، وأنا أكاد ألمس ما كان يساور قلبها المليء بالأحزان، وأدعو أن يملأه الله إيماناً، وتقرباً له وحده، عسى أن يزيح من صدرها هذا العبء الثقيل الذي أهمّها، ويملأه نوراً إلهياً، فلا يستحق أن تركز صلتها مع ناس جحودين.
بعد أن هدأت العاصفة التي تفجرت خلال وجودها مع الأهل، رفضت أساليبهم، وشقت لنفسها طريقاً جديداً، ولكن لم يمس الكره قلبها، نظرت إليهم نظرة الأم الحانية، التي فقدت حماستها القديمة، ولم تحرمهم من دعواتها، بعد أن كان ينفجر عنفاً، وخصومة في الدفاع عن نفسها، ولم تفقد القدرة على الإفادة، والتوجيه، وإن كان يتراجع شيئاً، فشيئاً، في نقدها لأساليبهم البعيدة عن الدين.
قابلتها بعد أيام، قلت:
- الآن لملمي أشياءك، واذهبي مع ريح الصبا إلى الشام، حيث رعاك الأتقياء المحبون، وقدروا وضعك، ووجدوا فيك الهدية المباركة من المدينة المنورة، أردت أن تزرعي، ولكن كان زرعك في أرض مالحة.. إن أسرتك باشتياق إليك.
كان الوداع للمدينة حزيناً، تعصف في نفسها مشاعر متضاربة، وتتجاذبها عوامل كثيرة، وتتساءل:
أهؤلاء أهلي الذين عشت على ذكراهم، وأمل اللقاء بهم، ويشدني الحنين إليهم؟.. للأسف ما وجدت إلا الصد والنفاق.. أم هم (آل الكزبري) الذين رعوني، واعتبروني الهبة المباركة؟
دموع تقاطرت من عينيها، فيها ألم قسوة الأهل وجفائهم، وألم الحنين والشوق إلى غيرهم.
تساءلت:
- لم أخر القدر زيارتي إلى المدينة؟
هل أعود إليها ثانية؟
سأعود، ولكن لزيارة الحبيب المصطفى.
كان خلف هذا الحزن، يكمن أمل أخضر، ينتظر قدوماً آخر إلى المدينة، تقصد زيارة الرسول والعمرة فقط، فالحياة لا تتوقف، خليط من الفرقة والتلاقي، ومن الإحباط والأمل.