اللحظة الأخيرة قبل التنفيذ
اللحظة الأخيرة
قبل التنفيذ
د. عبد الحق حمادي
الهواس
لم يكن هناك شيء يدعو للاهتمام في قرية ( البو ليل ) المفترشة للضفة الشرقية من نهر الفرات سوى بيوتها الطينية التي أكلت الأيام كثيراً من زوايا جدرانها البائسة وأحالتها السنون إلى شبه أطلال لقرون غبرت ، ولم يكن هناك ما يجمع بين هذه البيوت المتناثرة سوى امتداد بساتينها الخضراء وزحفها في كل اتجاه ، وكذلك طيبة أهلها وكرمهم وحسن احتفائهم بضيوفهم في هذه القرية الطيبة المتواضعة والفقيرة ، ولد اسماعيل لأبٍ فلاحٍ عرف الأمية كبيراً قبل أن يدرك أنها رافقته منذ صغره ، وفي بيت ينافس الكوخ في بساطته ترعرع اسماعيل ونما بسرعة أهَّلته لأن يجالس الكبار ويناقشهم ، فقد شدَّ انتباه والديه إلى غرابة أسئلته منذ نعومة أظفاره وأنه لا يسأم من السؤال والاستفسار عن أية ظاهرة يراها أو معلومة تصافح أذنه أو تلوح لعينه ، وحرصاً من مدير المدرسة الابتدائية الوحيدة في هذه القرية أرسل في طلب أبيه ليقول له : إن عقل ابنك اسماعيل أكبر من سنه ، وأنه يحتاج إلى رعاية خاصة ، وحذر شديد في تفسير ما يطلبه من أسئلة معقدة ومتشابكة ، وردَّ الفلاح ببساطته : هل نأخذه برأيك إلى طبيب ليعطيه إبرة ، وإلاّ برأيك نأخذه إلى قرية ( العبد ) المجاورة لنا لتقرأ له الحاجة ترفة ، وبعد شرح مبسط من المدير فهم والد اسماعيل أن ابنه ليس مريضاً في رأسه ، وإنما لديه ذكاء أكثر من أقرانه .
وحين انتـقل اسماعيل إلى ثانوية الفرات وانتظم في الصف الأول الإعدادي أصبح مثار اهتمام وحديث جميع الأساتذة الذين يدرسونه عن حدة ذكائه واتقاد ذهنه وسرعة بدهيته ، وغدا زملاؤه أمامه وكأنهم ينظرون إلى طالب قادم من أوروبا أوأمريكا ، ولولا أن تكذبهم سحنته المائلة إلى السمار ورثة ثيابه ، وأعجب من ذلك حين يسمعون اسم قريته فقليل منهم من سمع بها… لقد كانت مسيرة اسماعيل الدراسية غير عادية وأصبح عُرْفاً متداولاً أن السنة التي يكون فيها تسمى باسمه أمَّا صفه فكأنما له ميزة خاصة على بقية الشُعب وكافة الصفوف في المدرسة وكأن ذكاء اسماعيل انسحب عليهم جميعاً ، وحين وصلوا إلى الثالث الثانوي أضحى اسماعيل أشبه بأسطورة تحاك حولها أغرب الحكايات ، ومرةً أحب أن يمازح جاداً زميلين له جاءا يزورانه في الغرفة الغافية على السطح والمنسية منذ مدة طويلة لأشياء مهملة خجل أهل البيت أن يلقوها في مكان القمامة قبل أن يبث بها الحياة اسماعيل ويستفيد من كثير من الأشياء المحطمة فيها بعد إذن أصحاب البيت وموافقتهم على استئجارها منهم ؛ قال لزميليه الزائرين : ما رأيكما أن أصنع لكما جهاز مذياع بلا ماركة مسجلة فأجاباه ضاحكين لو جعلته مشهاداً لكان أفضل ليكون صوتاً وصورة… لكن الأمر بدالهما في غاية الجد عندما أحضر اسماعيل موسى حلاقة ، ومكثفاً صغيراً ، وفحمة صناعية ، وبعض الأسلاك المختلفة ، وقطعة خشبية جعل فيها عدة ثقوب ، مرّر منها بعض الأسلاك وثبت عليها مكبر صوت صغيراً . كانت عينا زميليه عماد ، وجمال مشدودتين إلى حركة أصابعه وهي تربط الأسلاك بالقطع الأخرى ، وتقوم بصنع مستقبل هوائي من أسلاك ثانية ، وكيف تشده بمسمار نسيه الدهر على جدار الغرفة قبل أن تقع عليه عين اسماعيل وتدرجه في قائمة المفيدات من الحطام المهمل على السطح، وبشيء من الحركات الفنية الجذابة المتنقلة بين مفك البراغي ، والكاوية المعدنية الصغيرة ، انطلق صوت المذياع متقطعاً ثم انسابت نغمات موسيقية متراخية حدّ الهذيان فصفق عماد وجمال بحرارة رغم أنهما لم يتمكنا من المعرفة على وجه اليقين إن كان الصوت الذي يسمعونه هو لمغنٍ أم لمغنية ، فليس هذا ما يطربهم ، وإنما نجاح ما صنعه اسماعيل .
نال اسماعيل شهادة الثانوية العامة الفرع العلمي بمعدل الأول على جميع أقرانه في القطر ومن دون منافسٍ قريب من معدله ، فقد كانت درجاته تلامس الحدّ الأعلى للمعدلات النهائية ومنها ما حقق الدرجة التامة ، وتوقّع كل أساتذته وزملائه وأقربائه أن يختار كلية الطب ، لكنهم صدموا حين علموا أن أخاه الأكبر يوسف قد أخفق بكل الأساليب في إقناعه بالدخول إلى هذه الكلية علماً أن يوسف كان في الصف الثالث فيها ، لأن اسماعيل يصرُّ على اختيار كلية الهندسة قسم الكهرباء ولا يرضى بغيرها بديلاً ، وعليه فقد أخفق كل من لديه صلة معه أو يد عليه أن يثنيه عن عزمه أو حتى في إقناعه في مناقشة الأمر معه .
لم يمض شهران من العام الدراسي حتى بدأ نجم اسماعيل بالسطوع شاداً انتباه الأساتذة إليه في كل المواد المقررة ، وبمرور الأيام واجتياز الاختبارات وتقديم البحوث النظرية العلمية والميدانية العملية أصبح اسماعيل محط احترام وتقدير جميع أساتذته ومدار حديثهم وتوقعاتهم له ، وقُدِّر له وهو في السنة الرابعة أن تأتي لجنة علمية من جامعة السوربون وتطلع على مستواه العلمي فتضعه في رأس القائمة للطلاب الذين تمَّ اختيارهم لإكمال دراساتهم العليا في فرنسا ، ولم يخفِ البرفسور دان إعجابه العظيم بالمشروع الذي قدمه اسماعيل حول اختراع جهاز ميكانيكي كهربائي للسقاية الحديثة بأسلوب التنقيط ذي جدوى اقتصادية كبيرة ، فوعده بأن يقدم المشروع إلى شركة فرنسية متخصصة ولائقة لإنجازه ، وفي بداية السنة الأخيرة كان اسماعيل على موعد مع الحظ والقدر حين طلب مقابلة عميد الكلية صاحب النفوذ الحزبي المتميز في الدولة ليطلعه على اكتشافه الجديد الذي أجرى له تجربة ناجحة ، وهو عبارة عن جهاز قادر على إرسال أشعة لمسافة مئتي متر قادرة على اختراق الجدران وتشكيل شبكة ناقلة للأصوات بحيث يصبح بإمكان المرسل لها أن يستمع إلى كل ما يدور في المكان المستهدف… جحظت عينا العميد وهو ينظر إلى الجهاز وما يشرحه اسماعيل على خريطته ، وحين جرّبه أمامه غدا عاجزاً عن ربط الحروف بالكلمات مشيداً بهذا الإنجاز العظيم ومؤكداً لاسماعيل أن مكافأةً كبيرة تنتظره وأن الأمر سيصل إلى المسؤول الأول في الدولة ، مما شجع اسماعيل على القول : أن هناك ما هو أكبر وأعظم وأنه ما زال قيد البحث والدراسة ، فهز العميد رأسه وارتسمت على محياه ابتسامة إعجاب… لم ينم اسماعيل ليلة إبلاغه بلقاء العميد بعد ثلاثة أيام من تقديم إنجازه العلمي ، وراح يحلم بالمسؤول الكبير الذي سيستقبله بكل حفاوة وتقدير ، وتخيّل نفسه في مقابلة على شاشة المشهاد وهو يشرح إنجازه ، ثم عاد وأبطل الفكرة لأن اختراعه سيكون في غاية السرية ، فاستبدله بصورة له على الصفحة الأولى من جرائد الدولة وقد زيّنها عنوان عريض بأن عالماً سيقدم لوطنه اختراعات علمية مذهلة ، فقال في سرّه مخاطباً غرفته المشتركة في المدينة الجامعية وداعاً أيتها الغرفة الصغير فغداً ستكون الجائزة كافية للسكن في شقة متواضعة تساعد في إنجاز مشاريعي العلمية… طرق باب غرفة العميد بحيائه المعتاد رغم أن السكريتيرة خفَّت من مكانها فور رؤيته لتخبر السيد العميد بوصوله فاتحة الباب له ومشيرةً له بالدخول ، نظر إلى الرجلين الجالسين عند العميد وهو يلقي التحية فشدَّه إليهما تفحص نظراتهما له وهما يضطهدان حدقات عيونهما اتساعاً وصلابة ، فبادر العميد إلى رد السلام والقول : طالبنا النجيب اسماعيل خليل فخر كلية الهندسة ، فردَّ الضيفان: تشرفنا بك ، فقال العميد : أظن أنه سيكون لديكم متسع من الوقت للتعارف بشكل جيد ، تفضل يا اسماعيل مع الأخوين الكريمين لتشرح لهما إنجازك الرائع في الأشعة ، فردَّ اسماعيل : شكراً يا دكتور إن شاء الله سأكون عند حسن ظنك وأنه سيكون بعد مدة ما هو أفضل بكثير ،… بالتأكيد أنا واثق من ذلك تفضلوا يا أخوان والله الله باسماعيل أكرموه بما هو أهل له… تقدم اسماعيل من سيارة لاندكروز ، وقد جلس فيها السائق وراء المقود ، وإلى جانبه شخص آخر مقطَّب الحاجبين تبدو عليه ملامح المسؤولية على أقرانه ، وبسرعة خاطفة استدار أحد المرافقين لاسماعيل من خلف السيارة ليصعد من الباب الموازي للسائق ، وبإشارة منه فتح الآخرُ الباب الثاني طالباً من اسماعيل أن يدخل في السيارة ليكون بين الاثنين… بدأ قلب اسماعيل يزداد خفقاناً وقد غزاه الشك ، فالجالسون لم يقابلوه بالترحاب ، بل كانت نظراتهم إليه توحي له بأنهم يضمرون له مكروهاً ، فحاول بصوت متعثر بالخوف والاضطراب أن يسألهم إلى أين سيذهبون به ، فأجابه أحدهم بشيء من اللؤم : ستشرب عندنا فنجان قهوة ، فقال : أين عندكم ، فردّ عليه الذي بجانبه الأيمن : قهوتك سادة أم على الريحة ، فضحك الجميع ما عداه ، وهو يستمع بارتياب إلى الجالس في الأمام يقول لزميليه : الأخ مستعجل ، وبعد مدة من انطلاق السيارة في الشوراع أخرج الجالس في الأمام جهاز إرسال ؛ ليخبر المرسل إليه: نعم سيدي الهدف معنا… وبعد أن دارت السيارة في عدة شوارع انتهت إلى أرض ترابية خارج المدينة خالية من الأبنية سوى بناء يلوح من بعيد فطلب الرجلان اللّذان يتوسطهما اسماعيل منه أن يخفض رأسه وأن يضعه بين ركبتيه وقد قام أحدهما بضغطه إلى الأسفل ثم اتكأ على ظهره ، وبعد خمس دقائق وقفت السيارة على صوت الجالس في المقدمة يخاطب شخصاً بأن يفتح البوابة ، ثم طُلب منه أن يرفع رأسه قليلاً ليتمكن من إدخاله في الكيس الأسود ، ثم قام أحدهم بوضع القيد في معصميه حيث توقفت السيارة ، فشدهُ بقوة إلى خارجها ، وحين لامست قدماه الأرض لم يعد يفرّق بين اسوداد الكيس واسوداد الدنيا في عينيه وهي تلقي به في المجهول لا يدري أين هو الآن ؟ وما جريرته التي اقترفها ؟
سحبه أحدهم إلى داخل البناء وأدخلوه إلى المصعد الذي راح يصعد ويهبط في حركات بهلوانية أفقدته رقم الطابق الذي يقف عنده المصعد ؛ إذ لم يعد بإمكانه أن يعرف إن كان هو الآن تحت الأرض أم فوقها ، لكن رطوبة المكان ورائحته تشيران إلى أنه تحت الأرض ، وقف أمام باب الزنزانة وهم يخلعون الكيس من رأسه ويرمون به بداخلها قبل أن يوصدوا عليه الباب ، فأُسقط في يديه وهو ينظر إلى زنزانته التي لا تزيد عن ( ثمانين سم ) وعرض ( خمسين سم ) أنه في أسوأ حال ، وحين استمع بعد أيام من اعتقاله إلى التهم الموجهة إليه وعلى رأسها إجراء تجارب تمسُّ أمن الدولة دون علم السلطات المختصة ، وتعريضه أمن الدولة للخطر ، واستعمال أجهزة ممنوعة والتعامل مع مواد محظورة عندها أدرك سوء المصير ، وأحس بالواقع حين رأى نفسه معلقاً من قدميه بالمروحة السقفية وهي تدور به بأعلى سرعة مجيبةً عن كل الأسئلة التي تدور برأسه ، واصطدم بمرارة الواقع حين وضعت الكهرباء بين فخذيه ، وشعر بقسوة الحقيقة التي غفل عنها ببراءته التي لا مكان لها عند هذا السوط الذي يستبيح جسده في كل الجهات حتى يفقده الإحساس بما حوله رغم تداول الماء الحار والبارد بين الفينة والأخرى على جسده المحروث بلا انتظام… خرَّ باكياً وحيداً في زنزانته داعياً الله عزَّ وجلَّ أن يجعلها قبراً له قبل أن يعرف أحد ماذا فعل به المساعد كاسر ، لكن عزاءه الوحيد الذي يمسح آلامه وحزنه كلما اشتدت عليه أنه لم يطلعهم على مشروعه الأخير ، وقد حمد الله كثيراً أنه لم يحدِّث به عميد كلية الهندسة… ثلاث سنوات قضاها في السجن مثَّلت له حياة لم يتخيلها في يوم من الأيام ، وحين خرج من السجن آثر أن يبني لنفسه سجناً جديداً في بيته يسبح فيه بدموعه التي لم تجف منذ اللحظة الأولى التي أودع بها سجنه الأول ، وكلما ألح عليه ابن خالته علي المصمم على كسر قيود سجن البيت أن يكشف له ما فعل به المساعد كاسر ، كان يجيبه : دعني يا علي الموت أهون عليَّ مما رأيت والانتحار هو دوائي وخلاصي من هذا العذاب لقد أخذ مني المساعد كاسر ما لا يرد أو يعوّض ، كان شيئاً فظيعاً في عالم الإنسان الذي يُردّ إلى أسفل سافلين ، وحين يجلل الصمت مجلسهما يقطعه اسماعيل ببيتين من الشعر كان حفظهما :
نُشِّئْتُ أنْ ليسَ بي حقدٌ على أحدٍ حتى أرتني الليالي ظلمَ مَنْ حقدوا
فصرتُ لو أنَّ ما بي منه في أُحُدٍ لانهدَّ يفني قريشاً في الوغى أُحدُ
آه يا علي عن أي شيء أحدثك يا أخي عن التعذيب وحفلاته ، أم عن زنزانتي التي علمتني كيف أنام، وركبتاي تلامسان حنكي ، أم عن الغرفة التي نقلوني إليها وبها أكثر من مئة سجين وهي لا تتسع لعشرين شخصاً فتعلمت بها كيف أنام واقفاً وأحلم كما أرغب وأشاء ، أم حين أنام على جنب واحد شابكاً قدميّ مع قدميّ زميلي الذي يواجهني حتى نصنع متسعاً لأكبر عدد من النائمين على الأرض ، أم عن البطانيتين الوحيدتين التي نجعل من إحداها فراشاً والأخرى غطاءً في ليالي الشتاء القارسة ، أم عن تبرع بعض المساجين عن غيرهم في حفلات التعذيب حين يكون المطلوب مريضاً أو أن جروحه قد غزاها القيح ، أم عن إجراء عملية جراحية لأحد المساجين من قبل طبيب سجين بقراضة الأظافر ، عن أي شيء أحدثك يا علي ، فهل سمعت بأحد يستطيع الاحتفاظ بالماء في فمه ليدخره ساعة الظمأ الشديد لأن حصة الماء محدودة جداً ، وأنهم يداهموننا فجأة ليكتشفوا المخبئين الماء ليذيقوهم صنوف العذاب ، أم عن لفافات التدخين التي كنا نتبرع بحصتنا منها للمدخنين ليدخنوا جميعهم لفافة واحدة وأعجب مافيهم عدالتهم فكلهم يسحبون مقدار نفس واحد لا يزيد ولا ينقص أم عن الوجبة اليومية الدسمة التي لا تزيد عن نصف بيضة أم عن دورة المياه المكشوفة حين يقضي الإنسان حاجته ، أم عن القفص الزجاجي المقسوم إلى قسمين في كل واحدٍ منها قطة شرسة وجائعة وكيف يضعون رأس السجين ثم يسحبون اللوح الزجاجي لتهجم عليه خمشاً وعضاً ، أم عن تعذيبنا ونحن عراة حتى كرهنا اسم ومنظر قوارير الماء وجميع أنواع الشراب فيها ، أم عن جلد بعضنا بعضاً داخل الدولاب ، وويل لمن به رحمة على زميله . أم عن رقصات الألم تحت لسعات الكهرباء . أم عن الذين فقدوا عقلهم من التعذيب وأصبحوا وسائل ترفيه للجلادين .
وهل أحدثك عن أحاديث الهمس التي أتقناها بحيث لا يسمعنا الحارس الذي يقف على باب الغرفة نتعلم من خلالها تلاوة القُرآن الكَرِيم ولم يكن مسموحاً به وإنما حفظناه من صدور الحافظين الذين يذكّرون بعضهم بمواطن النسيان والخطأ ، فكان ذلك أجمل ما حملناه معنا حين غادرنا السجن، وحين تفيض عينا اسماعيل بالدموع على بكاء علي يدرك علي إخفاقه في إقناع اسماعيل بالخروج من البيت ومواجهة الحياة ، فاضطر أخيراً إلى شبه مفارقته ؛ لكن أحداً لم يكن يشك بما يدور في نفس اسماعيل ، وأنه بدأ يفكر جدياً بإنجاز مشروعه العلمي الذي عاش معه طويلاً وتدخل القدر في إخفائه عن الآخرين وبعد أن هيَّأ له هذا القدر وسطاً يفهمه ويقدّره .
كان اختراع اسماعيل عبارة عن صحن طائر يحوي آلاف الخلايا الدقيقة ذات القدرة الفائقة على تخزين الطاقة الشمسية ومعالجتها ، وجعلها قادرة على تشغيل ما يشبه الفرن الذري لصنع أشعة كهرومغناطيسية يمكن توجيهها نحو هالة الشمس للالتحام بها وعكسها نحو أية بقعة على الأرض ، ولهذا الصحن ثلاث حركات يتحكم بها مركز الإطلاق ؛ الأولى : تحدث اضطراباً هائلاً في أجهزة الاتصالات العالمية ، وانقطاع تام في أجهزة الكهرباء ، وتوقف في المفاعلات النووية في المنطقة المستهدفة ، والثانية : قادرة على شل ووقف الحياة للبشر من خلال التأثير على المجال المغناطيسي ، وتخريب قانون الجاذبية الأرضية في ذلك المكان ، أما الثالثة : فبإمكانها تدمير المنطقة المستهدفة وحرقها وجعلها أثراً بعد عين …
أطلق اسماعيل صحنه الطائر في الساعة العاشرة ليلاً باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية في حساب دقيق لفارق التوقيت ، وتحديداً فوق العاصمة واشنطن ، وبعد خمس وأربعين دقيقة أعلنت الحكومة الأمريكية أن جسماً غريباً لم يتم التعرف عليه بعدُ يشبه القمر الصناعي قد أطلق من منطقة ( شرق ستان ) وأنه محاط بمجال مغناطيسي عالي التردد مصمَّمٍ للتشويش على أجهزة الكشف وتضليل الأسلحة المضادة للجو ، وأن الحكومة الأمريكية تجري اتصالات مكثفة مع الجهات المعنية في ذلك البلد الذي انطلق منه لمعرفة التفاصيل ، وأن وزارة الدفاع قد أعلنت حالة الطوارئ في البلاد باللون الأحمر وطلبت من المواطنين البقاء في منازلهم حتى إشعار آخر .
كانت أصابع اسماعيل تتحرك بسرعة باتجاه المفتاح الأول لتشغيل الحركة الأولى بينما تعالى الصراخ والتهليل لنجاح عملية الإطلاق ثم بدء أجهزة القوة رقم واحد بالعمل على أحسن ما يكون بينما أصيبت أجهزة الإعلام الأمريكية بارتباك شديد بعد أن عمَّت الفوضى في كل الولايات الأمريكية ، وفي الوقت الذي كان الرئيس الأمريكي بوش يحاول شرح خطورة الموقف لأريل شارون والاتفاق معه على اتخاذ قرار مشترك للتصدي لهذا التهديد انقطع الخط بينهما وأُبلغ شارون باستحالة تحقيق اتصال مع البيت الأبيض ، وأن وكالات الأنباء العالمية قد أعلنت قبل قليل عن انقطاع جميع الاتصالات مع الولايات المتحدة الأمريكية وأنها تعدُّ منطقة معزولة تماماً عن العالم .
وعلى الفور استدعى شارون قيادة أركانه وقيادات الأجهزة الأمنية مفتتحاً اجتماعه بأنه يشكر الربَّ ( يهوه ) أن هذا العمل لم يستهدف الكيان الصهيوني قبل أمريكا وإلاّ لفقدوا القدرة في التعامل معه ولأصبحوا في خبر كان ، مضيفاً وجوب سرعة التصرف قبل فوات الأوان ، وبعد أقل من ساعة من المشاورات والدراسة قرر شارون وموفاز ومسؤول الموساد توجيه ضربة صاروخية بالأسلحة الذكية إلى منطقة ( شرق ستان ) وتشكيل مظلة جوية على حدود كيانهم ، ووضع الأسلحة النووية في حالة جهازية لتوجيه ضربات متلاحقة إلى عدة مناطق مختارة في حال اخفاق الضربة ونجاح اختراق معاد لأجوائهم .
وفي الوقت الذي أعطى شارون أوامره بتوجيه الصاروخ الأول ومراقبة الهدف عبر الأقمار الصناعية كان رجال النظام يهرعون مسرعين نحو اسماعيل إذ لم يجدوا مشقة في تحديد صاحب هذه الفوضى الخطيرة ؛ فقد أشار زملاؤه إليه بأصابع الاتهام مبرِّئين أنفسهم مما حدث ، لكن اسماعيل حاول أن يدافع وأن يقاوم بكل ما فيه إلاّ انه استسلم أخيراً أمام قوة عضلات الذين أمسكوا به وقيدوا يديه ورجليه ، وحين كان الصاروخ يتجه بسرعته نحو المكان أحس بوخزة قوية أشعلت نصف جسمه السفلي ، فصرخ بكل ما فيه مطلقاً لعينيه اتساعها وهي تراقب انهيار صوته موجةً إثر موجة متذكراً في هذه اللحظة كيف كان يطفئ مضخة الماء في القرية وهي تنفث آخر ما تبقى فيها من هدير وضجيج وآخر نفثة في محركها ، ليأخذ السرير بما بقي لديه من قوة في أعضائه المشلولة فبدا وكفاه تختبئان مرتجفتين بين ركبتيه ولسانه يمر بهدوء على شفتيه يمسح ضمأهما أشبه بطفل رضيع يمجُّ آخر قطرات الحليب من صدر أمه الحنون ، وقد اشرأب زملاؤه ومدوا رؤوسهم يراقبون الموقف وعيونهم تدور في كل المكان لا تكاد تستقر على مشهد بعينه ، وبإشارة واحدة دسوا رؤوسهم تحت الشراشف البيضاء كالجثث الهامدة ولولا بعض الاهتزاز في وسطها ونهاياتها لما كان هناك ما يدل على وجود حياة تحتها ، وقبل أن يطفئ أحد الرجال الضوء كان بعض الماء ينساب من وسط السرير الثاني ممتداً على الأرض نحوهم يسير خلف ممرضي المستشفى يشيعهم بوقار وهدوء شاكراً لهم جهودهم الجبارة في إعادة الهدوء والسكينة إلى القاعة العاشرة في مستشفى شرق ستان للأمراض النفسية والعقلية والعصبية .