القرية الآمنة

ماجد رشيد العويّد

ماجد رشيد العويّد/ الرقة

لم يكن إبليس ليدع الناس وشأنهم ، بل لقد حلف أعقـد الأيمان ، ومنذ اليوم الأول لوجوده على الأرض ، على أن يُكره الناس في معيشتهم . وأخذ لتنفيذ هذا الأمر ، على نفسه ، العهـود والمواثيق . وليتحقق له ما عزم عليه هيّأ من الأسباب ما يحمله على إشاعة الرعب في صفوفهم وبدقة متناهية . لهذا لم تكن تفشل خططه ، على العكس فلقد ذهب في الدقة مذهباً لم يسبقـه إليـه ملاك أو بشر . وكل هذا يأتي في سياق الأيمان الغليظة التي قطعها على نفسه من أنه سيُذهِب عقل " بني آدم " وسيحمل إليه دواراً تعجز المصحات النفسية والعقلية عن مداواتـه . ولتحقيق البراعة المطلقة في إنجاز الخلخلة في العقل الآدمي ، تجـلّى في صور شتى ، في صورة مغريات لا تقاوم ، وعلى هيئة حشرات مقززة ، وعلى هيئة حيوانات مفترسة تسبب الذعر للآدمي الذي يلقاها في دربه ، على حين غرة وغفـلة .

أما مسكنه ففي جوف الأراضي السبع ، اتخذ منها مأوى له ، ولعفاريته ذوات القرون ، وتلك التي تظهر أقدامها كأقدام الماعز . على أنه يجب ألا ننسى أن إبليس ومَن وراءه من الجن الكافر إنما يسكن الأراضي الخربة ، والبيوت المهجورة عند ظهوره إلى سطح الأرض خارجاً من جوفها . وعبر موجات شيطانية يأتيه الخبر اليقين وهو تحت الأرض في قصره يحيطه حرس هائل من الجن الآبق الذي لم ينطق يوماً بشهادة ، ويأبى أن ينطق بها برغم يقينه من أن ناراً بالانتظار ، وجحيماً لا يطاق سيتناول أول ما يتناول القرون ، وأقدام الماعز وكل " الظهورات " الشيطانية الأخرى . وإذا ما أراد الظهور لعدوه الإنسي فعبر خبر في صحيفـة ، أو عبر إعـلان " تلفزيوني " . وإذا شعر بالأرض تهتز من تحت قدميه ، فإنه يسارع إلى إقامة الدنيا ولا يقعدها ببث خبر تتناقلـه الصحف ، فتقوم قائمة الشر ويدخل الناس شعاب التيه ، ويجـرّهم كأنهم النعـاج إلى السجون ، ومن ثم إلى المسالخ ...

ولما كان له موعداً مع الموت ، فقد قرر أن يوقع أكبر قدر ممكن من الخسائر طالما أن جهنم بالمرصاد . وبحكم طبيعته النارية فإنه يحن إلى حرق الناس والتهامهم مشبعاً بهذا غريزته لتظل الجذوة متقدة . وحتى لا يغطيها الرماد ويخنقها فتنطفئ ، نراه يغذي عروقها بلحم آدمي لرائحة شوائه إغراء يتغلغل في مساماته ، ولهذا الإغراء سحر لا يملك أن يمنع نفسه عنه .

من هذا أن إبليس قرر ذات يوم القيام بجولة فاستنفر عفاريته التي طارت في كل اتجاه تشمم له الأخبار ، فيأتيه منها الكثير ، ومن ضمن ما جاءه أن قرية آمنة استقرت على الضفة الأخرى للنهر ، تعيش حياتها بأمن وسلام . استفزه هذا الواقع فخرج يقود ولده ليتدرب على فن الحيلة والتدمير ، وفي طريقهما إلى هدفهما  مرّا بقرية ضعيفة مسالمة على حدود تلك التي يقصدونها . كان إبليس يمشي مشياً أقرب إلى السرعة منه إلى البطء . عند سفحها رأيا خيمة عبرها إبليس ، وتوقف عندها ولده الذي راح ينظر ما بداخلها ، فأبصر امرأة أمامها قدرٌ مملوء بالحليب . كانت الخيمة مشدودة إلى أعمدة تثبّتها ، وكان في أحد طرفيها " سكة " . كان المشهد على تواضعه قد أخذ بلب الولد الذي رأى لحظتها أن يمارس رياضة العبث ، فخلع السكة وبخلعه لها مالت الخيمة ، وبميلانها سقط طرفها على قدْر الحليب فاندلق على الأرض . صاحت المرأة حزناً وجزعاً وغضباً ، وعلى صوتها حضر زوجها مذعوراً ملهوفاً ، وما أن رأى الحليب يسيل على الأرض حتى حمل على زوجته تقريعـاً وضرباً . بعد حين التمّ شمل القرية على الصياح والهياج ، وبينما هم يتساءلون عن الأسباب التي دفعت الزوج إلى ضرب زوجته كانت هذه قد فارقت الحياة .

فرّ الولد الصغير هارباً مثيراً زوبعة من الغبار ، ومن بعيد سأله أبوه : ماذا فعلت يا ولد ؟ أجابه : لا شيء يا أبي فقط خلعت السكة .

***

على يمين إبليس وولده وشمالهما ، ومن أمامهما وخلفهما سارت العفاريت مدعومة بالعفاريت الطيارة ، والمائية .

صحت القرية من نومها مذعورة لا تصدق ما جرى لها من حرق وتدمير . كانت الأشعة المرسلة من عيون العفاريت ، كافية لإحالة القرية الوادعة إلى شيء مائع ، سائل ، سخّنته أشعة الشمس فاحترقت به الأرض . آنذاك ، والقرية سائل ساخن ، بثّ إبليس أوامره بحرقها وتدميرها .

أمام هذه الهجمة الشيطانية ، والتي تستمد زادها من تاريخ قديم مغرق في العصيان لأوامر النهي السماوية ، ومدمّر لكل حالة إنسانية ، انطلـق شاب يمور بالانفعال ، ويجيش بالعاطفة ، أخذ على عاتقه أنه سيقتل الجن جميعاً وبخاصة المدعو (( حمروش )) بأن يسلّط على ما بين عينيه صاروخاً فيقتله ، وبقتله يطعن إبليس في خاصرته ، ويخلّص قريته الآمنـة من شرّه الآبق ، ويفك أسر حبيبته .

انطلق الشاب من فوره إلى أحد التلال ، وهناك قضى الأيام والشهور يتدرب على الرماية ، وفنون القتال الأخرى حتى تحول نتيجة التدريب الشاق إلى ما يشبه العمود ضعفاً ونحولاً ، ولكن مع صلابة بدت أقسى من الفولاذ ، وذلك لأنه سيواجه خصماً عتيداً يستمد قوته من كنز الشر الذي يتربع عليه جـده الأكبر إبليس . ولقد عُرف عن " حمروش " أنه وبضربة واحدة يدمر البيت ، وبخبطة رجل يحفر الأرض ، ولذا فقد كان على الشاب أن يهيئ جسمه للدخول في معركة عنيفة لن تكون على الغالب متكافئة ، ولن تكون النتائج في صالحه إذا لم يعد العدة الحقيقية لتلك المعركة الفاصلة . وليمتلك اليقين بالنصر المؤزر ، ويحرر فتاته ، كان عليه أن يتسلّح بسلاح آخر يحوّل به ضعفه البشري إلى قوة تسمح له باختراق الجني الآبق ، ويقهر من خلاله الجد الأكبر له ، والمتربع على عرش النار منذ أن بُسطت البسيطة ، وكان هذا السلاح إيماناً مطلقاً بجدوى حبه لفتاته ، هذا الحب الذي أشعل في داخله جذوة الإيمان ، لتتحول بشريّته الفانية إلى قوة فيها من السحر ما يخرج إبليس بذاته عن طوره . إلى جانب هذه الأسلحة كان لابد له من المكر ، فأنجال الشيطان الأكبر لن ينفع معهم الصدق بل المكر الشديد . ولهذا فلقد اتفق الشاب مع أبناء قريته على إقامة الكمائن . فحمروش الخارج من كهفه ، يأكل كل يوم فرداً من الأهالي ، ويكثر من أكل الإناث ، كأنما رغبة منه في إنهاء القرية عن طريق منع النسل فيها فيما لو فكر أن يتركها وشأنها ويرحل .

أول الكمائن كان تدمير الجسر القائم على الفرات لتعطيل حركته ، فيصبح عبوره النهر صعباً إن لم يكن مستحيلاً ، وإلى أن تأتيه الإمدادات من العفاريت الطيارة ، والمائية ، يتمكن أهالي القرية من الفرار إلى الجبال ، والاختباء في الكهوف مع بقاء بعض الشباب يدبرون الحيلة للقضاء على الجن الذي يعيث في القرية فساداً .

تم تدمير الجسر وتعطّلت الحركة بين القريـة ، وقرى أخرى . وكان لابد من هذا الإجراء لتعطيل حركة الجني المفسد حمروش ، الذي انطلقت في الليلة الثانية صرخته تشق الفضاء وترج الأرض ، وتحيلها إلى خراب ودمار .

تهيّأ الفتية للمعركة المنتظرة معه ، هو الذي كاد أن يخترق السحاب طولاً . كانت عزيمة الفتية لا تقهر ، وكانوا يضعون نصب أعينهم أنهم ميتون ، وأنهم ما داموا كذلك فليموتوا ميتة لائقة ، ميتة مشرّفة تذكرها صحف التاريخ ، وتجعل منها القرية شعاراً يتغنون به في أيامهم .

أما الفتاة الأسيرة فقد خضعت لحمروش خائفة مرعوبة ، ولعله ليس غريباً أن هذا الأخير لم يأكلها إلى الآن ، فهو على ما يبدو قد أحبها ، وقرر الاحتفاظ بها والزواج منها بعد أن يقضي على قريتها القضاء المبرم ويضرب بهذا عصفورين بحجر واحد عند الجد الأكبر في أنه أولاً أشاع الفساد والدمار ، وثانياً أن يحمل الجد الأكبر على مباركة زواجه من هذه الإنسية السمراء .

كان الجسر قد تهدم ، وعند طرفه الشمالي وقف حمروش يزمجر ويرعد ، وينفث من فمه ناراً أتت في طريقها على الأخضر واليابس . تقدم يضرب الماء برجليه العملاقتين . أثناء ذلك كان الفتية قد استقروا في مكمن آمن ، وفي حوزتهم سائل أسود مضغوط في زجاجة ينفجر عن بعد بلمسة زر . كانوا ينتظرون عبوره المياه إليهم ، وبمجرد أن يضع رجليه على اليابسة يقومون بالضغط على الزر فيتحـول الجني إلى قطع متناثرة .

أهل القرية أتموا الصعود إلى الجبال المحيطة ، الملجأ الآمن لهم من قذائف اللهب النارية التي تخرج من فم حمروش الضال .

عند وصوله إلى اليابسة قذفه الفتية بالزجاجة ، وما أن استقرت هذه تحت رجليه حتى ضغط أحدهم على الزر فانفجرت ، وسُمع صوت انفجارها . إلا أنه ومن هول الصدمة نفض يديه بقوة هائلة فطارت منه النار في كل اتجاه، تحرق البيوت والشجر وتغسل الشوارع بالهباب .

كان صوته كافياً لإحالة المنازل إلى دمار ، وإلى بث الرعب في الناس وهم على سفوح الجبال ، وفي الكهوف ، فبكت النسوة والأطفال وارتجف الشيوخ .

الفتية وبالقياس إلى حمروش كانوا أقزاماً تفر من مواقع قدميه ، ولسوء حظ أحدهم فقد وقع تحت قدمه فخرجت أمعاؤه من دبره ، وسوّيت جمجمته بالتراب .

البقية لجؤوا مع قائدهم الشاب إلى ركن ناء قريب من الميـاه ، ربما لا تطاله يد العفريت ، أو هكذا اعتقدوا ومن هناك أخذوا يدبّرون التدبير ، ويعدون العدة لهجمة أخرى .                  

***

من أعلى بدت القرية أرضاً محروقة ، قذفتها العفاريت بالحمم ، فأحالتها إلى حكايات على أفواه الجدات ينقلنها للأجيال اللاحقة في صورة من الرعشة ، فيقف شعر الرأس وجلاً وربما رعباً عند كل حكاية . من الحكايات أن العفاريت أخذت تنط من كل مكان وتستقر بأبدانها الضخمة على جثامين الشباب والرجال فتقتلهم في القرية التي تم احتلالها ، وعلى عرشها جلس إبليس آمراً ناهياً ، ومن حوله أنجاله الذين تدربوا على فن المكر .

الصحف نشرت صوراً لإبليس وهو يدخل القرية محاطاً بعفاريته البرية جاعلاً من أعزة أهلها أذلة . ونقلت الصحف أيضاً أن قرون العفاريت تحولت إلى رماح اخترقت الصدور ، وأن على وجوه الأهالي ارتسم القهر جلياً ...

قال الشاب :

ـ لم نستطع قتله ولكننا عطلناه ، وأمنّا شرّه .

ورد فتى آخر

ـ ما هي الخطوة التالية ؟

ورد ثالث :

ـ نتخلل صفوفهم ونزرع الرعب في نفوسهم

وقال الشاب :

ـ هذا ما سيكون .

وتوالت التفجيرات ، وجن إبليس وجنوده ، ولم تنعم القرية بليلة هدوء واحدة .

على أثر توالي الأحداث ، فرّ إبليس إلى مأواه في جوف الأرض . ومما زاد في خوفه أن الصحف تنشر وبشكل يومي أخبار المعارك وتبين عدد الضحايا من الجانبين ، كذلك أخافته بعض التصريحات التي نالت من شخصه . ولتفريغ خوفه هذا أمر بزيادة كمية التفجير مما دفع بالأهالي إلى الفرار في الليل والنهار من مكان إلى آخر .

أما الأسيرة وبالحيلة استطاعت الفرار من قبضة حمروش بعد أن أصابه المتفجر فأعطبه . وفي ظلمة الليل تمكنت من لقاء حبيبها في كوخ على هضبة مطلة على المياه . قالت له :

ـ لقد تمكنتم منه . اطمئن إنه الآن لا يقوى على الحركة إلا بصعوبة .

ـ ولكن ما يزال أمامنا عمل كثير . صمت قليلاً ثم تابع :

ـ يجب أن تختبئي .

ـ أين ؟

ـ سأوصلك إلى إحدى القرى المجاورة .

ـ وأنت ، ماذا ستفعل ؟

ـ سأتدبر أمري .

ـ ولماذا لا تذهب معي ؟

ـ لا أستطيع ذلك قبل أن أقتله .

ـ ولكنك لا تستطيع عليه .

ـ يكفيني أن أقوم بما يمليه علي واجبي . ثم ألم تقولي إنه لا يقوى على الحركة إلا بصعوبة ؟

ـ نعم ولكنه وحش رهيب ، تحيط به العفاريت من كل جانب .

ـ لا يهم ، لا يهم .

وناما ليلتهما هانئين ، سعيدين . عند الصبح سمعا حركة وجلبة . نظرا من النافذة فإذا العفاريت تحيط بالبيت من كل جانب . قبل أن يتمكنا من تسوية أمرهما دخل العفاريت الكوخ مدججين بالقرون التي كأنها رماح مخترقين بها صدره الذي راح ينزف دماً ، أما هي فقد اقتيدت أسيرة إلى حمروش المعطوب .