الأشباح
الأشباح
قصة: فاضل السباعي
"وراجت الشائعات بأنّ بعضهم شاهد، على مقربة من جسر كالينكين، شبحاً –هو "أكاكي أكاكيافتش"- جعل يظهر ليلاً باحثاً عن معطفه المسروق، وينزع المعاطف عن أكتاف الرائحين والغادين".
رفع عن الكتاب عينيه، وقد تراءى له أن يبوح لشريكة حياته:
"بات يساورني اعتقاد، يا زوجتي العزيزة، بأني أمتلك قوة خارقة تجعلني قادراً على أن أجلد أولئك الذين قد يسوقهم قدري إلى جلدي وتعذيبي!"
ارتسمت على المحيّا الوديع بسمة ارتياب:
"ما الكتاب الذي تقرأ، الليلة، يا حبيبي؟"
تشاغل عن الإجابة. وقبل أن يتابع التعبير عما نجم في عقله وهو يستعيد قراءة هذه الرواية، كانت زوجته قد التقطت بناظريها عنوان الكتاب:
"المعطف"! ألم تقرأه في مثل هذه الأيام من العام الماضي؟"
- وأستطيع أن أضربهم ضرباً مبرّحاً يُفضي بهم إلى الموت!
- لماذا تتكلم على هذا النحو؟!
- ولكن.. من المؤسف، يا عزيزتي، أنّ ذلك لا يتحقق لي إلا إذا استحلت إلى روح شاردة تتعذّر معها عودتي إلى الحياة!!!
وعند الفجر، طُرق باب البيت. هبّت زوجته من رقادها، وسبقته إلى الباب. مدّت بصرها عبر "العين"، وعادت لتهمس في أذنه:
"إنهم هم.. جاءوا مدجّجين!"
قال لها:
"اعتني بالصغار"
وإلى الأسر مضى.
- أنتَ قلتَ!
- لم أقل.
- أنتَ فعلتَ!
- لم أفعل.
- أنتَ تفرّجتَ صفّقت، هتفتَ..
- ..! .. ! .. !
- أنتَ كتمتَ معلومات، وتستّرت على مطلوبين!
- .. ! ... ! ... !
_ أنتَ تآمرتَ!!
من أعماق أعماقه صرخ:
"بريء! بريء! إني بريء من كلّ ما تدّعون!"
- كفَّ عن عنادك واعترف بالحقيقة: كيف تواطأت مع الأعداء؟
- كلّ ما هناك، أيها السادة، أني متجاوب مع المواطنين، أشاركهم مشاعرهم وأومن بما يؤمنون.
- هأنتذا تعترف!
- إن كان هذا منّي اعترافاً، فلستُ أنفيه!
- وضّح لنا: ما يحمل الناس على الهِياج؟
- إنها معادلة بسيطة.
- اشرحها..
- المارد يُحشر في قمقم. سيارات فارهة، عمارات باذخة، نساء، وجاهات، قلة على كثرة، والحرية منحة من السلطان، قابلة للاسترجاع في كل لحظة من نهار أو ليل. اختلال، وتنطلق الفلينة من فوّهة القمقم. قمع، وإسقاط عيوب، ثم مزيد من القمع والسحق، فإنّ الحياة، هي أيضاً، مما يمنح السلطان.. تلك هي المعادلة، باختصار، أيها السادة العادلون!!
- بالألغاز نراكَ تتكلم!
- حين تمسي بدائه الأمور ألغازاً، تتعاظم دواعي التغيير.
- إن لم تكفَّ عن الجمجمة وتتكلم بوضوح، وضعناك في "الدولاب" اعترف: ما حدود العلاقة بينك وبين الأعداء؟
- أراكم في حواركم معي، بما في رؤوسكم، تريدونني أن "أعترف"!
وانتصب أمامه دولاب سيارة.
- سنقعدك فيه، ثم نذرع بك المكان!
احتلّت وجهه بسمة عريضة:
- جولة ممتعة، في هذا الجو الشاعري، أيها العادلون! ولكن الدولاب لا يستوعبني!
- لا عليك. نحشرك فيه حشراً. وعندئذ، تعترف بكلّ ما يطلب منك.
لم تلامس قلبه ذرّة من خوف:
- حذار! إن شرعتم في تعذيبي فعلت مالا يخطر لكم على بال!
وما عساك تفعل؟
في قرارة نفسه، كانت تجيش تلك القوة الكامنة:
- أُهلك نفسي!
- كيف تهلكها، وأنت لا تملك سلاحاً ولا أداة، ويحيط بك عشرة منّا؟!
- أقطع تنفّسي!
وجموا لحظة، ثم رآهم يغمغمون:
"يقطع تنفّسه! يقول: يقطع تنفسه!! (وانطلقت قهقهاتهم) هيا افعل، لنرى كيف يخنق امرؤ نفسه على مرأى منّا، إن كنت تقدر!".
- إنْ فعلت ذلك، مات جسمي بين أيديكم وتحوّلت روحي إلى.. شبح.. يسومكم العذاب!
جرّحت قهقهاتهم أرجاء الزنزانة:
"مجنون! مجنون! إنه مجنون! هيا افعل ما تهددنا به، أيها الأبله!".
- زيدوا في تحدّيكم لي!
- خذ، أيها المجنون الظريف!
بعد اللكمة، التي استقرّت بين عينيه، دارت به الأرض.. دارت به السماء.. بَعُدَ.. طاف.. وشبحاً عاد إليهم، وفي يده هراوة أثيريّة.
رآهم يتفحّصون جسده، ترك أحدهم يده تسقط:
"مات!"
علَّق آخر:
"مات بأسرع مما كان يتصوّر!"
"بضربة واحدة مات".
"هشّ! ما كان يصمد أمام شيء"،
"مات المجنون مات"،
"ويتفلسف: قمقم، سيارات، فلّينات! ويسخر منا: "تلك هي المعادلة، أيها السادة العادلون!".
"وفّرنا عليه الجهد في إزهاق روحه!"
أحدهم أعلن:
"اذكروا وعيده بأنه عائد إليكم شبحاً!"
وقبل أن تجرح قهقهاتهم أرجاء الزنزانة، مرة ثانية، كانت الهراوة في يده، قد استقرّت بين عينين، انطرح لها صاحبهما أرضاً.
- مَن الضارب؟
- أنا !!
انعطفوا فوق صاحبهم، فعالجهم بالهراوة ينزلها على مؤخراتهم. هرج ومرج. ذعر. يحاولون اتّقاء ضربات غير مرئية تنهمر عليهم من كل صوب.
- مَن ذا الذي يغدر بنا؟
- أنا! أنا من يجلدكم، أيها الجلاّدون!
أدرك أنّ صوته، أيضاً، لا يسمعونه.
- خذوا، يا أولاد الـ... !
أعمل هراوته، الأثيرية، في الجباه، الأقفية، الجنوب، المؤخّرات، كيفما اتفق. ينطرحون تحته، يستغيثون. يتحاملون على أنفسهم، واقفين زاحفين، متلمّسين طريق النجاة.
بالمرصاد، وقف لهم على الباب، يسقيهم من الكؤوس التي طالما جرّعوا الناس من ثمالاتهم. آه، ما أمتع أن ينتقم المقهور من مضطهديه، أولئك الذين جفّت شرايين قلوبهم فعاد لا يسري فيها إلا التلذّذ بتعذيب الأبرياء والتفنّن في قتلهم!
لم يكلّ أو يملّ. حتى جعلهم، في الباب، كومة من وحوش جريحة عاوية. يئنون، ويستصرخون الضمائر طلباً للرحمة!!
حمل جسده على ذراعيه. اجتاز به الدهاليز والساحات. يشاهدون الجثمان معلّقاً أمام أبصارهم في الفضاء، وهو يتحرّك قدماً، فتتسع دوائر الدهشة في العيون البلهاء، وتنفسح الطرق. كل الأبواب أُشرعت لجثمانه.
وفي ركن من بيته، سجّاه،
زوجته ناحت:
"قتلوك، أخيراً، أيها المسكين! وأي أذى يمكنك أن تنزل بهم، أيها المقهور في وطن ليست الغلبة فيه إلا لذوي القبضات الفولاذية! واهاً، يا فقيدي الغالي!".
ولكني انتقمت لنفسي منهم! ليتك ترينهم وهم مكوّمون في باب الزنزانة يئنّونّ! وثقي أني قادر على أن أعيد الكرّة. كنت صادق الإحساس في ما أعلنت لكِ ليلة أمس.. ولكن، هل تسمعينني، يا أرملتي العزيزة؟
لا عين تبصره. وليس يسمعه حتى أقرب الناس إليه.
في بيته "يقيم" وبين أولاده وزوجته يسري. وبأمّ عينيه يشهد أحزان اليتم والترمّل والقهر.
إلى الغياهب المعتمة يمضي كل يوم، يعبر الدهاليز، ويتسلّل إلى الزنزانات. يشهد، يراقب، ويصغي إلى سيل الأسئلة الغبيّة.. حتى إذا شرعوا في ممارسة هوايتهم الوحشيّة، مارس هو الهواية التي أصبح لها ميسّراً.
اكتشف أنه ليس وحيداً في عالمه الفريد هذا. التقى بـ "أشباح" آخرين، يجوسون الغياهب، وفي أيديهم مثل ما في يده!
تعارفوا. تنظّموا. وتوزّعوا العمل. أمسوا لا يتخلّون عن أصدقائهم المأسورين. يمنعون عنهم. ما استطاعوا، أذى التعذيب: فكلما بوشر ضدّهم، أسرعوا هم يُعملون هراواتهم الأثيريّة.
ذات مساء، تناول ذلك الكتاب.
وعلى هامش تلك الصفحة، كتب،
وما لبثنا، نحن الأشباح المجنّدين لخدمة العدالة، أن خرجنا إلى الشوارع العريضة، نلاحق أولئك الجلادين الذين يغلظون في معاملة المأسورين، فننزل بهراواتنا على أمّ رؤوسهم. وفي الليل، نغشى بيوتهم ونقضّ مضاجعهم. تلك حقيقة واقعة، وليست من قبيل ما أشيع عن "أكاكي أكاكيافتش".. لقد أفلحنا في زرع الرعب في قلوبهم، مثلما نشروه هم في قلوب العباد. وسوف نظل نؤدي هذه المهمة.. ولكن، أليس على الأحياء أن يتحركوا..؟!
ووضع الكتاب في متناول زوجته والأولاد.