ملعون الوالدين
فدوى محمد سالم جاموس
لا يدري بالضبط سرّ هذه التسمية، أو هذه الصفة التي لصقت يه منذ صغره.. كل من حوله يصفه بأنه (ملعون والدين).. والأطفال كانوا ينادونه بها حين كان صغيراً.
وحين صار شاباً ظل الناس ينادونه بهذا الاسم، ويصفونه به، حاضراً وغائباً: تعال يا ملعون الوالدين.. افعل كذا يا ملعون الوالدين.. سافر ملعون الوالدين.. نام ملعون الوالدين...
إنه يعرف اسمه جيداً: عمر بن مصطفى المحمودي، وأمه اسمها خديجة بنت عوض الحسّاني.. فمن أين جاءت هذه الصفة، التي صارت اسماً ثابتاً له، بديلاً عن اسمه الحقيقي!؟ سأل أباه مرة عن سبب هذه التسمية، فنظر إليه نظرة لوم وعتاب، وقال له بفتور: وهل تظنّ أن ثمّة سبباً غير شقاوتك وسوء معاملتك للناس؟ لقد عشت مع والدتك دهراً بين الناس، ولم نحظَ منهم بغير الاحترام والتبجيل.. وها أنت ذا تسبب لنا لعنة دائمة تتردد على ألسنة البشر من حولنا صباح مساء.. هداك الله.
تذكر هذا الحوار الذي دار بينه وبين أبيه، حين كان غلاماً يافعاً.. وتذكر ما قالته له أمه ذات يوم: يا بني.. ارحم نفسك قبل أن ترحمنا.. فأنا وأبوك ماضيان إلى رحمة ربنا.. لا ندري متى سنموت، اليوم، أو غداً، أو بعد غد.. ولن يصيبنا من كلام الناس شيء.. أما أنت فما تزال في مقتبل عمرك، وستظل تسمع إهانتك أينما توجهت، تتردد على ألسنة الناس، وستنتقل هذه الصفة إلى أولادك من بعدك، إذ يقول عنهم الناس: هؤلاء أولاد ملعون الوالدين.. وسيظل هؤلاء المساكين يحملون إهانة لا يدلهم فيها، وكل ذنبهم أنهم أبناؤك.. فمن سيزوج ابنته لواحد من أبنائك، ليعيره الناس بأنه زوج ابنته لابن من أبناء ملعون الوالدين؟ ومن سيتزوج من بناتك وهن يحملن صفة لبنات ملعون الوالدين؟ فإذا لم ترحمنا، وترحم نفسك، فارحم أبناءك وأحفادك وأحفاد أحفادك..
تذكر حديث أمه هذا بعدما تذكر كلمات والده.. وزفر زفرة حرى.. وأطرق لقد رحل والده إلى العالم الآخر. وهو الآن في الثلاثين من عمره.. لم يتزوج بعد.. ولا يجرؤ على خطبة أية فتاة، مهما كان مستواها الاجتماعي متواضعاً، مخافة أن يردّه الناس خائباً، وهم يتهامسون فيما بينهم: "لم يبق علينا إلا أن نزوج ابنتنا لملعون الوالدين، لننفضح بين الناس".
قرر أن يفعل شيئاً.. إن الصفة التي لازمته، إنما كانت بسبب شقاوته.. ولقد ترك الشقاوة منذ زمن طويل.. من بداية شبابه.. ربما كان خمس عشرة سنة، أو ستّ عشرة.. حين اعتدل سلوكه واستقام خلقه، وحسن طبعه، فما حقّ الناس في مناداته بهذه الصفة؟ كان حق الشتيمة مرتبطاً بالأذى الذي كان يسببه لهم، وقد زال الأذى، فلمَ تبقى الشتيمة حقاً للناس يمارسونه ضدّه حيثما حلّ!؟.
لا بّد من فعل شيء..
كان ماراً في أحد شوارع بلدته ذات يوم، فناداه أحد أصحاب المحلات الذين يعرفونه: هيه.. يا ملعون الوالدين.. تعال إليّ.. إن لي معك حديثاً.. اهتز بدنه، وفار الدم في وجهه، واقبل على الرجل محنقاً، وهو يصرخ في وجهه: أنت ملعون الوالدين، والجدّين، والعشيرة كلها يا كلب يا ابن الكلب.. نظر إليه الرجل، فرأى الغضب يتلامح في معالم وجهه كلها، فخاف على نفسه، فأمسك بعصا كانت في يده، ولوّح بها في وجه عمر، الذي ظنه سيضربه، فلطمه عمر لطمة أوقعته على الأرض، فقام الرجل وأهوى بالعصا على رأس عمر، فشجّه، فهجم عليه وضربه ضرباً قوياً، وسالت الدماء من جسمه كله، وانصرف عنه.
وحين أسرع الناس إلى الرجل لإنقاذه، كان قد فارق الحياة..
وفي المحكمة سأل القاضي المتهم عمر:
- لم قتلت الرجل يا عمر؟
- قال عمر: دفاعاً عن النفس يا سيدي القاضي.
- قال القاضي: ولكنت بدأت بالهجوم عليه.
- قال عمر: لقد رفع العصا ليضربني بها قبل أن أضربه. وحين رأيته سيضربني، صفعته دفاعاً عن نفسي، وحين قام فأهوى علي بالعصا، وكاد يحطم رأسي، ضربته وأنا منفعل. إنها مشاجرة عادّية يا سيدي.. وقد وقع قدر الله.
- قال القاضي: وما سبب شتمك له في البداية.
- قال عمر: بل هو الذي شتمني حين ناداني باسم ملعون الوالدين.
- قال القاضي: ولكنها صفة لازمتك طويلاً واعتاد الناس عليها، ولم يعرف أحد من قبل أنها صفة تغيظك وتدفعك إلى العنف.
- قال عمر: لقد قررت أن أغير عادة الناس فيما يتعلق باسمي وباسم أبي وأمي يا سيدي القاضي. ودعني أسأل سيادتك: لو ناداك أحد باسم ملعون الوالدين، ماذا تفعل به؟
- قال القاضي: أحبسه.
- قال عمر: أما أنا فليس لدي حبس، فهل تضمن لي أن تحبس كل من يلعن والديّ؟
- قال القاضي متردداً: لا أضمن لك ذلك فصفتك هذه صارت لقباً ملازماً ولو حبست كل من يصفك بها، لاضطررت إلى حبس أهل بلدتك جميعاً.
- قال عمر: حسن.. لك طريقتك ولي طريقتي، وكل منهما عقوبة ودفاع فليدافع كل منا عن والديه في حدوده ما يملك من قوة أو سلطة.
- قال القاضي: فلو ناداك أحد الآن بهذه الصفة، فماذا تفعل؟
- قال عمر: افعل ما فعلته بصاحب الحانوت.
- قال القاضي مملياً على كاتبه: قررت المحكمة سجن السيد عمر بن مصطفى المحمودي، والدته خديجة، والملقب.. الملقب بملـ...
صرخ في وجهه عمر قائلاً: احذر أيها القاضي.. وتقدم عمر من المنصة غاضباً..
أتم القاضي نص الحكم: الملقب، بمرحوم الوالدين..
بسجنه ستّة أشهر لتسببه في وفاة الحانوتي "مسعود" وتخفيف العقوبة إلى ثلاثة أشهر، لأن المتهم كان في حالة دفاع عن النفس.
وبوقف تنفيذ العقوبة لأن المتهم كان يدافع عن كرامة والديه..
صاح عدد من الرجال في المحكمة مهنئين عمر: تهانينا لك يا عمر يا مرحوم الوالدين.