جواز الكلب
جواز الكلب
د. عبد الحق حمادي الهواس
لقد غابت ملامح وجه خالي سعيد من ذاكرتي ، فقد طالت غربته في ألمانيا منذ أن قرَّر مغادرة سوريا إبان انقلاب 1963م وبعد إعلان قانون الطوارئ ؛ مخلِّداً هجرته ، بمقولة مأثورة :
<< لقد دخلنا في نفق مظلم ، والله وحده يعلم أين نهايته >> .
كلّ ما أتذكره هو أنَّ أمي كانت تأتينا ببعض أخباره السعيدة من بيت جدي، ومنها أنه يعيش في مدينة (بون) ويعمل في شركة مرسيدس للسيارات، لكنه وقع بعد ثلاث سنوات بمشكلة أتعبته كثيراً حين أراد تجديد جواز سفره ، فقد رفضت السفارة السورية طلبه ، وطلبت منه أن يسافر إلى سوريا لتجديده . وعلمتُ أنه قد تعرض لأكثر من تهديد لخوفه من السفر إلى سوريا .
لكن خالي كان دائماً حاضر الحل كلما استشعر الخطر ، فما كان منه إلاّ أن تزوج من فتاة ألمانية فاستحق بذلك الجنسية الألمانية منهياً بذكائه معاناته وخوفه .
أنجبت له هذه السيدة الفاضلة ولداً ، فأسماه أسعد لعله يكون أكثر منه سعادة وأسعد حالاً وحظاً .
وشاءت الأقدار بعد خمس وعشرين سنة أن ألتقي ابن خالي العزيز مغتنماً وجودي في إحدى الدول العربية حيث أعمل بها مدرساً .
طلبت منه أن ينزل ضيفاً في شقتي المتواضعة ؛ لكنه اعتذر مني بلباقة عالية ؛ لأنه يرغب بشقة تحتوي على حديقة لأجل كلبه من نوع (ولف دوك) والذي أطلق عليه اسم (هيرو) ، وكان له ما أراد فقد حصل على مبتغاه في شقة فارهة بمبلغ ألف وخمس مئة دولار أمريكي لشهر واحدٍ ثم اشترى سيارة جميلة تعينه على تنقلاته في الأماكن السياحية .
وبعد ثلاثة أيام من وصوله رن جرس هاتفي في الساعة الحادية عشرة ليلاً ليقول لي إنه في مشكلة معقدة ، وعليَّ أن أحضر فوراً .
أخذتني الظنون على تكتمه وذهبت بي إلى كل الاحتمالات السيئة ، إلى أن اكتشفت أني لم أكن موفقاً في معرفة المشكلة حين تقابلنا .
- ما الذي جرى يا أسعد ، لقد نشّفت دمي .
- مصيبة ، لقد سرقنا حين نزلت زوجتي من السيارة لتطلب مني أن أشتري لها بعض الشوكلاته عندما كنت في السوبر ماركت القريب منها ، ولما عادت إلى السيارة لم تجد الحقيبة .
- وكم كان بها ؟
- ألف وثلاث مئة دولار أمريكي ، ولكن ليس هذا هو ما يهمني وإنما جواز سفر الكلب وبطاقته الصحية .
أخذتني الدهشة وانا أصطنع مجاملته وأخفي ابتسامتي وثقافتي المتواضعة حول أهمية الكلاب في هذا القرن :
- نعم ، إنها مشكلة ، ولكن ماذا ستفعل ؟
- سأنشر إعلاناً أجعل فيه المبلغ مكافأة للسارق شرط أن يأتيني بالجواز والبطاقة .
وفي الصباح ذهبنا إلى صحيفة مرموقة ، ونشرنا الإعلان ، ومضى أسبوع بأكمله دون أن يرقَّ قلب اللص ويرفق بمشاعر هذا الحيوان الحضاري .
ازداد ابن خالي المنكوب هماً وغماً ، فاتصل بأهل زوجته بعد أن ساءت حالتها النفسية فطلبوا منه أن يرسل صورتين لهيرو بالبريد السريع ، فلبى طلبهم فوراً ، وفي طريق العودة من البريد راح يشرح لي صعوبة سفره بالسيارة إن اضطر لذلك .
وبعد أسبوع اتصلت السفارة الألمانية به طالبة منه أن يأتي لاستلام معاملة له وصلت بالبريد الدبلوماسي قبل ساعة .
طار أسعد من فرحه ، وبدأت كآبة زوجته تتبدد ، وهما ينظران بشغف بالغ في الجواز والبطاقة وقد زينتهما صورة هيرو الملونة بسلسلته الفضية الثمينة .
وفجأة التفت نحوي قائلاً : أنا لن أبقى في هذا البلد ، سأسافر إلى ألمانيا، هذه بلاد لا يعاش بها ... وأغلق في وجهي كل أبواب إقناعه بالبقاء فقلت له: ولكن انتظر حتى تبيع السيارة فردّ عليّ : لا بعها أنت وحوّل لي ثمنها ، ثم عاد ، وقال : لا ، لا خذها هدية لك ، وهذا إقرار مني .
أوصلته وزوجه وهيرو إلى المطار مظهراً حزني على فراقهم ، ملوحاً بيدٍ ، وماسحاً بالأخرى دمعة متمردة ، ثم انطلقت بالسيارة على سرعتها وبعد مسافة نظرت بالمرآة جيداً لأطمئن على خلو الشارع خلفي ثم نظرت أمامي وعلى جانبي ، وصرخت بأعلى صوتي :
تحيـا ألمانيا ، ويحيا الكلب هيرو ، ويحيا سارق جواز الكلب الذي ساق لي هذه النعمة دون أن يدري ، وانفجرت بالضحك .