العتاب القاتل
بقلم: أ. د. إسماعيل شعبان *
أخبار الشرق - 22 كانون الأول 2003
تعودت زوجتي أن تجلدني بين الحين والآخر بسؤالاتها الكثيرة وتعليقاتها المملّة واللاّمنتهية والمعذبة إلى حد كبير .. ولا سيما عندما تُكرّر بشكل نقٍّ يومي أو شبه يومي، إدانتي المباشرة بحالتي المادية المتواضعة، ووضعي في الزاوية، وتلاوة قوائم احتياجات الأولاد الكبار والصغار والأحفاد .. وحاجة الجميع إلى المزيد من الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، والأثاث، والموبايل، والسيارة ووو .. الخ
وأجيبها (مستاءً من زيادتها الطين بلّة):
ربما كان زواج الفقراء المبكِّر نوعاً من الجناية على المتزوجَيْن وأولادهما، وأحفادهما .. لأن ذلك يكون على حساب تحصيل الوالدين لمِا كان يمكن تحصيله من الشهادات أو تحقيق الفرص الأفضل قبل الزواج، والتي لا تسنح الفرصة لهما بعده لتحقيقها.
كذلك ربما كان إنجاب أكثر من ولد واحد، وعلى الأكثر ولدين هو جناية على الأبوين والأبناء والمجتمع معا.
وها نحن أولاء بزواجنا المبكر، وإنجابنا لنصف دزينة من الأطفال ارتكبنا الخطأين معاً، واللذين من الصعب أو المستحيل إصلاحهما ولا سيما في هذا الزمن المعولم الصعب ..
ولكن زوجتي تعود لتنقَّ من جديد، وآخر حوار كان لنا في 16/9/2000، يوم أكملت الستين من عمري وأُحلت على التقاعد، وبدلاً من أن تهنئني ببلوغي الستين بسلامة: دون حادث، أو عملية جراحية، أو سجن، أو محاكمة، أو تهمة توجه إليَّ .. الخ الخ، أو على الأقل بإجرائها ما يسمى حفلة عيد ميلاد، أو بهدية متواضعة، .. الخ؛ ولكنها بدلاً من ذلك توجهت إليَّ بقولها المسموم وبلهجة حزينة:
يا حسرتي عليك وعلينا معك، طلعنا من المولِد بلا ملبّس ولا حُمُّص، وخرجنا من الوظيفة ببلاش كما دخلنا فيها (إيد من ورا وإيد من قدّام)، ويوم كان الراتب كاملاً ما كان يكفي لآخر الشهر إلا بالزور، فكيف الآن سيكفي المعاش النسبي ولا سيما في ظروف الغلاء، وتزايد مصاريف الأولاد واحتياجاتهم وأقساطهم ووو.. إلخ، بالإضافة للشيخوخة ومطاليبها وتزايد ميزانية الأدوية؟ .. الخ، في حين دبّرَ الكثيرون من زملائك رؤوسهم وخرج كلٌّ منهم من الوظيفة بقرشين نضاف .. الخ.
فأجبتها: ولماذا الشكوى؟ الحمد لله إننا مستورون، نأكل ونشرب من تعب أيدينا ومن عرق جبيننا كما أغلب الناس، ونعيش في بيتنا المتواضع الذي نملكه، صحيح لا يوجد لدينا رياش فاخر، ولكن الحدَّ الأدنى لا بل المتوسط موجود، فماذا نريد أكثر؟ هذا حقنا من الحياة الذي كُتِب لنا عبر راتبنا عن مستوانا الوظيفي، وبعض الإضافات القانونية بين الحين ولآخر، والآن من راتب التقاعد كما أغلب المتقاعدين.
ولكنها ردت بخاطر مكسور: لماذا نحن بقينا في حالتنا هذه؟ وجارنا (ط) أصبح لديه فيلاّ، وسيارة مازدا جديدة، وأولاده يلبسون أحسن اللباس وكل منهم عنده سيارة وموبايل وبناته يخرجن عالموضة ويجلسن في أحسن الأمكنة الغالية؟
وكيف (ظ) أصبح لديه قصر ومزرعة كبيرة، وعدة سيارات تخدم زوجته وأولاده؟!
ولماذا (ع) يتكلم بالملايين كما نتكلم نحن بالعشرات من الليرات؟! ولماذا؟ ولماذا؟ وهم كلهم من جيلك، ومستواك العلمي، وحتى من دونه، وكلهم موظفون أمثالك، لا بل أنت قبلهم، فلماذا هم أصبحوا باللوج ولديهم استثماراتهم التي تدر عليهم الذهب؟
ولماذا أنت بقيت هكذا على الحصيرة أمامي طوال الوقت بلا شغل ولا مشغلة؟ يا حسرتي على حظي معاك ..
أجبتها: يا ابنة الناس إن كل الذين ذكرتهم، وأمثالهم لا أحسدهم على أوضاعهم ولا على سمعتهم، صحيح أن الراتب الرسمي لكل منهم لم يكن يزيد عن راتبي، لا بل قد يقل عند بعضهم، ولكن ربما كان لديهم طرق أخرى في جني ما جنوه، ولم يسمح لي ضميري باتباع تلك الطرق، ولا أريد اتباعها حتى ولو تمكنت لأنها خطأ وغير قانونية، لأن كل ما يبنى على الخطأ فهو خطأ، ولا سيما أن أخلاقي لم ولا ولن تسمح لي بسرقة المال العام أو بظلم أو بابتزاز الآخرين وذوي الحاجات لقضاء حاجاتهم المستحقة لهم، ولا مدّ يدي إلى حق غيري سواء كانوا أفرادا أم مؤسسات، لأن المنطق يقول: "لا يربح إنسان إلا إذا خسر إنسان آخر أو أناس آخرون أو المجتمع بكامله".
وأنا لا أريد أن أجني ربحاً على حساب خسارات الآخرين، وبالتالي على حساب المجتمع ككل في نهاية الأمر، كما لا أريد تجميع ثروة على حساب فقر أو إفقار الآخرين وحرمانهم أو أبني سعادة زائفة على حساب بؤسهم الحقيقي..
ولو مدّ كل إنسان يده على ما تطول، وارتشى كل إنسان في موقعه، أو أخذ ما ليس من حقه، فسيتحول المجتمع عندئذ إلى فوضى، يأكل فيه الغنيُّ الفقيرَ أو الفقراءَ والمحتاجينَ، ويستغل فيه القويُّ الضعفاءَ، ولبيعت العدالة، وتوقف الاستثمار، وتأخر التعليم، وانتشرت الجريمة وعمت الفوضى والخراب .. إلخ إلخ.
كما أن الدفع إلى (س) يحتاج إلى وسيط (خ) أحياناً والذي بدوره له حصته، وهنا تصبح في المجتمع كتلة أكبر من الفساد، وسلسلة أطول من المفسدين لا يعلم نهايتها إلا الله .. وسينعكس كل ذلك عاجلاً أم آجلاً سلبياً على المجتمع مزاجاً وكرامة ونخوة، ووطنية، وانتماء، وشهامة، وعملاً، وإنتاجية، واقتصاداً، وحاضراً، ومستقبلاً .. إلخ، ولاعتمد كل إنسان لا على ما يعمل وينتج، بل على قدرته على الاستغلال والسلبطة والشفط والابتزاز.. الخ.
أجابت زوجتي: كل هذا الكلام فلسفي، أفلاطوني، لا يطعم لحماً ولا يسقي مرقاً ويُقرُأ في الروايات الرومانسية فقط.
فأجبتها: يا ابنة الناس: ألا تلاحظين أن كل أولئك الذين تتحدثين عن ثرائهم تذهب أكثر أموالهم للأطباء والمحامين و.. و.. و..، وأن كل أولادهم فاشلون دراسياً، وأن اللاتوازن في سلوكية أفراد أسرهم هو الغالب، وأن الكثيرين منهم يأخذون أقراص الفاليوم المنوّمة حتى يقدروا على النوم.
كما أن (س) قد استدعي للتفتيش المالي أكثر من مرة .. وهنالك إشاعات كثيرة مخجلة حول مصدر ثروته ..
وأن أبناء (ك) كلهم يدخنون، ويقال إن ابنه الكبير دخل السجن بسبب تعاطيه المخدرات، وكذلك ابنه الوسيط لتسببه في دهس طفلة بسبب رعونته في قيادة السيارة .. وأن الناس يتحدثون عن (ص) بالسوء عندما زاره أبوه من الريف فحجز له سريراً في فندق متواضع، لأن زوجته تقرّفت منه أمام ضيوفها، وأن الجمعية الخيرية للأيتام لم تمر على واحد منهم منذ سنين لبخلهم وشحّهم، و.. و..
وذلك (م) الذي جمع أموال الغلابة بحجة استثمارها لمصلحتهم ثم تزوج بها أربع زوجات مع فتح بيوت لهن، ثم أعلن إفلاسه وها هو (ذا) في السجن وزوجاته في بيوت أهاليهن مع أولادهن ..
ثم إنه ماذا لو أكل (س) بملعقة من الذهب، ونام على سرير من البلاتين؟ هل يحقق له ذلك برأيك السعادة؟ أو الراحة؟ كلاّ .. طالما دعوات من ظلمهم تلاحقه، وهو يذهب إلى عمله في الصباح مرهقاً، لأنه ينام مرعوباً من استدعائه للتحقيق معه في أية لحظة بتهمة الاختلاس أو الرشوة أو الفساد، ولذلك فهو يسرف في التدخين وتناول المنبهات والكحول لكي ينسى خوفه نتيجة ذلك، فأصبح لديه مجموعة من أمراض السكر والضغط والكبد والمعدة والقلب (اللهم عافنا).
ثم كيف يمكن لغني أن يكون سعيداً وهو يرى بشكل مباشر وعلى شاشة التلفزيون الفقراء الذين كان هو واحداً من مستغليهم، في حين أننا نحن البسطاء الذين نأكل بملعقة الخشب وننام على سرير من الخشب، نغفو باستقرار وطمأنينة بملء جفوننا لكوننا نأكل من تعب أيدينا وعرق جبيننا، ولا نعتدي على أحد، ولا نأكل حق أحد ولذلك لا نخاف من أحد. ألم تقرئي:
قول كونفوشيوس في حينه: "إن الذي يمشي على الحق لا يخاف من الأرض ولا من السماء".
وأقوال الأنبياء: "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده". و"ما جمع مال من حلال قط"، و"إن دخول الجمل من سمِّ الخياط أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السموات"، و"كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به" إلخ إلخ.
وهنا تثاءبت زوجتي، وقالت باستهزاء المتذمر من تلك الأقوال الحكيمة: ذلك هو العزاء الوحيد، الذي يعزِّي به الفقراء أنفسهم، ثم راحت تغط في نوم عميق.
ونظرت إليها ملياً متألماً من أقوالها التي أبعدت النوم عن عيني، فرأيتها كما لم أرها من قبل، مترهلة، تتنفس بصعوبة وكأنها تختنق، وأخذ صوت شخيرها يرتفع، فقلت في نفسي: يا إلهي، كيف تزوجتها، وأنجبت منها كل أولئك الأولاد؟ ولماذا؟
عند ذلك تناولت بطانية وذهبت لألتحف بها على المرتبة بعيداً عنها متأملاً في ما قالته لي قائلاً لنفسي بخوف: "الآن قد فهمت لماذا يموت الكثيرون من المتزوجين اللامحظوظين عقب بلوغهم سن التقاعد ..".
__________
* أستاذ الاقتصاد بجامعة حلب