خبر عاجل
نعيم الغول
في الغرفة الطويلة من غرف منزله القليلة التي تشبه نظارة في احد المخافر كان يشاهد التلفاز .. ينتقل من محطة الى اخرى دون تركيز .. ورغم وجود زوجته التي كانت نائمة ،كان يريد ان يحصل على احساس ان معه احد ما ..او شيء ما فواصل الانتقال بين القنوات . تعثر إصبعه بمحطة إخبارية .. حاول ان يضغط الـزر ليغير المحطة لكنه توقف و تشبثت عيناه بالشاشة . خط احمر طويل تمدد أسفل الشاشـة و فـي بدايتـه كتب بخط اصفر : " خبر عاجل " تسارعت دقات قلبه . تمتم و عيناه تسبقانه :" ترى احدث انقلاب ما في مكان ما ؟"
و أحس بالراحة حين خيل إليه ان الجواب نعم . لعل كابوس من هذه الكوابيس الثقيلة التي تحاصرنا في منامنا و صحونا و غدونا و رواحنا لعل احد هذه الكوابيس المدججة بالخوف و النفاق و الواقعية الشديدة يزول الى غير رجعة . و لكنه عبس حين داهمه سؤال مفاجئ : " كيف تعرف ان الخلف سيكون خيرا من السلف ؟" .
لكن الخبر كان غير ذلك . قال لنفسه :" إذن سنظل نعيش في كوابيس !"
كان الخبر يقول : " انفجار هائل في تل أبيب و مقتل 17 يهوديا و جرح العشرات من الإرهابيين الصهاينة ".
أحس بالتشنج يقبض على عضلات جسده .. لم يتحرك .. ثم بدأ يستوعب الخبر. تسلل الفرح الى قلبه .. لكن الفرح كان ممزوجا بالخوف . ذهب الى دفتر يومياته الذي كان يخفيه في مكتب صغير في الغرفة الطويلة التي تشبه غرفة نظارة في احد المخافر و كتب : "انفجار و مقتل 17 يهوديا . الحمد لله . أرجو ان يرتفع العدد سيما وان هناك كثير من الجرحى ."
كانت الساعة قد اقتربت من الواحدة صباحا . رحل النعاس عن عينيه. و أحس ان الخبر مقتضب .. قصير ..لا يشفي الغليل . انه يريد ان يسمع المزيد .. ضم قبضة يده و هزها بعنف و هتف بصوت خافت لم يشأ ان يسمعه احد من عائلته : نعم ، بعد كل ما فعلوه ، لا أظن ان أحدا يجب ان يصمت هناك ."
تحول الى محطة جديدة .. الأخبار .. الانفجار .. صورة لشار ون : يقول ان دمه يغلي . انطلق كالبرق الى دفتر يومياته و كتب :" شارون يقول ان دمه يغلي .. هذا يعني انه .. لا سمح الله .. دمه يغلي .. دمه يغلي . حين يغلي دمه يفعل ما يريد .. ماذا تفعل حين يغلي دمك ؟كم مرة إلى دمك ؟ كم مرة فعلت شيئا .. ؟"
شريط مفاجيء قفز من الذاكرة المحترقة .. يثرب تخلع ثوب الأوس .. تمزق ثوب الخزرج تلبس ثوبا نزل من السماء كما نزلت المن و السلوى .. امرأة امام حانوت يهودي .. رآه يعبث بثوبها .. تصرخ . و اسلاماه .. رجل قريب .. يبدو عربيا من نحول جسمه و الرقع التي انتشرت في ثوبه .. لون الرجل يتحول الى الأحمر و هو يسمع صوتها الزاعق .. لونه احمر قاني .. لا بد ان دمه يغلي .. يستل سيفه و يشطر اليهودي نصفين .. أحس بشعر جسده كله يقف امام ذكرى المنظر .. و غمرته نشوة .. الآن .. ألآن .. شارون دمه يغلي و دمك هل يغلي ؟ و تحسس جسده .. لم يشعر الا بنبضات قلبه المتسارعة .. تساءل بامتعاض كيف يغلي الدم ؟؟
عاد الى الشاشة .. تحول الى محطة جديدة . خبر جديد .. الحاخامات قرروا ان الاجتماع الأمني يوم السبت حلال .
ركض الى دفتر يومياته و كتب بتضرع :" اجتماع أمني مصغر .. يعني ضربة لا سمح الله ."
ضرب بقبضته الطاولة و هتف : الى متى يفعلون ذلك .. كيف يجرؤون ؟
خفف من صوته حين تقلبت زوجته على اثر صوت الضربة .
عاد الى الشاشة و تحول الى محطة جديدة . فتاة جميلة تتمايل و تغني " شاطر .. شاطر .." تأملها قليلا و أخذت أصابعه تنقر الطاولة بنفس الإيقاع . فجأة توقف حين تذكر ان الوضع لا يسمح بالاستماع والاستمتاع .. الوضع ينذر بالخطر : قال في نفسه : " لا يليق ان تنساق وراء اللهو .. لا يجوز ! " تحول الى محطة اخرى و عيناه تلتصقان التصاقا بالمغنية .. على المحطة الجديدة ظهر رجل عسكري يضع قبعته العسكرية على كتفه و قد لاحت على طرفها نجمة سداسية كنخامة ذكرته بعين المسيح الدجال : كان العسكري اليهودي " يهدر .." اذا لم يكن عرفات قادرا على فعل شيء فسوف نقذف به الى خارج المناطق ".
كتب : " انهم يطلبون من رئيس السلطة ان يفعل ما يريدون .. هل يفعل .. أرجو الا يفعل .. لا أتصوره يفعل .. لن اقبل بان يفعل .. لن ارتاح اذا فعل .. لا قدر الله ان يفعل ."
تنبه بان المحطات التي رآها كلها محطات عربية .. قطب جبينه و هتف كأنه اكتشف أمرا خطيرا :" هل أنت مجنون ؟ منذ ساعتين و أنت تنتقل من محطة عربية الى اخرى .. ماذا تقدم المحطات العربية غير الكوابيس بأثواب جميلة .. لا .. لا هيا .. تحول الى محطة أجنبية ". على المحطة الأجنبية برز وجه الرئيس الأمريكي .. بدا وجهه كوجه تمساح جائع يريد ان يلتهم كل شيء . و خرجت الكلمات من فمه .. أحس أنها طلقات رصاص : " هذا عمل إجرامي ويجب على رئيس السلطة ان يوقف العنف وقتل الضحايا و الأبرياء "
فتح دفتر يومياته و بدا يكتب ببطء و بعناية .. كان يشعر بالراحة حين يكتب بخط جميل : " كلينتون يقول ان الضحايا أبرياء و ان على عرفات ان يوقف العنف . قرأت إحصائية اليوم في إحدى الصحف ان عدد القتلى و الجرحى و عدد المشلولين و عدد المبتورة أعضاؤهم ..عدد الأطفال .. عدد الشيوخ .. عدد النساء من كل فئة .. عدد الأشجار التي اقتلعت و عدد البيوت التي دمرت و عدد الجنود المتواجدين في كل الاراضي و المدن المحتلة .. عدد الطلقات المستخدمة .. نوع الطلقات المستخدمة .. عدد الطائرات المشاركة في عمليات قصف على مدن و مخيمات يقطنها عرب في " المناطق".. عدد العمال الممنوع دخولهم .." توقف عن الكتابة و قال بتأمل :" ترى ما ذا تسمي هذه الأعمال يا فخامة الرئيس ؟ " فرك جبينه ثم تساءل : ما يحيرني هو كيف يستطيعون بسرعة ان يجدوا مسميات لأعمال الاخرين ؟ هل هناك مصنع أوصاف لديهم ؟ هل لدينا مصنع مثلهم ؟ فكر للحظة ثم هز رأسه و قال : " لا أظن ربما لأننا لا نكذب او ربما لأننا لا نعر ف بل ربما لأننا لا نهتم ." امام هذا التحليل شعر بالإعجاب بنفسه : "أظنني قادر ا على التحليل بعمق ".
و عاد الى الشاشة . وجد زوجة الرئيس بشعرها الأصفر القصير و وجها المستدير .. هزته البراءة في وجهها .. تمعن في وجهها برهة ثم تمتم : Baby Face . حسنا لنستمع لما تقول .. كانوا يسألونها عن الانفجار . لم يبد عليها التأثر .. وظلت الابتسامة عالقة على شفتيها و هي تتحدث .. قالت : "اعتقد ان العمل إرهابي و ان للإسرائيليين الحق في ان يردوا بالطريقة التي تعجبهم ." أحس بماء بارد يقذف في وجهه بغتة .
كتب و الحنق يخنقه : " و يسألون ضرة مونيكا .. متسولة أصوات اليهود في نيويورك .. لا ادري لم يسألون مثل هذه عن مثل ذلك ؟! "
رفع رأسه و نظر الى سقف غرفته والتصق نظره فيه لعله ينفذ الى البعيد وقال بعد تفكير : " لعلي ارسل لها رسالة عبر الإنترنت . سأعرف موقعها .. من السهل معرفة موقعها .. ومن موقعي سأرسل .. و لكن مهلا .. لا .. لن ارسل لها .. قد تتتبع مخابراتهم الرسالة و يوعزوا الى مخابراتنا و يسوء الحال معي .. يكفيني الشعور بالحنق . وعلي ان أتابع . لا يجب ان يفوتني أي مشهد على التلفاز كي لا يصعب علي نقل الصورة لأصدقائي غدا . سيظل إعجابهم بي كما كان دائما .. افضل من يتابع الأخبار ..!!"
وعاد الى الشاشة . تحول الى محطة إخبارية عربية . خبر عن منفذ العملية . الانتحاري غير معروف .. يعتقد انه جاء من دولة مجاورة .. قد تكون الاردن .
سارع الى الكتابة : "يا رب !لا ادري لم يصرون على تحطيمي و إثارة غيظي . يقولون انتحاري . انه ليس انتحاريا . انه استشهادي . استشهادي يا عالم . شهيد . أنا لا أستطيع ان ابتلع تلك الكلمة . الا يفهمون . هل ينتحر احد بهذه الطريقة الفظيـــعة . نطق الكلمة الأخيرة وقد زم شفتيه و كور انفه .. و لماذا يقتل آخرين معه ؟! لا انه استشهادي . أطن أنني سأكتب الى هذه المحطة . يجب ان أفهمهم ان من العار ان نلصق هذا الوصف بشهيد . ماذا تركنا للمحطات الأجنبية ؟ و لكن ماذا سيغير كتابي لهم من الأمر ؟ لن يتغير شيء . ماذا لو قالوا هذا موقفنا او قناعتنا ؟ او ربما اعتذروا لك و قالوا أملي عليهم املاءا كي لا يحذو احد حذو هذا الاستشهادي . انهم يخشون هذه الممارسات .. ألا تظن أنها يمكن ان تنتشر و يقتنع الشباب بها .. أنا شخصيا أتمنى ان افجر نفسي في اليهود .. حقيقة أتمنى .. أتمنى بقوة .. ولكني بعيد عن ارض المعركة ."
و عاد الى الشاشة .. المحطة نفسها .. و شاهد لقاءات و مقابلات عديدة .. أسئلة عديدة و كلام يتكرر ، هتف بملل : "كلام .. كلام ممل و مكرر .. دائما الحكام العرب .. أمريكا .. كلام و لكني لا أجد فعلا ". التمعت عبارة في ذهنه فسارع الى دفتر يومياته ليكتبها قبل ان "تطير "من رأسه و ينساها و كتب :" كلام كثير و لكن الفعل قسم سقط من أقسام الكلام ". قرا العبارة مرة و اثنتين و ثلاث . و فرك كفيه بحبور و قال مبتسما : "أحيانا احسد نفسي على هذه العبارات العميقة القوية " . عاد الى الشاشة .. لا زالت الأسئلة تتوالى .. كلها كان مركزا على رد الفعل المتوقع من جانب اليهود و ضخامة هذا الرد و حدته و سطوته و جبروته و رعبه و قسوته .. هل يدمرون .. هل يذبحون .. هل يشنون حربا على الدول المجاورة .. الله اكبر ! كيف حدث هذا ؟ وعاد للمتابعة و قد بدا يشعر ببعض القلق . مقابلة مع امرأة تحمل صليبا على صدرها . تذكر انه رآها كثيرا في اكثر من مقابلة . و كان دائما يتابع ما تقول باهتمام . كانت تقول :" أظن ان هذه الأعمال تندرج في إطار المقاومة الا أنها غير محسوبة النتائج . أظن ان هناك طرحا بديلا يمكن نصل فيه الى ما نريد .. المشكلة ان الإسرائيليين كسبوا من وراء هذه العملية ولو فعلوا أي شيء فلن يلومهم احد . " استمع إليها وقد فاجأه رأيها فاندفع كالملدوغ الى دفتر يومياته و كتب : مخدر الواقعية يسري .. ينتشر .. يقبض على الدماغ .. يدوخه .. . الجهاد و الإيمان . العقيدة .. اين هي ؟ في أي تابوت و ضعوها ؟ آه كم أود ان اكتب لها ان هذه الأعمال هي التي تشعرهم أننا لم نمت و لم نرفع المناديل البيضاء على العصي بعد و ان الأرض تحترق من تحتهم . ولكن المشكلة ان مثل هذه المرأة كثيرون . فلمن تكتب و لمن لا تكتب ؟! "
و عاد الى الشاشة و قد بدا يحس بالتعب و الإعياء و النعاس و اخذ يتحول من محطة الى اخرى . كانت الأخبار تتكرر و لم يعد هناك من شيء جديد. و أحس بالجوع . قال في نفسه :" إنني جائع جدا .. لم لا .. لقد بذلت جهدا ذهنيا كبيرا هذه الليلة ! " أخفى يومياته بحرص تحت المكتب و وضع فوقها بعض الجرائد القديمة و أعاد المكتب فوقها و تمتم : " الحرص واجب " و ذهب و أيقظ زوجته و طلب إليها ان تعد له طعاما .. فقامت تترنح منكوشة الشعر برمة و ألقت أمامه رغيف خبز و طبق صغير عليه جبن ابيض و بضع حبات من الزيتون . قالت : ها هو الطعام . جبن و زيتون .. زيتون اسود! و تمتمت و هي عائدة الى الفراش : "مثل عيشتي . " صرخ ماذا قلت . قالت و التكشيرة لازالت عالقة على وجهها . :" لا شيء ." تأملها و هي تترنح نعسا .قال و على وجهه ابتسامة سمسار : اسمعي .هيئي نفسك " قالت و هي تستند الى الباب :" لماذا ؟ " قال بغيظ : لماذا ؟!! أنت تعرفين لماذا ." و أنهى طعامه و اندس في الفراش . و مرت خمس دقائق . ابتعد لاهثا . أدارت ظهرها و هي تقول : حسبت ان طول جلوسك امام التلفزيون قد غير شيئا ." انكفأ على وجهه و هو يحس بان كيانه تغلف في عجز مطلق .