فراشة الكُحل
بقلم: عبد الغني عبد الهادي
الإهداء: "إليها وقد اتكأت على هامش ليلٍ بهيم، تُواسي جرحها، وتقلّب جمرها، لترسمَ أمامها معالم الطريق!"
- 1 -
عَرفتها المحافل فاحتفلت بها، وفتحت لها صدرها محتفية، فأدرجتها على برنامجها، ضيفةً مقيمةً، بل ملاكا من ملاكها، وعضواً من اعضائها
ما اتخذت مقعدي إلا ورأيتها عن يميني أو شمالي، وقلّما سبقتها إلى تلك الأماسي الجميلة! وفي النقاش أو التعقيب، أسمع لها صوت تغريد وتطريب كثيراً ما يشكل إضافة مفيدة، ترتقي بها عند سامعيها وعارفي فضلها درجة فدرجة!
- 2 -
عندما أُعلن عن قيام حفل زفاف جماعيّ، كان حظّها وافراً! فكانت أمّ الجميع وأختهم، وكنت أرى فيها (الطبّاخة) التي تفننت في إعداد أبهج الأصناف وأمتعها على المائدة! وكان لحضورها بهجة وألق!
لم تغادر الفرحةُ محيّاها، واستمرّت الابتسامة مرفرفة فوق وجنتيها رفيف الأُقحوان في شهر نيسان! حتى حسبتها وردةً تراقصُها فراشةُ الكحل!
وفي الحلقات الدوريّة التي تعقدها الجمعية الخيريّة، تجدها الذراع اليمنى، إذ هيَ
تعدُّ وتخطط، وما على رئيسها إلا أن يناقش مثنياً عليها مع الحضور متخذاً القرار مع
فريقه.
- 3 -
وفي مجال العمل الأدبي والثقافي، تترددُ كذلك على الروابط والهيئات، بهدوء فاعل متبصر متحسّس، تبحث عن خطاها دونما كلل أو ملل، فتكتب في القصة والرواية، بنفس خاص، وحضور فيه تميّز، وهي بهذا تشرح واقعاً عاشته منذ عقود، مبدية رأيها، راسمةً تطلّعها، دونما هوادة أو تراخ، فتحسبها مهندسة بارعة، تصوغ الواقع بروح وثّابة نشطة، تقطرُ جمالية ومسؤولية، وذلك من منظور هادف يعدّ تربة طيبة الإنبات والرضا.
- 4 -
وحتى في ميدان العمل السياسي، الذي يفرُّ من براثنه وأشواكه بعض الرجال لم أدر كيف انساقت إليه، وانسجمت معه، ولا كيف وجدت الفرصة لأن تغدو من خريطة ذلك المنتدى الذي أصبح بفضلها من بين أبرز منتديات البلد! الأمر الذي وجدتني ذات يوم أقف أمام امرأة متعددة الاهتمامات..
في الأيام الأخيرة، أجابت عن سؤالي بشفافية وصدق كبيرين، كعادتها قائلة:
- لقد سهرتُ الليلة على إعداد أوراق خاصة للمنتدى، بصدد طروحات التنمية السياسية من أجله، و..
- 5 –
قبل أعوام قليلة، عندما ودّعها زوجُها الوداع الأخير! لم تستكن ولم تقصر بها أحزانها الأسيرة! بل على العكس من ذلك، فقد نهضت بها أحلامها وتطلعاتها المفعمة من جديد، فراحت تقدّم وتبرمج لأوجه النشاط المختلف، ولما عدتُ بها إلى الوراء قليلاً، قالت بصدق ووفاء:
- آه.. لقد كان –يرحمه الله- أعدّني لمثل هذا الدور، إذ لم تكن تفوته فرصة من مثل هذه الفرص، إلا ويصحبني إليها، أو يحدثني عنها، بما يضمن قربي منها، واحتدامي معها!
- 6 –
للتوّ أخرجُ من رحم ليلةٍ، طوّفتُ فيها على أضرحة مقبرة الحيّ! استوقفني ضريح أحدهم، وكان ملفتاً، وقد شعرتُ في حضرته بأنني في أحضان ملتقى ثقافي جادّ، كان شاهده مكتوباً بعناية تدل على مستواه الثقافي، ناهيك عن حجته الخاصة، أروقته، غراسه، بل أطياره التي عملت على الاحتفاء بي!
ودّعني زوّاره الثلاثة السابقون، أما أنا فبقيتُ متأمّلاً مسترسلاً، أفكّر في المستوى اللائق لهذا الطراز من الرجال! وبينا أنا كذلك مطرق فيما حولي، سمعته هامساً محتفياً بي بحرارة:
- أوصيك بأختك "أخت الرجال، لقد تركتها على المحجّة البيضاء، وأعددتها لتقود السفينة مع الأبناء الـ..
.. سكتُّ مكتفياً برسالته القصيرة، وتنهيدة من الراحة تصدر عنه بإيقاع منتظم تصلني عبر حبّات الرمل الذي يغيّبه، فيحجبه عني!
- 7 -
صار السؤال غزالا يتقافز في داخلي:
- ترى أيكون المرحوم كتاباً هوى به قدره في هذا المكان؟ أم هو مدرسة اكتفت بهذا البناء المتواضع، بعدما عمّر دنياه بهذه الزوجة الشريكة التي بقيت وراءه، تجدف لتكمل المشوار، وتوصل الرسالة؟!
أطرقتُ ملياً من جديد "حتى قدحت لي فكرة" فقد كنتُ توصّلتُ إلى السرّ الذي لاح لي منذ عرفت هذه السيدة، ورأيتُ فيها فراشة الكحل التي ما حطت على وردة، حتى نفضت كحلها أثراً يدلّ عليها!..
ــــــــــــــ
الأردن – ص. ب 8545 – عمّان 11121